وليد غلمية : مثلث بغداد , حلب , بيروت , هو الركيزة الأساسية للموسيقى الشرقية


أيام قليلة وتحتفل “الأوركسترا السمفونية الوطنية اللبنانية” باتمامها عشر سنوات من عمرها، لتبدأ مرحلة جديدة أكثر نضجاً وانتشاراً، ويفوق عديدها المائة عازف يتحول اسمها الى “الأوركسترا الفيلهارمونية اللبنانية”، ما يعني أيضاً بدء مرحلة التحدي ومنافسة فرق معتقة، سبقتها الى مسارح العالم بسنوات طويلة، لكنها بلا شك سوف تكتب عنواناً آخر للبنان عبر الإبداع الموسيقي الذي يمثل مدى رغبة المجتمع والدولة معاً في الحياة وتخطي الصعوبات من أجل أن تكون لديه على غرار الدول المتقدمة “أوركسترا فيلهارمونية” يعلو اسمه من خلالها وليس عبر عناوين الحرب أو السياحة والطبيعة والمطاعم فحسب.
المايسترو وليد غلمية عاشق باخ والفلكلور العربي، أسس لحالة موسيقية جديدة في لبنان، منذ تسلم رئاسة الكونسرفتوار، ومنذ تأسيسه الفرقتين السمفونية والشرقية التابعتين له وحيث ينتظر الجمهور مواعيدهما ويتقاطر الى عروضهما بشغف ومن شرائح عدة ومن الشباب خاصة، إضافة الى بروز دماء جديدة في عالم التأليف الموسيقي بين صفوف عازفي الفرقتين.
هنا حوار متشعب الجوانب مع المايسترو وليد غلمية الذي منح في الآونة الأخيرة الوسام المذهب من رئيس جمهورية النمسا، قلدته إياه سفيرة النمسا في لبنان.
[ في مثل هذه الأيام قبل عشر سنوات تأسست الأوركسترا السيمفونية الوطنية اللبناينة، ما هي التوجهات أو الطموحات من أجل مستقبل الأوركسترا واستمراريتها وقد بدأ العالم الغربي يلتفت إليها لتقديم عروضها في بعض الدول، هل آن أوان عبور الأوركسترا السمفونية حدود الوطن الى العالم لكي تأخذ مكانها الطبيعي بين أوركسترات سيمفونية سبقتها بسنوات، ولماذا لم تقدم عروضها بعد في العالم العربي؟؟
_ اليوم تخطو الأوركسترا السمفونية خطوات جادة بعد عشر سنوات من تأسيسها، إذ اتخذت قراراً وتمت الموافقة عليه لتصبح “الأوركسترا الفيلهارمونية اللبنانية” بداية العام 2010 وعدد أعضائها 112 عازفاً يؤهلها لتصبح أوركسترا فيلهارمونية.
وأول حفل في الثاني والعشرين من كانون الأول في لبنان ستحمل منشوراتها اسم “الأوركسترا الفلهارمونية اللبنانية”. وبالفعل كما أسلفتِ فقد آن الأوان لتتخطى حدود الوطن رغم أن الإمكانات المادية غير متوافرة حالياً إذ يتطلب الأمر ميزانية كبيرة، ومن ناحية ثانية يبدو أن ليس في نية الدولة تحمل أعباء الأوركسترا ورفع اسم لبنان كدولة عبر أوركستراها السمفونية، وللتذكير فقط فإن إسرائيل أسست أوركسترا سيمفونية عام 1936 أي قبل تأسيس دولتها، علماً بأن الأوركسترا اللبنانية أصبحت بمثابة وزارة للخارجية اللبنانية لأننا تفاعلنا وتعاطينا مع كل سفارات العالم وللأوركسترا علاقات مع كل البلدان العربية والغربية. وتعتبر كأي أوركسترا أوروبية جيدة رغم صغر عمرها، وهذا بشهادة أبرز قواد الأوركسترا الذين قادوها لسنوات وآخرهم المايسترو الايطالي ماركو غيداريني الذي قاد الأوركسترا في أمسية عيد الاستقلال في السرايا الحكومية، حيث أبدى إعجابه ووصفها بأنها مطواعة واعتقد أن هذه دعاية هامة للبنان الذي بات حاضراً على الخارطة الدولية من باب آخر، غير السياسة والمشاكل والحروب، بل موجوداً على الأجندة الثقافية الموسيقية في العالم.
من هنا أتمنى على الدولة أن يكون عندها النية والخطط لكي تبعث الأوركسترا الفلهارمونية اللبنانية في جولات الى مسارح العالم في إطار التبادلات الثقافية وبخاصة في بلاد الاغتراب كي يفخر اللبناني بأصوله.
