الحاج علي صوة،الزعيم الصامت لقصرهلال بقلم الأستاذ الحبيب ابراهم
هذا المحل بناه حسين المكسي حين كان خليفة قصر هلال من سنة 1893 إلى 1897 ثم استقر به أول مستوصف بقصر هلال من سنة 1927 وفيه حارب الدكتور حامد القروي داء السل سنة 1957.
لكن الوضع الصحي بقصر هلال لم يتحرك في طريق التحسن الجدي إلا بتدخل من بلدية قصر هلال في 25 سبتمبر 1950 لدى وزارة الصحة العمومية (الحكومة التفاوضية) التي وافقت على تعيين الدكتور عبد الله القاضي طبيبا بلديا بعد نقلته من رادس .
فالوضع الصحي – كما رأينا- شديد التردي لا يمكن لرجل كالحاج علي صوة أن يغض عنه الطرف. وتزداد فظاعة الوضع إذا ركزنا النظر على نسبة الوفيات بين الأطفال.
وإذا كنا لا نملك عن تلك النسبة أرقاما موثوقا بها فإن درسنا للأشجار العائلية مكننا من العثور على عائلات اندثرت بكاملها بفعل وفيات الأطفال في مرحلة التوليد أو بعد ذلك. وما المثل القائل "ما يعمر حضن إلا ما تعمر الجبانة "إلا شاهد على ذلك. وما كانت كثرة الإنجاب إلا ردا على ذلك الوضع. إذا ذهبوا اليوم في تعليل الانحسار الديمغرافي مذاهب شتى قلنا إن السبب الأساسي – في نظرنا- هو انحسار الوفيات بين الأطفال والأمهات.
أما الحاج علي صوة فقد أنجب أبناء كثيرين توفاهم الله صغارا. منهم أربعة دعاهم تباعا باسم أحمد (1910 و 1914 و 1928 و 1931) وهم مسجلون بدفاتر الحالة المدنية. وخامسهم هو الفقيد أحمد الذي استصدر حكما يقضي بولادته سنة 1924. كما رزق الحاج علي توأمين سنة 1915 وصالح سنة 1920 وهو سمي ابنه الموجود والذي استصدر بدوره حكما يقضي بولادته سنة 1923.
مع العلم أن صالحا ثالثا ورد تسجيله بدفاتر الحالة المدنية سنة 1926. وأنجب من زوجته الثالثة حفصية بنت محمد كشيدة. بالإضافة إلى أحمدين من الخمسة كما أنجب ابنا سنة 1912 دعاه خليفة – ولعله تفاؤل بأن يخلف ابنه أحمد الأول (1910). وتوفي الطفل خليفة وعمره عامان- وما حفيده خليفة بن امحمد إلا ثاني الخليفتين.
سبعة أولاد فقدهم صغارا وقد يكون هنالك آخرون !
وأما صديقه محمد بوزويتة فقد رزق ستة أبناء : صالح (1915) وعثمان (1917) والصادق (1922) والطاهر (1923) وحسن (1923) ولم تكتب الحياة إلا لعمر الذي ولد سنة 1914.
ولقد كانت تلك المآسي كافية لتغرس في نفس الحاج علي صوة ورفيقه بذرة المساعدة الإنسانية في الميدان الصحي. ولقد جاء في تقرير من مدير الأمن إلى مدير الداخلية مؤرخ في 12 نوفمبر 1929 – أي بعد أحد عشر يوما من افتتاح مدرسة "الهلال" واعتبر "سريا جدا" ما يلي: "أضيف – وهذا ذو دلالة – أن نفس الأشخاص وخاصة الحاج علي صوة ومحمد بوزويتة – يعتزمون إحداث فرع للمدرسة كمشفى ومستوصف infirmerie dispensaire يجد فيه الأطفال المسلمون بالمنطقة سواء كانوا تلاميذ المدرسة أو لا العلاج الطبي والدواء مجانا .
نضيف إلى كل تلك الدوافع العامة والخاصة تعرض ابنه البكر امحمد إلى حادث أودى بحياته بمعصرة الزيتون بهنشير شراحل سنة 1938. ولاشك أنه كان لذلك الحادث وفقدان الإسعاف من التأثير على الحاج علي ما حرك رغبة الإسعاف لديه.
حتى إذا كانت الحرب العالمية الثانية وانتقل مستشفى سوسة إلى قصر هلال. وأتخذت مدرسة "الهلال" مقرا له بداية من يوم 14 جانفي 1943 واحتضنت قصر هلال آنذاك بعض العائلات اللاجئة ثبت منه العزم واتخذ القرار.
وإذا اعتبر أحمد صوة في مذكراته أن أحداث الحرب العالمية هي التي أوحت إلى والده بانجاز المستشفى فقال: "من هناك نشأت في ذهن الوالد فكرة بناء مستشفى يغطي حاجة قصر هلال وجاراتها" رددنا بأن تلك الأحداث وما شاهده خلالها قد تكون القطرة التي أفاضت الكأس والشجرة الأمامية من الغابة. وقد رأينا ما يثبت أن الحاج علي صوة كان يفكر منذ سنة 1929 في إنشاء مستشفى للأطفال قبل أن ينمو المشروع ويتحول إلى مستشفى لكل الأعمار.
وقد صدر بجريدة "الزهرة" يوم 13 جانفي 1951 مقال تحدث عن حاجة قصر هلال إلى الماء والمستشفى وأضاف "وعد المحسن الكبير الحاج علي صوة ببذل جانب كبير جدا من المال يقدر بالملايين العديدة إذا أنجزت الحكومة بناء مستشفى طبق رغبة أهالي البلدة" مع العلم أن الحكومة آنذاك كانت حكومة امحمد شنيق المتعاطف مع الأوساط الوطنية (أوت 1950 – أفريل 1952). ولما لم يجد أذنا صاغية أقدم علي الانجاز بمفرده.
وعلى كل حال فقد نضج المشروع وفضت مساء الأحد 9 سبتمبر 1951 رسائل المناقصة لبناء مستشفى قصر هلال وتم الاتفاق مع المقاول عمر بوزقندة من المنستير .
وفي نطاق المساعي الجارية ليأخذ المشروع أبعاده القومية في ظل الوزارة التفاوضية تم السعي لدى وزير الفلاحة محمد سعد الله كي يبلغ الباي محمد الأمين – باعتباره رئيس الدولة- رغبة أهالي قصر هلال في ايفاد من ينوبهم لدعوته إلى وضع الحجر الأساسي للمستشفى.