وفي البلاد العربية أيضاً المعاناة نفسها التي نعانيها وهي عدم تخصيص ميزانيات لهذا نوع من العروض فالتبادل بيننا وبينهم عبر الأوركسترات يحتاج الى دعم مالي من الدولة.
وفي الآونة الأخيرة تلقينا رسالة من بيتر تيبوريس المدير العام للبرامج والإنتاج في مسرح “كارنغي هول” في نيويورك، وفيها دعوة لاستضافة الأوركسترا على المسرح لثلاث أمسيات في 29 و30 و31 أيار 2010.
وجاء في رسالة تيبوريس، قال: “وصلني من قائدة الأوركسترا جوانا مدور ناشف قرصاً مدمجاً، فيه أمسية كاملة للأوركسترا السمفونية الوطنية اللبنانية. وبعد مشاهدتي إياه يسعدني أن أهنئك على أداء هذه الأوركسترا الرائعة، فأعضاؤها عزفوا بقيادتك في دقة موسيقية وشغف فني وحرارة أدائية وذكاء تعبيري. وإنني مغتبط جداً بقيادتك هذه الأوركسترا، والتأني في تفاصيل الأداء، وخصوصاً في أعمال شوبرت. إن أعضاء الأوركسترا محظوظون بأن تكون أنت قائدهم، لذلك، يسعدني ويشرفني أن أستضيف الأوركسترا السمفونية الوطنية اللبنانية على “مسرح كارنغي هول”…
لكن، يستطرد غلمية: للأسف كان في التفاوض جهة ثانية، لبنانية أميركية، بدا كأنها تسعى لتحصد انتصاراً وسمعة لها في هذا الموضوع، لذلك كان لي موقف صارم ورفضت الأمر كلياً، لأني أردت أن يكون الانتصار للأوركسترا اللبنانية وليس لأحد أو لجهة معينة.
وسام الشرف النمسوي
[ وسام الشرف المذهب منحتك إياه النمسا، بلد المؤلفين الموسيقيين العمالقة، ما خلفية هذا التكريم؟ ومعناه بالنسبة لك، وهل يكفي أم تطمح الى اعتراف وتكريمات أخرى على الصعيد المحلي والدولي؟
_ فوجئت بالتكريم حين أبلغتني سفيرة النمسا في لبنان الدكتورة ايفا ماريا زيغلر أن رئيس جمهورية النمسا سوف يكرمني بالوسام المذهب، رفيع المستوى، وهذا طبيعي برأيي نتيجة تعاوننا المستمر مع السفارات والملحقيات الموجودة في لبنان حيث استضفنا العديد من الموسيقيين وقواد الأوركسترا وبخاصة مع السفير النمساوي السابق الذي طرح علي قبل سنوات أن نتبع تقليداً في لبنان كما يحدث في النمسا حيث تقيم الأوركسترا أمسية لمناسبة أعياد رأس السنة يقدمون فيها فالسات شتراوس وموسيقى حيوية خاصة بالميلاد والمناسبة، وبالفعل بدأنا باتباع هذا التقليد في الأوركسترا اللبنانية وتكرر الأمر لأربع سنوات وبات الجمهور ينتظره كحدث مفرح يضعونه على أجنداتهم، فكان التكريم تقديراً لهذا الجهد. ورداً على كلمة السفيرة النمساوية التي أخجلت تواضعي، قلت في كلمتي إن جائزة تأتيني من بلد هايدن وموزارت وشتراوس وغيرهم هي تقدير كبير، ونحن أيضاً في لبنان لدينا أشياء عظيمة مثل الصبر والنية الطيبة.
هاجس التأليف الموسيقي
[ بالعودة الى الطفولة والبدايات، ما الذي رسّخ لديك رغبة التأليف الموسيقي بحيث ضمت الاسطوانة الأولى “من ليالينا” عام 1967 مقطوعات موسيقية صرفة، وكنت مشاركاً في تأسيس مهرجانات “بعلبك” و”بيبلوس” فما الذي تتذكره؟
_ أولاً ولدت في “جديدة مرجعيون” المعروف حبها للثقافة والعلم، في بيت كان من أهم موجوداته الكتاب والمجلة والغرامفون. والدي كان تاجراً ويجلب بعض الآلات الموسيقية من ضمن ما يجلبه، وعيت على مندولين وكمنجة في البيت. توفي الوالد باكراً، كنت في السادسة من عمري ويقولون إنني كنت “شيطاناً”.