وتم ذلك واقتبل الباي صبيحة يوم الخميس 13 سبتمبر 1951 (12 ذي الحجة 1370) أي بعد أربعة أيام من عقد المقاولة واليوم الثالث من عيد الأضحى – وفدا من قصر هلال يقوده الحاج علي صوة قدم على تمن ثلاث سيارات ساقها كل من عمر بن الحاج قارة هلال وجابر بن امحمد فنطر (التليلي) وعبد القادر بن حسن ابراهيم (الدندان) وضم الوفد بالإضافة إلى الحاج علي صوة: حسن بن سليمان ساسي والحاج علي بن البشير الصانع اللذين اعترضا بقية الوفد بالعاصمة وفرج بن خليفة الاميم والحاج محمد بن سالم سعيدان ومحمد بن سالم بن الشيخ وسالم بن حسن جمور واسماعيل بن ابراهيم سعيدان والحاج الصادق بن علي الديماسي واحمد بن الحاج ابراهيم بورخيص والطاهر بن حمدة بوغزالة وأحمد بن الحاج قاسم قعليش وهي قائمة تحصلنا عليها بفضل جهود الأخ سالم قاسم وتضم وجوها وطنية كان لها دورها في الحياة الاجتماعية والسياسية بالبلد وقد أضاف بعضهم صديق الحاج علي صوة أحمد بن بوفارس بوفارس(1917-1982). ولعل عدم وجود بعض الوجوه الأخرى التي كانت تعتبر – أو تعتبر نفسها- بارزة يكشف مواقفها المحترزة من الحاج علي صوة الذي نأى بنفسه عن التكتلات والشبهات.
وقد ألقى أحمد قعليش باسم الوفد خطابا بليغا نشرت نصه جريدة الصباح يوم 19 سبتمبر 1951 (الوثيقة 18).
وقد وعد الباي بتلبية الدعوة غير أن تسارع الأحداث السياسية حال دون التنفيذ من جهة وحال دون أن يلقى المشروع حظه من الإعلام من جهة أخرى . ومن طريف ما يذكر أن الباي عرض على الحاج علي صوة أثناء ذلك الحفل مشروبا فأجاب: إن أحسن ما يمكن تقديمه إلي هو تعيين قابلة بقصر هلال وقد لبي طلبه وعينت قابلة عرفها الهلاليون باسم روزا. وهي أول قابلة رسمية بقصر هلال .
وحال عودة الوفد إلى قصر هلال قام الحاج علي صوة بتحبيس الأرض على المستشفى وكان ذلك يوم 17 نوفمبر 1951 بمساحة 4557 مترا مربعا بالمكان المسمى بئر بوعجيل والذي كان يدعى قبل ذلك بئر القصار (أنظر عقد التحبيس).
تلك الأرض تتكون من تربيعتين – حسب تعبير العدول القدامى – أي قطعتين ورث الحاج علي صوة احداهما عن والدته فاطمة سعيدان التي توفيت سنة 1922 واقتنى الثانية سنة 1907 من "المركانتي صالبو بن كرملو دياكنو وهو انكليزي مقيم بالمنستير (الذي اشتراها بدوره من عبد الله بن خليفة الكعلي سنة 1902) ونحن نذكر ذلك للذكرى والاعتبار فالله وارث الأرض وما عليها.
وقدر للأشغال أن تبدأ متزامنة مع اندلاع الثورة الوطنية التي طغت أحداثها على أشغال البناء التي لم ترد عنها بالصحافة كلمة واحدة على عكس ما جرى بالنسبة إلى المدرسة. ولم تجرؤ الصحف على طرق موضوع لم يكن لدى الناس جديرا بالاهتمام، وهل كان من الممكن أن تتحدث عن المشاريع الإنسانية وآذان الناس مشدودة إلى أحاديث "البطولات"؟
لذلك أنكب الحاج علي صوة على البناء في جد وصمت وإصرار رغم ثقل السن واشتداد المرض. ولقد خشي على المشروع أن يتوقف قبل نهايته وهو الرجل الذي ما ألف الفشل وما أخلف قط وعدا. ولا شك أن الأمر قد تحول في نفسه إلى هم مقيم.
حتى جاء يوم 28 أوت 1953 أي قبل شهرين وثلاثة أيام من وفاته – فقام بتحبيس أرض فلاحية شاسعة تدعى هنشير البزازية الكبرى مساحتها 318 هكتارا واقعة على الطريق رقم 64 الرابطة بين مجاز الباب ومنزل بورقيبة وبها منزلان. تلك الأرض كان اشتراها من عائلة بسيس (ادمون وجورج وروني وموريس وألبير) خلال سنتي 1944 و 1945.
وقد نص عقد التحبيس على أن مداخيل تلك الأرض تخصص "لإتمام بناء وتأثيث ما يلزم للمستشفى وجميع لوازمه ... والقيام بلوازم المستشفى من أجرة أطباء وممرضين ومستخدمين وإصلاح ما يلزم إصلاحه من ترميم وتبييض ودهن متى أحتاج لذلك وشراء آلات تابعة للمداواة به..." وجاء في النص أن الرجل كان على فراش المرض "وهو ثابت العقل والميز عارف ما يقول وما يقال له".
وجاء قانون 2 مارس 1956 القاضي بحل الأحباس وضم الأحباس العامة إلى أملاك الدولة.
ثم جاء قانون 18 جويلية 1957 القاضي بإلغاء الأحباس الخاصة وأحباس الزوايا وتوزيع الأحباس الخاصة على الورثة والنزلاء. وبذلك أعيد إلى الورثة نصف الهنشير واحتفظت الدولة بالباقي.
وبذلك تحول المستشفى إلى ملكية الدولة وإن كان من قبل محبسا على وزارة الصحة العمومية.
وقد انتهت أشغال البناء سنة 1956 بفضل جهود أبناء الحاج علي صوة وخاصة الحاج صالح وزار الحبيب بورقيبة البناية الجديدة يوم 17 أوت 1956 عقب وضعه للحجر الأساسي لمعمل النسيج بقصر هلال بحضور الهادي نويرة والباهي الأدغم وأندري باروش .
أما افتتاح المستشفى فنحن لا نملك عنه المعلومة الدقيقة غير أننا نستند إلى صورة مؤرخة في جويلية 1958 لتفترض أنه حدث آنذاك.
جويلية 1958 : الفريق الطبي صحبة أعضاء أول هيئة بلدية بقصر هلال بعد الاستقلال
وعلى كل حال فقد أحدثت يوم 25 ديسمبر 1958 بقصر هلال منطقة طبية ملحقة إداريا بالمستشفى الجهوي بسوسة وتشمل المنطقة قرى لمطة وبنان وقصيبة المديوني وصيادة وبوحجر .
وأما التدشين فقد ذكرت نشرية محلية صادرة سنة 1960 أنه جرى من طرف رئيس الجمهورية سنة 1958. وكتب أحمد صوة أنه وقع سنة 1960 وقد أوقعتنا المعلومة الأولى في الخطأ.
وفي العدد الخاص الذي أصدرته مجلة المؤتمر بقصر هلال في مارس 1984 بمناسبة الذكرى الخمسين لمؤتمر البعث كتب محمد الهادي الصانع قائمة لزيارات الحبيب بورقيبة لقصر هلال وكتب تجاه تاريخ 6 مارس 1959: "زيارة المعمل وتدشين مقهى النصر" ولا أثر لتدشين المستشفى. فالمقهى – لدى بعضهم – أهم من مستشفى الحاج علي صوة وأبقى.
لقد وقع التدشين ذلك اليوم وهو اليوم الختامي لمؤتمر "النصر" المنعقد بسوسة والذي وقع اختتامه بقصر هلال إحياء للذكرى الخامسة والعشرين لمؤتمر البعث. قام رئيس الجمهورية بالتدشين مصحوبا بحرمه مفيدة واقتبله أحمد بن صالح كاتب الدولة للصحة العمومية والشؤون الاجتماعية صحبة حسن ساسي رئيس بلدية قصر هلال والدكتور المسعدي والتحق بالركب أعضاء الديوان السياسي الجديد الذي تم انتخابه في اليوم السابق وبقية أعضاء الحكومة ثم نحر رأس بقر قبالة المستشفى. واستقبل الجمع من طرف الممرضين والممرضات وعددهم أثنا عشر ثم من طرف المرضى المقيمين .
والجدير بالذكر أن أحمد بن صالح كان يرغب في إطلاق اسم أحد القادة الحزبيين على المستشفى وأنه لقي معارضة محلية. لذلك لم تلق بالمستشفى أية كلمة ولم يصدر أي تنويه بشأنه أو شأن مؤسسه.
أصبح مستشفى جهويا منذ سنة 1989.
مستشفى الحاج علي صوة كما يرى اليوم
إنجازات أخرى
ليست غايتنا الأساسية من هذا العمل تسجيل مآثر الحاج علي صوة أو إحصاء أعماله لأنها مآثر وأعمال تجاوزت حدود قصر هلال ويعسر بالتالي حصرها وتوثيقها. إنما غايتنا الأساسية رسم مسيرة الرجل على أساس أن التاريخ عبر وغذاء. لذلك ركزنا اهتمامنا على ثلاث ملفات: مدرسة قصر هلال ومسكن الطلبة بالعاصمة ومستشفى قصر هلال. وهي ملفات يستوجب كل واحد منها حياة كاملة.
غير أن الصمت عما بلغنا من الأعمال الأخرى قد يكون تقصيرا لا مبرر له.
تحدث بلقاسم بن جراد في كتابه "قابس عبر التاريخ" عن الزاوية الزمزمية "...صارت تلك الزاوية البسيطة من حيث البناء قبل ترميمها وتحسينها جامع جمعة إذ تبرع أحد المحسنين من أهل الخير من بلدة قصر هلال وهو الحاج محمد صوة ببناء هذا الجامع الملاصق للزاوية على حسابه الخاص وأضاف بالزاوية مكانا خاصا لصلاة النساء يوم الجمعة وكذلك يأوي إليها الغرباء وأبناء السبيل إلى الآن وأصبح الجامع الجديد جامع الجمعة يحمل اسمها أيضا ..." وقد أفادنا الكاتب الكريم بأنه يقع بعين سلام بمنزل قابس وأن الأشغال جارية لتجديد الجامع. وأما تاريخ ذلك الانجاز فقد تضاربت حوله الأرقام ونرجح أن يكون سنة 1951.
كتبت جريدة تونس يوم أول جوان 1949 : "...وابتنى مسجدا في شراحيل وحبس عليه بنايات حوله ابتناها 9 حوانيت. وكذلك دارا ومكتبا بشراحيل هذه. فدخلها جميعا للجامع. وأقام ابنه السيد صالح صوة من خريجي الجامع الأعظم أن يكون قائما بالإمامة فيه...".
صورة بشراحيل
ويرى من اليمين إلى اليسار : أحمد صوة، صالح صوة، الحاج علي صوة، خليفة بن امحمد صوة (صبي)، امحمد بن الحاج علي صوة قد تكون التقطت أوائل 1938 (أبناء الأرض لا ينتعلون !).
في شهر جانفي 1930 أعلن الحاج علي صوة أنه اشترى دارا وحانوتا ملاصقين للجامع الكبير بقصر هلال قصد توسيعه .
وتحدثت المصادر المكتوبة عن مسجد بناه بقرية بنان المجاورة لقصر هلال وإن كنا لا نملك له توثيقا وقد وجدنا ملفه بالأرشيف الوطني فارغا.
وقد قام بتوسيع مسجد بوزير المعروف بجامع سويد سنة 1952
وأعاد بناء مسجد الباب الجبلي المعروف بجامع الجبل سنة 1952 أيضا
كما أدخل تحسينات على مسجد الباب الشرقي المعروف بجامع الخميري الذي كان والدي –رحمه الله- إماما به.
بنى فسقية عمومية للشراب في طريق العبابسة بالجم
حفر بئرا بمنطقة شربان يستقي منها الناس وتعرف باسمه إلى اليوم.
اشترى 80 زيتونة أهداها لتوسيع مقبرة البلدة (قرب دار الشباب بقصر هلال حاليا).
أسس أثناء الحرب العالمية الثانية مخبزة لنجدة المواطنين ووزع أطنانا من الخبز مجانا وأعاد الكرة أثناء الإضرابات إبان المعركة التحريرية مع إكساء المعوزين وأبناء المساجين
أعان كل محتاج بترميم مسكن أو ختان أطفال فقراء وإكسائهم.
قلنا في افتتاح ملتقى العلوم الاقتصادية والاجتماعية بقصر هلال يوم 7 ماي 1992: "لكائني بالحاج علي صوة كان في سباق مع الزمن. فهو ما إن يحصل على ثمار حتى يحولها إلى إعمار. وأيدت النعت الذي أطلقه أحمد صفر على الحاج علي صوة بأنه "المؤسس الأكبر".
تعليم البنات
من اللافت للنظر ما لاحظناه من تضارب الآراء حول موقف الحاج علي صوة من تعليم البنات. فمن قائل إنه كان مناهضا له إلى قائل بعكس ذلك. وقد حاولنا أن نتبين الحقيقة وطرحنا على المائدة ما لدينا من الثوابت:
1- جاء في عقد تحبيس مدرسة "الهلال" المؤرخ في 2 جويلية 1932 ما يلي: "... ويزاد بها أقسام للمدرسة المذكورة كلما احتاجت إلى ذلك وأقسام للإناث على شرط أن تكون البنت مصونة من عبث العابثين ولم يبلغ عمرها عشرة أعوام مدة قراءتها بالمدرسة ...".
2- قدم الحاج علي صوة إلى أحمد صفر – متفقد التعليم العربي بالمدارس الابتدائية يوم 17 جويلية 1944 – أي بعد انتهاء معارك الحرب العالمية الثانية بالبلاد التونسية- طلبا لتمكينه من ترخيص لاقتناء كمية من الخشب لصنع المقاعد الدراسية اللازمة لأقسام أعدها للبنات و "لا ينقصها إلا الطاولات والمعلمات" (الوثيقة 26).
3- نشرت جريدة "الزهرة" يوم 7 فيفري 1945 مقالا جاء فيه "... جازى الله السيد الحاج علي خير الجزاء وأعانه على تنفيذ برنامجه في إنشاء مدرسة لا تقل كما بلغنا حسنا عن زميلتها الموجودة الآن لتعليم بنات قصر هلال المسلمات ووفق غيره من سكان هاته البلدة لإعانة هذا المشروع بالتحابيس أو التبرعات على المدرسة حتى تقدر على أداء رسالتها التثقيفية بالوجه الأكمل...".
4- يوم 11 جانفي 1947 طلب الوزير الأكبر من مدير التعليم العمومي رأيه في رغبة سكان قصر تنظيم اكتتاب لبناء مدرسة قرآنية للبنات بقريتهم وساند مدير التعليم الطلب وتألفت لذلك الغرض لجنة يوم 10 ماي 1947 ترأسها محمد بن الحاج علي صوة حملت اسم "لجنة اكتتاب جمع المال لبناء مدرسة قرآنية عصرية للبنات المسلمات ببلد قصر هلال" (الوثيقة 19).