الوالدة رحمها الله قالت إنها كي تعيد إليّ هدوئي وسكينتي كانت تشغّل لي أسطوانة على الغرامفون فأقف ساكناً أمام الاسطوانة بلا حراك. بعمر ست سنوات بدأت دراسة الموسيقى مع مبشّر سكن في بلدتنا “جديدة مرجعيون” وفي السابعة من عمري كنت أقرأ النوتات الموسيقية.
كان السؤال الملح منذ صغري: أنا كشرقي هل يجب أن أسمع أغنية طوال الوقت” سؤال بكل عفويته كان يتردد في بالي، وكنت أريد أن أسمع موسيقى شرقية لا أغنية. وبعد أن أنهيت علومي الموسيقية حتى مرحلة البحث الموسيقي بقي السؤال الأهم: لماذا موسيقانا غير درامية؟ أي لا تعبر عن حالة إنسانية عظيمة؟ لماذا نربط الموسيقى بالكلمة والقصيدة، هل اللغة هي الصيغة الوحيدة للتعبير؟
وقبل إصدار اسطوانتي الأولى “من ليالينا” بدأت بكتابة موسيقى “الشلال” لمهرجانات بعلبك الدولية وهي أربع افتتاحيات موسيقية، كانت تعتبر المرة الأولى التي تقدم فيها موسيقى صرفة في المهرجانات. ثم كانت حفلات “مهرجان بيبلوس” حيث كانت المعادلة تقديم ثلث الحفلة موسيقى وثلث غناء وثلث حوار.
كان لدي مطلق الحرية في العمل على ما أريده في المهرجانات. عملي في المهرجانات جزء كبير منه تأليف وتلحين أفادني وأوصلني الى ما أنا عليه بطريقة طبيعية ربطتني بجذوري حيث أن مؤلفاتي السمفونية في ما بعد وضعت فيها كل شرقيتي.
هناك شيء أنفرد به. الكثيرون عملوا في المهرجانات في لبنان على صعيد شعبي وتراثي. أنا الوحيد الذي اشتغلت على الشعبي والتراثي والسمفوني. مثلاً، في بعلبك كانت تقدم لي الحركة الثالثة من سمفونيتي الرابعة “الشهيد” ثم دخلت في “مهرجان بعلبك” كقائد أوركسترا لمدة سنتين ورافقنا التينور بلاسيدو دومينغو في إحدى هذه الحفلات.
لكن اليوم من المؤسف أن نرى ابتعاد المهرجانات عن الموسيقى الكلاسيكية رغم احتمال أن تفتتح “الفيلهارمونية اللبنانية” مهرجانات بيت الدين الصيف المقبل، وعلماً أن مشاركتنا في “مهرجان البستان الدولي” باتت تقليداً سنوياً والمفترض أن نقدم عروضاً في مناطق عدة من لبنان مع بقاء مشكلة المكان الذي يمكن أن يتسع للأوركسترا الفلهارمونية.
أكبر عيب أن يعاني لبنان وبخاصة بيروت العاصمة من عدم وجود قاعة احتفالات خاصة بالعروض السمفونية والفلهارمونية وكل الصالات لدينا ليست مجهزة لتقديم مثل هذه الموسيقى بدء بصالة “قصر الأونيسكو” التي لا تصلح بتاتاً لها فكيف بالمناطق الأخرى؟ والى متى سنظل نعاني هذا النقص ونسمع دائماً بلبنان الحضارة والإبداع والعلم والثقافة والضيافة والسياحة… إلخ.
المسرحيون ليس لديهم مسرح خاص بالعروض المسرحية وكنا من أوائل الناس الذين افتتحنا “مسرح فينيسيا” كمسرح دائم. تصرف مبالغ كبيرة وتقدم للبلد معونات وهدايا من بلدان أخرى لدعم بعض النشاطات وفي الفترة الأخيرة قدمت اليابان دعماً لتأسيس مركز للسينما تابع لوزارة الثقافة لكن السؤال أين هي السينما؟ وأين انتاجاتنا؟ أعني لا تراث سينمائياً لدينا لكن لدينا موسيقى ونقدمها في أماكن غير لائقة بها.
أتمنى من دولة الرئيس سعد الحريري أن يكون السند الداعم للأوركسترا “الفلهارمونية اللبنانية” كما كان والده الشهيد سنداً فولاذياً في إنشاء “الأوركسترا السمفونية اللبنانية”.