5- يوم 8 فيفري 1950 : كتب الشاذلي زوكار بجريدة النهضة: "سمعت بأن الأهالي قد شرعوا في بناء مدرسة للبنات المسلمات تحتوي على اثني عشر قسما. وإن قصر هلال لفي حاجة إلى هاته المدرسة".
6- في أول أكتوبر 1950 عمدت إدارة التعليم العمومي إلى مجاوزة المشروع بفتح أقسام للبنات بالمدرسة الفرنكو عربية للذكور بقصر هلال.
7- يوم أول مارس 2007 ألقينا على الحاج صالح صوة هذا السؤال : "هل كان الحاج علي متحمسا لتعليم البنات ؟" فأجاب: لا.
يتضح من تلك الحقائق:
1- أن الحاج علي صوة لم يكن مناهضا لتعليم البنات وإن وضع لذلك التعليم شروطا
2- أنه كانت تخامره سنتي 1944 و 1945 نية إنشاء مدرسة قرآنية للبنات
3- أن تنظيم الاكتتاب تسبب في إقصاء الحاج علي صوة الذي كان يرفض المشاركة حتى ولو كان رئيس اللجنة ابنه
4- أن ذلك الرفض أسيء فهمه
وعلى كل حال فقد افتتحت مدرسة "الفتاة" يوم أول أكتوبر 1952 بعد أن حرصت الإدارة على إنشاء مدرسة حكومية موازية افتتحت في اليوم نفسه حتى لا تترك الفضاء للتعليم الأهلي وحده.
بين الحاج علي صوة وقصر هلال
الحاج علي صوة هو قصر هلال – حياته حياتها- تطوره تطورها – مسيرته مسيرتها مع مراعاة أن حياة الرجل الجسدية توقفت بوفاته يوم 31 أكتوبر 1953 لذلك فإن المقارنة بين المسيرتين متوقفة عند ذلك التاريخ.
قصر هلال كانت أول أمرها قرية فلاحية صغيرة منحصرة في حومة القصر "ثم أضيفت إليها حومة الربط". تحيط بها غروس وحدائق تشهد عليها الآبار التي لم يبق إلا أسماء أصحابها التي أحصيت منها سنة 1840 سبعة وخمسين بئرا.
هذا عدا آبار أخرى غدت أثرية هي الأخرى في أزمان لاحقة. ومنها بئر بوعجيل أو بئر عيسى الذي بنيت بأرضه مدرسة الهلال.
ثم تحولت قصر هلال في بداية القرن التاسع عشر إلى الفلاحة البعلية – أي الزيتون- إثر انخفاض المائدة المائية من جهة وحلول كارثة الثورة الشعبية سنة 1864 وتداعياتها. فأعرض الهلاليون- أي أبناء هلال- عن الفلاحة و"نزلوا" إلى النول.
والحاج علي صوة عمل كل ذلك. وقد تعددت أنشطته وتداخلت حتى أن التقارير التي تحدثت عن شغله تضاربت فقد ذكر سنة 1915 أنه تاجر وذكر يوم 12 نوفمبر 1929 أنه صباغ ونساج وذكر يوم 13 جانفي أي بعد ذلك بشهرين – أنه فلاح ونساج وذكر يوم 10 فيفري 1930 – أي بعد شهر واحد- أنه ملاك .
كتب أحمد صوة : بدأ يعمل أجيرا في صناعة النسيج من تكبيب وصباغة وحياكة إلى جانب فلاحة الأرض من حراثة وزراعة وري وحصاد في سانية بئر صوة أولا ثم في سانية بئر بوعجيل. ثم أضاف التجارة في القطن الذي كان يجلبه من مدينة سوسة. كما شارك في صناعة المشروبات الغازية مع علي بوسلامة والحاج محمد سعيدان وغيرهما".
فهي إذن موازاة كاملة بين قصر هلال والحاج علي صوة في المستوى الاقتصادي.
ولقد كانت الثقافة السائدة في الإيالة التونسية – ومنها قصر هلال- في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ثقافة الزوايا، وقد وجد البايات كما وجدت سلطة الحماية ضالتها في تلك الثقافة التي تقوقع فيها الناس وانكمشت فيها عزائمهم فغدوا أشباحا وغدت بلادهم "بلاش أمالي" وفي نطاق تلك الثقافة تولى الحاج علي مشيحة زاويتي سيدي عبد السلام بقصر هلال يوم 25 جويلية 1911.
غير أن الحركة الإصلاحية بالعاصمة سرعان ما بلغت أصداؤها قصر هلال وحمل مشعلها رجلان لا محيد عن ذكرهما كلما تعلق الأمر بإصلاح العقول واستنهاض الهمم: الحاج سالم عياد ومحمد بوزويتة. أما الأول فقد كان يمثل التيار الإصلاحي من التعليم الزيتوني وأما الثاني فقد أضاف إلى ذلك اتخاذه لعبد العزيز الثعالبي مثلا أعلى.
وفعل الرجلان في نفس الحاج علي صوة فعلهما. ولم يكن تأثيرهما في الدفع أو التحريك. فالرجل كما رأينا لم يكن بحاجة إلى ذلك. بل في تحويل الاتجاه من النشاط الطرقي المستقيل من المجتمع إلى النشاط المؤثر فيه.
وتخلى الحاج علي صوة عن تعهد زاويتيه. واغتنم فرصة شكوى قدمها أتباع الزاويتين بسبب ذلك الإهمال فقدم استقالته منها يوم 16 ديسمبر 1919.
وقد وجد الرجلان – الحاج سالم عياد ومحمد بوزويته – عنادا وتحملا الكثير من المعاناة مما شرحناه في غير هذا المكان . وكذلك وجد الحاج علي صوة لانجاز ما أنجز شيئا غير قليل من العناء مما تعرضنا إليه فيما سبق. فقد عزل الحاج سالم عياد بسبب نشاطه الإصلاحي ثم السياسي من الإمامة الأولى بالجامع الكبير يوم 29 نوفمبر 1929 لمنعه من الاتصال بالناس "وتسميم أفكارهم". أما عما لحق محمد بوزويته فحدث ولا حرج .
ولعل تزامن استقالة الحاج محمد بن علي بوراس من زاوية بنعيسى – وهي العمود الفقري للنشاط الطرقي بقصر هلال- يوم 2 فيفري 1929 مع افتتاح مدرسة "الهلال" يوم 2 نوفمبر 1929 يمثل رمزا للنقلة النوعية التي شهدها المجتمع الهلالي وهي ذات النقلة النوعية التي عاشها الحاج علي صوة سنة 1919.
لذلك قلت إن الحاج علي صوة هو قصر هلال.
فكيف نعجب إن كانت كل الأحاديث في قصر هلال موصلة إلى الحاج علي صوة ؟
بين الحاج علي صوة والغزالي
عنوان يبدو غريبا غرابة المقارنة بين الثرى والثريا. أو هكذا يبدو. فالغزالي رجل تلقى من العلم ما أهله ليحتل مرتبة "حجة الإسلام". رجل تبحر في علوم الفقه والعلوم الشرعية ومبادئ الفلسفة على كبار الشيوخ في زمانه وعلمها للمئات من الطلاب رجل نال حظوة لدى الملوك والسلاطين. رجل كتب من الكتب ما يعتبر اليوم من العيون. والحاج علي صوة لم يتلق من العلم شيئا ولم يعرف من الحروف إلا حروف إمضائه ولم يحفظ من سور القرآن إلا ما كان يسمح له بأداء الصلوات. رجل لبس الكدرون والبلغة وغطى رأسه المحلوق بشاشية متواضعة لف حولها قماشة.
فما وجه الشبه ؟ وما الداعي إلى المقارنة ؟
لقد كان كلا الأبوين فقيرين. وإذا كان الغزالي ابن رجل يعمل في غزل الصوف ويميل إلى التصوف فقد كان الحاج علي صوة ابن رجل نساج لا نعلم إن كان يميل إلى ارتياد الزوايا. وإذا قال أحدهم بان الفقر منبع التصوف فإن الفقر كان سمة الرجلين في البداية.
لكن البداية لم تكن شبيهة بالنهاية. وذلك شبه آخر. إذ كلاهما انتهى بغير ما ابتدأ.
قال ياقوت الحموي عن الغزالي إنه "نال من الدنيا إربه ثم انقطع إلى العبادة فحج بيت الله الحرام وعمره 38 عاما. تخلى عن التدريس بالمدرسة النظامية ببغداد سنة 1095 م في أوج عطائه وأصبح زاهدا إلى درجة أنه تجاهل احتلال مدينة القدس من طرف الصليبيين سنة 1098م وتوفي متزهّدا سنة 1111م.
والحاج علي صوة حج سنة 1909 وعاد ليتولى شؤون زاويتي عبد السلام بقصر هلال سنة 1911 وعمره 46 عاما. فكلاهما دخل الزاوية بعد الحج. وكلاهما دخل الزاوية في أوج كهولته. وإلى هنا يتوقف التشابه.
كلاهما دخل الزاوية كهلا. لكن الغزالي دخلها ليبقى هناك ويقضي بقية عمره أي 17 عاما بين جدرانها. أما الحاج علي صوة فقد دخلها وعجل بمغادرتها بعد ثمانية أعوام بعد أن أطبق الباب بعنف. وراح يبني جدرانا أخرى. ولو قسنا مسيرة الرجلين بمقياس الحديث النبوي القائل "خيركم أنفعكم للناس" لوجب أن تعترف بتفوق الحاج علي صوة.
رسم الدارسون خطا بيانيا لحياة الغزالي في صعودها واضطرابها وهبوطها فاعتبر بعضهم أنها هبوط بعد صعود حتى قال إن مرضا عقليا أصابه دعاه أحدهم بالاحتراق الروحي واعتبرها آخرون صعودا بعد هبوط وإذا كان انزواء الغزالي صعودا فهل نعتبر مغادرة الحاج علي صوة للزاوية وكل أعماله هبوطا ؟
على كل حال فإن موازاة غريبة وسمت مسيرة الرجلين لكنها عكسية الاتجاه لماذا ؟ أين يكمن السبب ؟
دخل الغزالي – المفكر العظيم- الزاوية وانطوى على نفسه بعد أن كان متفتحا على الدنيا وأهلها. وخرج الحاج علي صوة من الزاوية متفتحا على الدنيا وأهلها فبنى المساجد والمدارس والمستشفى.
لم هذه المعاكسة ؟
إنه المجتمع وإنها التربية أما الطينة فواحدة
الغزالي رجل تعلم وتناوله بالتربية رجال متصوفون تركوا فيه بصمات لم تقدر ظروف الحياة الصاخبة على محوها بل ربما تسببت مظاهر البذخ في تنفيره منها فانتهى به الأمر إلى الاستقالة. والحاج علي صوة لم يتعلم فبقيت نفسه بكرا حتى جاء كل من الحاج سالم عياد- الرجل الإصلاحي العظيم- ومعه محمد بوزويته – رائد النهضة – فحولا دفته صوب العمل. خاتمة سلبية هناك وخاتمة ايجابية هنا ووراءهما رجال ومجتمع. إذ لا ننس أن قرية قصر هلال ليست مدينة بغداد. فهذه الأخيرة عاصمة الدولة العباسية ضمت كل المتناقضات. وقصر هلال قرية أهلها نساجون كادحون. ولا شك أن مصير الرجلين لم يكن ليبقى على حاله لو كان الغزالي هنا والحاج علي صوة هناك.
الحاج علي صوة والتاريخ
حين أقدم الحاج علي صوة على تأسيس المدرسة القرآنية لم يجد الأرض بكرا ولو وجدها كذلك "لاقتصرت مهمته على مقاومة الأمية. وجد بها مدرسة رسمية بذلت السلطة في سبيل زرعها جهودا كبيرة. ولم تكن مستعدة لأن تترك للتنافس الحر مجالا كما يجب أن نذكر بأن المدرسة القرآنية كانت – في نظر القانون- مدرسة حرة. ولنتصور أن مدرسة حرة تنشأ اليوم بقصر هلال وتحاول أن تنافس المدارس الرسمية مجتمعة. وأنها تنجح في ذلك. ولنتصور ما يمكن أن يحدث داخل تلك المدارس من جهة وجنس العلاقات بين تلك المدرسة الحرة والحكومة. هذا رغم أن البرامج والأهداف واحدة.
1- منعت نقلة التلاميذ من مدرستها إلى مدرسة "الهلال" وسمحت بالعمل المعاكس.
2- ضيقت على مدرسة "الهلال" بتعلّة اكتضاض الأقسام ولم يقع تحديد سقف لعدد تلاميذ القسم الواحد بمدرستها حتى وصف أحمد عياد أقسام مكتب الشوك يوم 8 فيفري 1950 "بحقق السردينة طبق على طبق" .
بدأت المضايقات منذ سنة 1930 حين تلقى محمد صوة – مدير المدرسة- لوما لقبوله التلميذ محمد بوغزالة وأرغم على إرجاعه ثم انعقد مؤتمر البعث للحزب الحر الدستوري بقصر هلال يوم 2 مارس 1934 واندلعت حوادث سبتمبر 1934 فوجه الأصبع الاستعماري إلى مدرسة "الهلال".
يوم 14 مارس 1937 كتب فرناند ريكار من القيروان ليحتج على إحداث مدرسة قرآنية بها ويذكر بمعارضته لإحداث مدرسة الهلال حتى حدث في المنطقة ما حدث وأضاف بأنه يلتمس أن يبقى تقريره طي الكتمان فلا يعرف محتواه أحد من الأهالي ومتفقدي العربية. (الوثيقة 6).
يوم 15 مارس 1937 عقب مارصو مارتان متفقد التعليم الفرنسي ليقول حرفيا: "إن مدرسة الهلال سيدة الوضع بقصر هلال وهي خطر على التأثير الفرنسي في هذا القطر".
وقد اطلعنا فيما سبق على زيارة الكاتب العام للحكومة أواخر نوفمبر 1939 للمدرسة القرآنية التي تؤوي 600 شاب دستوري" وما لحق تلك الزيارة من إنشاء مطعم مدرسي بالمدرسة الحكومية.