[ في البدايات كتبت موسيقى “مسرحية مجدلون” لروجيه عساف وأخرى ليعقوب الشدراوي وميشال نبعة وريمون جبارة وموسيقى تصويرية لبعض الأفلام وصولاً الى كتابة السيمفونيات وأخيراً قيادة أوركسترا سيمفونية، كيف تقرأ هذه المراحل والتطور الذي مررت به كموسيقي؟
- أجد أن هذه المراحل جاءت بتسلسل طبيعي عبر السنوات وكانت الكتابة الموسيقية هي الهاجس كما أسلفت، لذا بعد كتابات عديدة وتجارب لسنوات كان لا بد من الوصول الى كتابة السمفونيات والتي ضمت أبعاداً تاريخية عربية صميمة كعنصر أساسي، فمن سمفونية “القادسية”، الى “الشهيد” و”المتنبي” و”المواكب” على سبيل المثال استوحيتها من نصوص جبران خليل جبران وهكذا غيرها، واليوم أعد لسمفونيتي السادسة اسميتها “الفجر” إشارة الى بداية عصر اليقظة، وفي هذه الكتابات تبتكر لغة، تمزق لغة، تغمر وتدمر، تحب وتكره، تخلق وتقتل، تزرع وتحرق وهكذا…هكذا ابحث دوماً عن إضاءات ولمحات في تاريخنا أحولها الى لغة موسيقية.
نفتقد عازفين على آلة العود بعد رحيل
سلمان شكر وجميل بشير
[ وماذا عن الكونشرتات، لم تكتب مثلاً كونشرتو للعود والأوركسترا أو غيرها من الآلات، لم تلج هذا العالم بعد ما السبب؟
_ مسؤولية فرقتين أوركستراليتين ليست بالمهمة السهلة، ناهيك عن مسؤولية المعهد الوطني وغيرها، كل هذه المهمات أخذت من وقتي الكثير، لكن حان الوقت لكتابة الكونشرتات بالفعل، فآلة القانون من أجمل الآلات الشرقية. وبالنسبة لآلة العود فبرأيي بعد سلمان شكر وجميل بشير نفتقد وجود عازفين على الآلة.
[ في أحاديثك وعملك يبدو تركيزك الدائم على الأوركسترا الضخمة، لماذا؟
_الأوركسترا تعتبر الحدث الموسيقي الأهم لأي شعب أو بلد. هي الباعث على التطور في كل شيء. الباعث على نشوء مؤلفين موسيقيين وعازفين وقائدي أوركسترا ونقاد وصالات وتربية الذوق لدى الجمهور وغيرها من أمور هامة تسهم في النهوض والثقافة والتوعية، قد لا يعيها الكثيرون. الأوركسترا بمثابة كرونولوجيا متكاملة لتحديد سلسلة من الأحداث في زمن ما وتاريخ ما. لذا عبثاً نحاول تطوير الموسيقى والبلاد من دون وجود أوركسترا. الأوركسترا، هي التي وعِبرها تتطور الموسيقى.
العزْف المنفرد على آلة ما جميل ومطلوب وجيّد، لكنه كشكل من أشكال الموسيقى لا يُسْهم في تطويرها، وعندما نقول، تطوير الموسيقى، نعني أن هذا يدخل في البناء الموسيقى، وانتقاء المادة الموسيقية، والتعبير، وتشكيل تنوُّع “الطنينات” للآلات الموسيقية ولتنفيذ أعمال تأليفية مبتكرة وملائمة للعصر.
[ كيف تنظر الى دور الدولة في الديمومة الثقافية ودور المجتمع المدني والمبادرات الفردية؟ ودور الحروب المتكررة في تدني الكثير من الابداعات؟
_ الحرب أثرت كثيراً بلا شك، أو كانت القشة التي قصمت ظهر البعير كما يقول المثل. ومهما يكن من أمر الدولة ضعيفة أم قوية، لا يمكن أن نبقى مكبلين ومتكلين على المبادرات الفردية والمساعدات الخارجية التي قد توقف دعمها في حال بدأت تشعر بالخسارة وعدم الربح. وبالتالي هذه المساعدات دائماً تنطلق من معايير في البداية تكون ايجابية لكنها قد تتغير وتتبدل تبعاً للربح الشخصي. لذلك أطلب من الدولة أن تكون هي المبادرة والداعمة من دون أن يعني ذلك وضع يدها على العملية الإبداعية، فالرقابة سوف تقضي على الإبداع، لكن في الوقت نفسه من دون دعم الدولة كل الإرادات الفردية تذهب سدى.
لبنان بلد حلو وجميل جداً لكن كثيراً ما يعتمد على الفردية في المجالات الإبداعية وهذا شيء خطير لا استقرار فيه، فالاستمرارية ضرورية وعلى الدولة أن تحرص على ديمومة الحياة الإبداعية مهما كان على كاهلها من جبال وتراكمات وأولويات..
مسرح الأونيسكو للهدم لأنه لا يصلح سوى للخطابات السياسية
[ والمسارح قلت إنها في لبنان لا تصلح للموسيقى؟
_ قلت هذا وبصراحة أولها مسرح “الأونيسكو” وهو تابع لوزارة الثقافة، أي الدولة، يجب أن يُهدم لأنه لا يليق بالوزارة. وقد أصبح مخصصاً للخطابات السياسية فحسب إذ أنه لا يصلح لتقديم العروض المسرحية أو الموسيقية. ولا غرابة أن نخصص مسرحاً بمساحة “الأونيسكو” للخطابات، إذ أن العملية الإبداعية العربية لطالما كانت وما تزال مرهونة بالمواقف السياسية، ولطالما نشهد “أهرامات” أو “قامات” فنية قائمة أساساً على الايديولوجيات السياسية، هذا يقف وراءه الحزب الفلاني وذاك التيار العلاني، مغنون وملحنون وموسيقيون يختفون في أوقات الإنزواء ويبرزون في أوقات الحاجة اليهم كبوق سياسي لقضية ما، هو الدجل بعينه مع الاسف.
[ودور الإعلام؟؟
حان الوقت أن نعي أن لدينا معايير إبداعية تفرض فيها الحالة السياسية نوعاً أو أنواعاً من الموسيقى والغناء تعتبر في النهاية ذات ذوق سيئ، ويؤسفني ان اقول هذا في منبر إعلامي هام مثل صحيفتكم، ان الاعلام وخاصة الفضائي المرئي يسهم في تدني الذوق السمعي إذ لا يترك للمشاهد فسحة ولو قليلة لموسيقى مختلفة ضمن الاربع وعشرين ساعة بث مدكوكة ببث بشتى الوان الاسفاف والسائد المتكرر الذي يركز على العنف والفوضى وموسيقى المخدرات والسرقة والهوس ما يسهم في خلق أجيال عنيفة بلا مشاعر انسانية.
لو ان بعض محطات التلفزيون فقط من هذه العشرات بل المئات تبث ساعة واحدة فقط في الاسبوع برنامجاً موسيقياً تثقيفياً لوجدنا جمهوراً يرغب برؤيتها والاستفادة منها، وسبق ان طرحت الموضوع فكان الاقتراح ان يبث البرنامج في اوقات ميتة كي لا يخسرون اموال الدعايات.
[ وماذا عن دور “المجلس الاعلى للاعلام” ؟
_ سلام على المجلس الأعلى للإعلام؟ ما هي وظيفته؟ ومسؤولياته؟
[ هل تجد توجهاً اقوى نحو التأليف الموسيقي في عالمنا العربي اليوم، وما هي آفاقه المستقبلية؟
- اغلب المجتمعات العربية باتت تتطلع الى سماع موسيقى تأليفية صرفة، ربما يكون لبنان اليوم في الصدارة لأننا وبكثير من التواضع، والفخر أيضاً، تمكنا من خلق تيار في التأليف الموسيقي بوجود الفرقتين الأوركستراليتين الشرقية والغربية والدليل، هذا العدد المتزايد من المقطوعات التي يكتبونها ونعزفها لهم في الامسيات. وكل طلاب الموسيقى حين نسألهم إن كانوا يحبون التلحين ام التأليف يجيبون: التأليف. وفي كل مجتمعاتنا نجد نهضة وتحول نحو الكتابة الأوركسترالية لكن نعود الى المشكلة الاكبر وهي الاعلام الذي لا يسلط الضوء على هذا التيار أو المؤلفين الموسيقيين ونادرة هي شركات الانتاج التي تنتج موسيقى بحتة. والاذاعات بعيدة من هذا الاهتمام الا نادراً وهكذا نحن نغوص في سلسلة من الاهمال.
واعرف عدداً لا بأس به من دارسي التأليف الموسيقي وانا على اتصال بهم وجلهم خارج العالم العربي مثل كل الكفاءات العلمية الاخرى التي تخرج في اسراب الى مناطق تتلقفهم في وقت بلدانهم تهملهم أو لا يجدون فيها مكاناً لهم أو لانتاجهم وابداعهم، ومن المؤسف القول اننا نسير في هبوط سريع ومخيف الى المجهول.