جيء بالمدير الفرنسي سنة 1928 استعدادا لمواجهة المدرسة القرآنية التي كانت بصدد البناء وأصبح الوضع في أول أكتوبر 1930 على النحو التالي: أربعة أقسام بالمدرسة الحكومية – وعمرها 21 عاما- وبها 151 تلميذا مقابل خمسة أقسام بها 256 تلميذا بمدرسة الهلال وعمرها عام واحد.
كان صراعا وكان الحاج علي صوة قطبه
في شهر مارس 1937 كانت السيدة ريكار وهي معلمة بالمدرسة الحكومية تتقاضى 1653 فرنكا شهريا أي ما يزيد عن ضعف ما تقاضاه عبد الحميد سليم وهو صاحب أرفع مرتب بمدرسة "الهلال" ومقداره 800 فرنك وما يزيد عن ثمانية أضعاف ما تقاضاه البشير الشريف الطرابلسي الذي تقاضى في ذلك الشهر 200 فرنك.
وقد شكرت الصحف عبد الحميد سليم ولم تشكر السيدة ريكار
ولم نكن نحس بما كان يتعرض له معلمونا من الحيف.
لم يكن عمل الحاج علي صوة وعمل جنوده المعلمين مقتصرا على مقاومة الأمية بل تعداها إلى الدفاع عن الذات. إنها قضية وطنية أدرك أبعادها كل من ريكار والكاتب العام للحكومة كارترون حين نعت الرجل بأنه "ذو اتجاه دستوري" لقد دعا آخرون غيره إلى الإصلاح. أما الحاج على صوة فقد أصلح.
لقد تعود بعض المؤرخين على الفصل بين الحركة التربوية والوعي الوطني فصلا يتضمن الاعتقاد بأن الوعي الوطني بضاعة مستوردة أوانها وحي يوحي.
وكان من نتائج ذلك الفصل أن أغمط الحاج علي صوة حقه على منصة التاريخ. فلم يتحدث عنه مقال واحد في كتاب يتحدث عن الإصلاح والمصلحين بينما تحدثت كتب كثيرة عن دعاة. وشتان بين مصلح وداع إليه .
لم ينل حتى ما نالته العزيزة عثمانة التي كتب عنها حسن حسني عبد الوهاب طويلا في كتابين من كتبه. ولم يتفضل بذكره محمد بوذينة في كتابه "مشاهير التونسيين". وهو في نظر المنشورات الهلالية نفسها "الرجل الخيري الصالح المرحوم الحاج علي صوة". ولعل صفة الحاج التي التصقت باسمه ساعدت على إبراز الجانب الديني على حساب الجانب الإصلاحي من عمله.
سألت أحد المسؤولين في قصر هلال أواسط الستينات عما يحول دون إقامة تمثال للحاج علي صوة فمط شفتيه وقال كالمتأسف" لم يكن المرحوم دستوريا". ولم أكن أملك شهادة الأعداء ريكار ومارتان وكارتون ولم أكن أملك شهادة الطيب المهيري فلجأت إلى الصمت.
الحاج علي صوة رجل مكافح صعب المراس لا ملاك ولا درويش ولا ساحر. إنسان أحب الخير لغيره وأحب موطنه وأحب وطنه.
الحاج علي صوة إنسان عاش يتم الأب وعاش أمية الحرف وعاش فقر الجيب. قربت الإنسانية بينه وبين الناس فتبناهم وتبنوه فإذا هو منهم وإذا هو لهم. فغاب اليتم وجاء الوعي وكان الغنى.
كان من نفسه في جيش. أثبتت الوقائع أنه لم يكن يعبأ بصعوبات المكان والمسافات.
اقترحت يوم 7 ماي 1992 إنشاء جائزة أو جوائز سنوية تحمل اسمه على أن يقع إسنادها للأعمال الاجتماعية والإنسانية الهادفة على الصعيد المحلي أو القومي أو على الصعيدين معا.
بين الحاج علي صوة ومحمد بوزويته
لقد لاحظنا من خلال درسنا لمسيرة الرجلين الحاج علي صوة ومحمد بوزويته تشابها غريبا نكتفي بتسجيل مظاهره بدون أن نحاول الإدلاء برأي فضلا عن إصدار حكم. وقد تفيد ملاحظاتنا علماء النفس أو علماء الإجتماع وقد لا تعني شيئا.
كلاهما عاش يتيم الأب وربته إمرأة
كلاهما عاش منعزلا في أسرته بلا إخوة ولا أعمام
كلاهما دخل معترك الحياة مبكرا
كلاهما أمي وإذا تمكن محمد بوزويتة من كتابة بعض الجمل بطريقة عصامية فالحاج علي صوة لم يتعلم سوى الإمضاء.
كلاهما مارس مهنا عديدة مكنته من أن يجوب البلاد طولا وعرضا ويختلط بأوساط مختلفة.
كلاهما تأثر بالحاج سالم عياد واستجاب للدعوة الإصلاحية وعمل – كل في نطاقه- علي تحقيقها.
كلاهما كرس حياته لخدمة المجتمع حسب مؤهلاته وإمكانياته
كلاهما كان صعب المراس قوي الشخصية صلبا حتى العناد لا يقبل أنصاف الحلول. وقد تجلى ذلك لدى الحاج علي صوة في :
- استقالة من الزاوية لا رجعة فيها.
- إصرار على تسمية أبنائه بأسماء معينة (أحمد: أربع مرات – صالح: مرتين – خليفة : مرتين).
- إصرار على إنجاز المشاريع بمفرده
- إصرار على أن المال مال الله وأن المرء مجرد موزع كنادل بمقهى أو مطبخ.
- توزيع الأدوار على أبنائه توزيعا شبه عسكري وتشهد على ذلك عقود التحبيس. وقد قالت جريدة تونس يوم أول جوان 1949 إنه "طوعهم لعمل الخير والتبرع بالجهد" وقال الصادق الشايب عن معاملته لابنه أحمد: "اعتبره أصبح مدرسا ولذا فما عليه إلا أن يعيش من دخله وهذه دائما طبيعة والده" .
وتجلي ذلك لدى محمد بوزويته في:
- التصدي لكل مظاهر الجمود والعادات البالية
- الصمود أمام التهديد والملاحقات القضائية والخطايا والسجون
- جند كافة سكان قصر هلال وشبهه أحدهم ببسمارك
- التضحية بحياته المهنية وتجارته في سبيل القضية الوطنية
- التصدي لما اعتبره انحرافا في مسيرة الكفاح الوطني
- مقاطعة الشعبة الدستورية بقصر هلال
نلاحظ شبها أعده القدر منذ نشأة الرجلين. كل منهما عاش الوحدة العائلية ولم يعرف أخا أو شقيقا وكذلك أبواهما. كل منهما استعاض عن تلك الوحدة العائلية بأنس عائلي موسع. وكلاهما انفتح على العائلة الإنسانية وانتسب إليها في التحام عجيب وكلاهما احتضنته قصر هلال بمحبة واعتزاز.
إنها ملاحظة تدعو إلى التأمل وتحرك المشاعر أحببنا أم كرهنا.