[ وما المطلوب في المقابل؟؟ ما الحلول لاعادة المسار الى خطه الصحيح؟
- المطلوب إنشاء مؤسسة انتاجية في مقابل كل هذه المؤسسات ويفضل ان تؤسسها الدولة من دون فرض خطها ورقابتها كما اسلفنا، يكون هدفها تثقيفي وتوجيهي يدعم الموسيقى الجادة وانتاجها وتوزيعها وبيعها وفي الوقت نفسه الاستفادة من مردود هذه النتاجات في تمويل اعمال ابداعية اخرى ومشاريع موسيقية مفيدة والربح المادي ليس أولوية لدى المبدع، بل نشر انتاجه في الدرجة الاولى واعتقد أنها ليست بالمهمة الصعبةعلى الدولة.
[ عام 1991 تسلمت مسؤولية رئاسة “المعهد الوطني العالي للموسيقى ـ الكونسرفتوار” ومنذ ذلك الوقت تطور المعهد بحيث بات يقدم مناهج أكاديمية لدراسة الموسيقى العربية وآلاتها، العود والقانون والناي. ما الذي ينقص المعهد بعد ليصبح له صداه في الخارج وجاذباً لطاقات من بلدان أخرى؟؟
- أذكر حين استلمت المعهد الوطني أن عدد طلاب آلة القانون كانوا ثلاثة، اليوم هم أكثر من ستين. وطلاب العود قلة باتوا اليوم بالمئات، وكذلك الآلات الايقاعية الشرقية وغيرها. فقط لدينا مشكلة في التوجه نحو دراسة آلة الناي القصب، وقد أصدرت قراراً بإعفاء أي طالب يرغب بدراسة الآلة رغبة في استمرار وجودها بين آلاتنا الشرقية وبات العدد ربما عشرين طالباً اليوم.
اما الكمنجة وعائلتها فالمطلوب من الطالب ان يكمل تخصص (B.A) اي دراسة الكمان العالمي اولاً ثم يتخصص بالكمان الشرقي وينطبق على الفيولا والتشيللو إذ ان الكمنجة فيها امكانات كبيرة وعندما يكمل الدراسة الغربية ويتقنها يتمكن بسهولة من تملك المنهج الشرقي لذلك نجد موسيقيين تأسسوا على المنهج العالمي وحين يعزفون مقطوعات شرقية تلمع موسيقاهم، ثم هناك دوزان آلة الكمنجة في الموسيقى الشرقية مثل العود ضد طبيعة الآلة ويميت روحيتها بهذا الدوزان.
منذ استلامي المعهد وانا احاول التركيز على الاتقان وعدم ترك الامور وخاصة في دراسة الموسيقى الشرقية على عواهنها وعلى فطريتها، بل على الدارس ان يتقن المناهج قبل ولوجه عالم المهنة وان يكون حاملاً لثقافة وعلم وتقنيات مثل اي دارس للعلوم الغربية واشدد على الالتزام في ادق التفاصيل: التزام بالوقت والتمرين والملاحظات وروح الجماعة بعيداً عن الفردية وتشجيع الطلاب للعمل ضم الفريق ضمن خلقيات وقوانين المعهد لذا نشهد اليوم اجيالاً من المتخرجين متقنين ومحترفين وملتزمين.
اما عن مسألة التوسع لاستقطاب مواهب من الخارج وراغبين بالدراسة فلدينا مشكلة كبيرة بعدم وجود إمكانات لدى الكونسرفتوار، وهنا ارغب بالاعلان ان لدى الكونسرفتوار اليوم ثلاثة عشر الف طلب من تلاميذ يرغبون بدراسة الموسيقى، لكن لا إمكانات لدينا. لا أبنية، لا اساتذة؟ لا اموال؟ بحيث امكاناتنا اليوم تستوعب فقط خمسة آلاف طالب موجودين في المعهد.
[ تقول انكم اول من وضع مناهج للآلات الشرقية مثل العود والايقاع وغيرها؟ رغم اننا نجد منهجاً للعود وضعه جميل بشير في الستينات ومناهج غيرها في مصر وتونس؟
- صحيح، جل المناهج العربية اما قديمة أو انها تعاني نقصاً في نواحي معينة. نحن وضعنا مناهج متكاملة للآلات الشرقية فمثلاً منهج جميل بشير للعود هو لمرحلة متقدمة يعني ان الطالب يجب ان يكون درس العود لسنة أو اكثر كي يبدأ بمنهج جميل بشير فيما نحن وضعنا منهجاً يبدأ به الطالب من الصفر وصولاً الى تخرجه والتوصل لمهارة معينة. بالنسبة لآلة القانون فعربياً يطبق نفس منهج العود، وهذا لا يمكن إذ للعازف ان يستخدم اصابعه العشرة بدلاً من اصبعين فقط.