فهل أن كل من ينشأ تلك النشأة الانفرادية يلقي بنفسه في خضم المجتمع؟ أم هل هي الصدفة؟ لا ندري. وقد يكون للباحثين في علم النفس الاجتماعي قولهم في هذا الصدد – لعلها العزلة العائلية التي أضيفت إليها عزلة الأمية دفعت بالرجلين إلى كسر الطوق ومد الذراعين إلى الناس. أليس الإنسان اجتماعيا بطبعه ؟
هل تستطيع النحلة أن تعيش بمفردها بدون أن تفقد كيانها ؟ هل يمكن أن نتصور الحاج علي صوة أو محمد بوزويته خارج الحلبة الاجتماعية ؟
يقيننا أن مصيرهما كان مقررا منذ المنطلق وأن ضربا من الحتمية قد رسم الطريق. لقد حكم عليهما بأن يعيشا في المجتمع وللمجتمع. أما العطاء فهو يختلف باختلاف ما يملكه المرء. ولا وجود لكائن حي لا يملك شيئا إذ هو يملك – على الأقل- حياته. لذلك فهو يملك ما يمكن أن يعطي. وقد تعودنا – خطأ- أن نقصر العطاء على المال. وما هو إلا جزء ضئيل مما يمكن للمرء أن يعطبه. وإذا كان بوزويته قد وهب ماله ونفسه فإن الحاج علي صوة وهب ماله ونفسه وأولاده.
بين الثري والغني
لقد ثرت مرة على نعت أطلقه أحمد بن بكير محمود على الحاج علي صوة بأنه "أحد أثرياء قصر هلال وأتقيائها ورأيت تناقضا بين الثراء والتقوى باعتبار أن التقوى الحقيقية لا تمكن المسلم من أن يصبح ثريا إذا طرح من ماله "الحق المعلوم للسائل والمحروم" واستنتجت أن الحاج علي صوة كان غنيا ولم يكن ثريا. والفرق بين الكلمتين شاسع وعميق.
جاء في القواميس أن الثروة هي الكثرة وأن الثري هو من كثر ماله. وأن الغنى ضد الفقر. ونحن نلاحظ أن الغني هو أحد أسماء الله ولا ينعت الله بالثري. فالثراء أقرب إلى الصفات الذميمة. لذلك ينعت أحيانا بأنه فاحش لأن الثراء جار الفحش. ولا ينعت الغنى بذلك لأن الغنى هو الكفاف. وقد قال المثل الشعبي الذي منه تغذى الحاج علي صوة "الغنى في القلب".
فالحاج علي صوة كان غنيا، أي غنى القلب. كان غنيا لكنه لم يكن ثريا. فإن من تحصل على الكفاف واكتفى به كان غنيا فاستغنى عن المزيد . أصابته الأزمة الاقتصادية فيمن أصابت سنة 1932 فراح ابنه يطلب لمدرسته ما تتمتع به نظيراتها. وقد عجز والده عن تلبية رغبة الناس في توسيع الجامع الكبير بقصر هلال سنة1933 "لتحرّج الحالة الاقتصادية" وأصابه الجفاف فيمن أصاب من الفلاحين ودام طيلة سنوات 1946 و1947 و 1948 فعجز عن دفع ربع مرتبات المعلمين بمدرسة الهلال وهي التكملة التي كان عليه دفعها حسب التراتيب الجديدة. وقد جاء في رد الإدارة على شكوى المعلمين يوم 31 ماي 1948 "أعلمكم أن مؤسس المدرسة وعد بأن يقضيكم بعد شهر ما تأخر من حقكم لعام 1946 بيد أنه غير قادر على دفع ذلك بالنسبة لعامي 1947 و 1948 وتدل عبارات "حقكم" و "وعد" و "غير قادر" على شماتة واضحة ورغبة في تأليب المعلمين وايغار صدروهم. وهي لم تكن لتجيب كذلك لو كان التأخير صادرا عنها.
فالرجل – إذن عاش ضائقة مالية خانقة.
بلى إنه يبدو عليه الثراء لأنه كان غنيا وقد قال المثل الشعبي: "خوذها من يدل الشبعان إذا جاع وما تاخوهاش من يد الجيعان إذا شبع" –رائع !
البركة هي النماء والزيادة. نسمي بها ذريتنا: مبروك، بركة، مبارك، مباركة. ونستعملها كل يوم: الله يبارك، الله يبارك فيك، فيها البركة، نهارك سعيد مبارك، عيدك مبروك، مبروك ما عملت، الله يبارك لك، البركة فيك، تبارك الله...
وإذا تعذر عليك شرح كلمة "بركة" ومشتقاتها تذكر حياة الحاج علي صوة : كل عمل قام به أثمر "الخير والبركة" من حيث يدري ولا يدري. لم يسع إلى الربح فجاء الربح وفيرا. لم يسع إلى الكسب فكسب. أعطى فنال أضعاف ما أعطى وما زال يعطي وما زال ينال. لذلك قيل: أنت عليك بالحركة وربي عليه بالبركة".
كل الأجساد تفنى والويل لمن نسي ما بداخلها.
بلى. كان غنيا وما يزال
لخص الحاج علي صوة كل ذلك "التفلسف" بعبارة رائعة كان يرددها لأبنائه: ربي عطاني وعطيتو وعطيتكم .
التاريخ والعاطفة
طلبت من الفقيد أحمد بن الحاج علي صوة – وهو متفقد عام بوزارة التربية القومية- أن يكتب دراسة عن والده فلم يجب. فاستغربت صمته. ثم مرت الأيام والأعوام وأدركت سر ذلك الصمت.
أدركت ذلك حين لاحظت – عبر التجربة- أن المربي يحتاج إلى غيره لتربية أبنائه وأن الطبيب يحتاج إلى الأطباء لمعالجتهم ولمست من تجربتي بالمعاهد فشل المربين الذين رفضوا الاعتراف بذلك وأقحموا أنفسهم في شؤون أبنائهم إقحاما. وهي شؤون لا تعنيهم إلا بقدر ما تعني غيرهم من الأولياء.
قال عيسى عليه السلام: "إن كان أحد يأتي إلي ولا يبغض أباه وأمه وامرأته وبنيه وإخوته وأخواته بل نفسه أيضا فلا يستطيع أن يكون لي تليمذا".
وقال عبد الملك بن مروان عن ابنه الوليد: "أضرّ بنا في الوليد حبنا له فلم نؤد به".
وقال حطان بن المعلى الطائي:
لولا بنيات كزغب القطـــا حططن من بعض إلى بعــض
لكان لي مضطرب واسع في الأرض ذات الطول والعـرض
وإن أولادنا بيننا أكبــــا دنا تمشي عــــلى الأرض
وقال المثل الشعبي: "أحن مني على ولدي كذاب وأحرص مني على مالي خناب".
وهي أقوال تشهد كلها أن العلاقة العاطفية قد تحول دون الرؤية الواضحة وأن التجرد – أي نزع الثوب العاطفي- قد يكون عسيرا .
تلك الشهادات تثبت أن الاقتراب من منابع النور يبهر الأبصار فيحول بينها وبين الإبصار ولا تبقى عندئذ إلا البصيرة. وأن الاقتراب المفرط من الصورة يغلب الجزء على الكل بحيث يعرف الناظر شيئا وتغيب عنه أشياء لشدة قربها منه أو قربه منها.