وأذكر انني جمعتُ أساتذة الإيقاع، وبينهم أهمّ عازف دفّ وهو علي الخطيب، وقلت: اعزفوا. رحنا نسجّل كل ضربة وحركة، وبحثنا عن أسماء معروفة للأصوات والحركات ودوّنّاها، حتى خلقنا منهجاً، من الألف إلى الياء، طبعناه كتباً وزعناها على أكاديميات عربية. وشاركنا في مؤتمر حول الأكاديميات الموسيقية في البحر المتوسط. وكان هناك فرنسيان قدما منهجاً للدف والطبلة، ونحن قدمنا منهجنا للدف والطبلة فاستبعدت اللجنة المنهج الفرنسي واقرت منهجنا اللبناني. عازفو الايقاع اليوم يقرأون النوتة والعزف ضمن فريق كبير أو ثنائي أو ثلاثي كجزء من منهجية الدراسة.

نمنع الطالب من أداء التقاسيم على الآلة الشرقية قبل امتلاك التقنيات
[ لماذا تمنع التلميذ من أداء التقاسيم طوال فترة دراسته وأداءاته في الامسيات؟
- التقاسيم نوعان واحد يكتب ويدون من دون ايقاع أو ما يسمى ارتجال لحني وانا افضل تسمية “ارتجال” على “تقاسيم”. والثاني من دون تدوين ويعزف تعبيراً حسب رؤية وإحساس العازف اي ارتجال على السجية. وهذا النوع الثاني ممنوع قبل أن ينال الطالب شهادة البكالوريا النهائية. وسبب منعه من ادائها هو ان التقاسيم نوع من التأليف فإذا لم يمتلك الطالب تقنيات العزف وتعرف على إمكانات الآلة بشكل كامل سوف تأتي ارتجالاته قاصرة ولن يتمكن من التعبير عن أفكاره التأليفية بشكل جيد في حين كلما تمكن العازف تقنياً تمكن من اداء افكاره وتنفيذها بشكل اكثر ابداعاً. وعادة عند الموسيقيين الشرقيين يكون هذا الارتجال ناتج عن احساس آني لكن اذا فقد التقنية سيعجز عن التعبير عن احساسه وما ينفذه سيكون ناقصاً.
كل التأليف الكبير يبدأ بالتقاسيم أو ما اسميه الارتجال، لكن البنائية فيه على قدر امكانات العازف. الكونشرتو تقاسيم بتقنيات خطيرة جداً. والتقاسيم جزء من تراثنا، لكن التقنية تساهم في منح العازف تعبيراً اكبر عن افكاره.
وعلى سبيل المثال آلة القانون فيها اثنان وسبعون وتراً فهل من المعقول العزف على ست اوتار فقط وبأصبعين وانا عندي عشر اصابع؟ علماً أن آلاتنا الموسيقية ذات صوت وإمكانات نبيلة لكن طريقة العزف هي التي تحط من قدرها وقيمتها.
قدمنا قطعة سماعي على طريقة “الكانون” من تأليف الراحل روحي الخماش، وهذا شيء جميل واسوق هذا المثال لاقول ان موسيقانا تتقبل كل الامكانات والطرق لكن العيب فقط في العازفين الموسيقيين.
وكنت اجريت من قبل دراسة حول علاقة الفكر الفلسفي العربي بالموسيقى العربية من خلال التقاسيم.
[ لماذا لا تعلمون التقاسيم اذن طالما هي جزء من تراثنا وهي بدايات التأليف الموسيقي؟ وطالما هناك تقاسيم تدون للعازف بالنوتة؟
- لا يمكن ذلك، اذا علمنا التقاسيم مشكلة كبيرة نقع فيها وهي خسارة الابداع الذاتي للعازف والاحساس الانساني، وسوف يقدم الجميع نسخاً مطبوعة ومشوهة. لان كل مؤلف سيفقد عملية التخيل حين يبدأ بكتابة معزوفته، فالمؤلف السمفوني يبدأ ايضاً بتخيل النوتات ارتجالياً الى ان يكتبها في عملية بنائية.
لكن المفارقة ان التقاسيم في وقتنا الحالي باتت تردد كما هي وتتكرر بشكل ومسار واحد وكأنما استنفدت السلالم والخيال الابداعي للعازف ولم نعد نفاجأ بقفلة معينة أو نهاية للتقسيمة إذ نتوقع مبدئياً وتقريباً كيف سينهي العازف ارتجاله والسبب يعود الى عدم تأني العازف الى حين انتهائه من منهج الدراسة.

الموسيقى التقليدية العربية كلها
مصدرها العراق
[ هل صحيح مقولة الموسيقار الراحل محمد عبد الوهاب ان كل الموسيقى في المنطقة العربية تشبه بعضها إلا العراق؟
- صحيح واعتقد ان الموسيقى التقليدية العربية كلها مصدرها العراق. عبر التاريخ عرفنا مثلث بغداد حلب بيروت هذا المثلث هو الركيزة الاساسية للموسيقى الشرقية ومصدر هام جداً عريق وحضاري تاريخي قديم، ولا شك ان مصر لها تاريخ عريق ايضاً، وهذه البلدان بسبب جغرافيتها وقربها من بلاد فارس وتركيا صار التلاقح والتلاقي ونعلم مثلاً ان الخديوي حين زار الاستانة اخذ معه وفداً كان من ضمنه عبده الحمولي وهناك سمع الاخير موسيقى تركية وحفظ تنقلاتها وسلالمها وعاد الى مصر وبدأ مذ ذاك بتأسيس مدرسة التلحين المصرية وكل من جاء بعده اخذ عنه وبهذا تطورت هذه المدرسة ومن ثم انتشرت بواسطة السينما المصرية لانها اول سينما عربية وكانت الاغنية من ضرورات تسويق الافلام وفرضت تياراً معيناً في التلحين ساد فيما بعد البلدان العربية.
وحين بدأت “مهرجانات بعلبك الدولية بدأت معها بوادر مدرسة التلحين اللبنانية وعمادها الاساسي الفلكلور وما لبث ان امتد هذا “الفيروس” الى العراق وسوريا والأردن حيث قلدوا هذه الانطلاقة اللبنانية بداية السبعينات.
[ هل تمكنت من وضع اسس لمؤسسة “المعهد الوطني” والأوركسترا السمفونية والشرقية، يمكن ان تسير عليها المؤسسة بعد سنوات، اعني بعد ان تتقاعد وتترك المسؤوليات لغيرك، فهل تمكنت من خلق آلية واجيال يمكن ان تتعاقب على تسيير الامور بشكل آلي سهل؟
- بالطبع هذه المؤسسة الضخمة السائرة بدفع قوي جداً الآن، لا ادري ان كانت ستبقى بهذا الدفع؟ السؤال المطروح؟ هل هناك من يستطيع ان يتحمل كل هذا الضغط؟ اقصد هي مسؤوليات جمة تتطلب شخصاً محنكاً وموسيقياً وإدارياً يمسك بزمام الامور ويدفع بالمؤسسة الى التطور وعدم التراجع.
قد تكون لدينا آلية معينة في المؤسسة لكن هل يأتي الرجل المناسب في المكان المناسب. وانا طرح علي مسألة الدخول في ملاك الدولة لكني فضلت ان ابقى متعاقداً رغم ان التثبيت في الملاك افضل بالنسبة لي، لكن التعاقد يبقي المؤسسة بمنأى عن البيروقراطية والعراقيل الروتينية.

سيرة في محطات
-1938 ولد في جديدة مرجعيون جنوب لبنان.
-1965 أصدر أول أسطواناته مؤلفات موسيقية بعنوان “من ليالينا”.
-1965 شارك في تأسيس اول مسرح موسيقي دائم في لبنان “مسرح فينيسيا” مع روميو لحود.
-1970 شارك في تأسيس “مهرجانات بيبلوس الدولية”، بعمل مسرحي عنوانه “يا ليل” من كلمات جورج جرداق وبطولة جوزف عازار وفدوى عبيد ودريد لحام.
-1975 أوكلت اليه وزارة الثقافة العراقية إعداد دراسات عن الموسيقى العراقية.
-1991 تسلم رئاسة “المعهد الوطني العالي للموسيقى”.
-1976 أصدر سمفونية “القادسية” أو “سمفونية الايمان”.
- 1978 أصدر سمفونية “المتنبي” أو “سمفونية البطولة”.
-1979 اصدر سمفونية “اليرموك” أو “سمفونية الحرية”.
-1981 اصدر سمفونية “الشهيد” أو “سمفونية العطاء”.
- 1982 اصدر سمفونية “المواكب” أو “سمفونية الانسان الجديد”.
-2008 اعيد اصدار سمفونياته في ثلاث اسطوانات.
-2009 يعكف على تأليف سمفونيته السادسة “الفجر”.

الاعمال الموسيقية الغنائية
مهرجانات بعلبك الدولية اعوام 1963، 67 و 68.
مهرجانات جبيل عامي 1970- 1971.
مهرجان الارز 1965.
مهرجان “نهر الوفا” 1965.
لديه اسطوانات بأعمال غنائية عدة.



مع تحيات منتديات تونيزيا كافيه
http://www.tunisia-cafe.com