نعم، إن الغابة كلما دنوت منها بدت لك شجرة أو بعضها
ولقد كان أحمد صوة على حق. ولو طلب مني أن أكتب عن والدي لرفضت.
وإني لأحمد الله على أنني لم اقترب من الحاج علي صوة اقترابا يعشي البصر أو يعوق البصيرة. ولقد كان لا بد أن يأتي شخص مثلي يتصف بالقرب والبعد معا ليحاول الفهم ثم الإفهام. ولا يقنع إلا من كان مقتنعا لأن مسيرة الحاج علي صوة مليئة بالألغاز والرموز.
قالــــــوا عنه
كتب الزعيم الوطني الطاهر صفر في العدد الأول من النشرية السنوية التي أصدرتها جمعية طلبة شمال إفريقيا المسلمين بفرنسا سنة 1929: "هو أول تونسي حرك فيه حب العلم أريحية نادرة وعطفا فريدا" وأضاف أن عمله "خلد له ذكرى حسنة ردد صداها العالم الإسلامي" .
اعتبره حسين الجزيري – صاحب جريدة النديم- يوم 15 فيفري 1930 "مثالا أعلى لقيام المستطيع ما يجب عليه نحو أمته ووطنه".
لم تكتب عنه السلطة الفرنسية إلا القليل مكتفية بالقول إنها لا تستطيع أن تمنع رجلا يرغب في "نشر التعليم بين مواطنيه". جاء ذلك في مذكرة مؤرخة في 13 جانفي 1930. لكنها صبت جام غضبها على محمد بن عمر بوزويته -رئيس الشعبة الدستورية بقصر هلال- الذي قالت إنه يتصل بالحاج علي صوة يوميا واعتبرته يوم 12 نوفمبر 1929 "عدو فرنسا بلا منازع" .
رأى الطيب بن عيسى – صاحب جريدة النديم- يوم 13 نوفمبر 1930 في الحاج علي صوة رجلا عظيما "يؤثر بأفعاله مالا يؤثر الخطيب والزعيم بأقواله".
كتب الجيلاني حمزة – مدير المدرسة القرآنية بالمهدية يوم 9 مارس 1938 بجريدة النهضة، "الحاج علي صوة سارت بحديثه الركبان وأثنت على غيرته على الأمة في كل آن".
لم تلبث اللهجة الرسمية إزاء الحاج علي صوة حتى تغيرت إذ نعته الكاتب العام لحكومة الحماية Carteron يوم 17 نوفمبر 1937 حين زار مدرسة "الهلال" بأنه "رجل زيت ذو اتجاه دستوري un huileux à tendance destourienne
دعاه أحمد صفر متفقد اللغة العربية بالمدارس الابتدائية 3 جويلية 1944 "بالمؤسس الأكبر". وكان ذلك بمناسبة التفكير في إنشاء مدرسة قرآنية للبنات بقصر هلال (وثيقة 27).
نعته الطيب المهيري – مدير الحزب الدستوري– "بالزعيم الصامت". وكان ذلك يوم 12 نوفمبر 1954 بالمدرسة الهلالية برحبة الغنم بالعاصمة أثناء إحياء الذكرى الأولى لوفاة الحاج علي صوة. وهو إحياء نظمته جمعية "الشباب الأدبي الهلالي" برئاسة محي الدين حافظ الشملي وحضره رؤساء المنظمات القومية وقد جعلنا ذلك النعت عنوانا لكتابنا (الوثيقة 24).
كتبت جريدة الوزير يوم 30 جانفي 1930: مما يؤثر عن مؤسس المدرسة القرآنية الهلالية أن أشخاصا أسخياء عرضوا عليه مساعدتهم بالمال سعيا وراء الثواب ... فأجابهم بقوله: "إذا رغبتم في ذلك فأحدثوا غيرها" وكان يشارك العمال في البناء من رفع الأحجار وجر الأثقال بنفسه والحال أنه لم يكن من أرباب صناعة البناء وإنما جره لهذا العمل الشاق سعيه في الخير وكفى.
شرع في بناء مدرسة الهلال سنة 1927 وساهم في أشغال البناء بنفسه مساهمة اعتبرها المستشرق Jacques Berque تحولا في العقليات. وهو تفاؤل لم تؤكده الأحداث. فقلما نجد اليوم رجلا يعمل لصالح المجموعة بماله وذراعه كما فعل الحاج علي صوة منذ ثمانين عاما.
سنة 1968 قارن محمد صالح المهيدي – الكاتب والصحفي- بين الحاج علي صوة من جهة والعزيزة عثمانة وألفريد نوبل من جهة أخرى. ولست أوافق على تلك المقارنة رغم سلامة ظاهرها. ذلك أن الحاج علي صوة لم يكن أميرا أو ابنا لعثمان داي ولم يتعلم ما تعلمته العزيزة عثمانة (1606-1669) من أصول الدين ودروس الأدب بالإضافة إلى حفظ القرآن الكريم. ولم يكتشف المتفجرات التي اكتشفها ألفريد نوبل ولم يحدث جائزة للتكفير عن ذلك. وإذا اعتبر المهيدي جائزة نوبل "تاجا يوضع على الرؤوس" فهو محق في ذلك ولكنه لم يكن محقا في الحديث عن الروح السامية التي تحلى بها ألفريد نوبل. فقد بدأ نوبل بمشروع يتمثل في إنشاء مواقع لإحراق الجثث Crematoire قبل أن يتخلى عنه للمعارضة الشديدة التي لقيها من البابا .
سنة 1969 – بمناسبة الذكرى السادسة عشرة لوفاة الحاج علي صوة – تحدث حسن بن محمد الحجري- الكاتب العام لشعبة قصر هلال الدستورية- عن التجاوب واللقاء بين رجل السياسة محمد بوزويته ورجل البر والخير علي صوة وتأثرهما بالدعوة الإصلاحية في المشرق كيف ذلك؟ كيف ذلك والرجلان أميان ؟
نعته حافظ بن أحمد الشرفي – رئيس اللجنة الثقافية المحلية بقصر هلال- خلال تلك الذكرى "بالرجل الصالح". هكذا الرجل الصالح أي الرجل الذي يصلح (بفتح الياء) لا الرجل الذي يصلح (بضم الياء).
تحدث البشير بن محمد قم- الكاتب العام لفرع منظمة التربية والأسرة بقصر هلال- خلال المناسبة نفسها عن أيادي الحاج علي صوة البيضاء نعم لكن متى أبيضت ؟ وكيف أبيضت سنة 1927 وعمره ستون عاما ؟
تحدث حسن بن علي الأحول- الكاتب العام لفرع التضامن الاجتماعي بقصر هلال- خلال المناسبة ذاتها عن إنشاء المستشفى بقصر هلال سنة 1948 (هكذا) وقال إن الحاج علي صوة كان ذا روح إنشائية عالية جبلت على الخير وحب البشر والعمل الدائب من أجل التقدم والرقي هكذا "جبلت" ؟ هو إذن من طينة الأنبياء. ما فضله إذن؟ ما فضل من خلق آلة لفعل الخير ؟ هل تحاسب الآلات ؟
سئل أحدهم عن قصة سيدنا يوسف عليه السلام فقال باختصار شديد: طاح في البير وطلعوه". أما ما حدث قبل ذلك وما حدث بعده فلا يهم.
سنة 1975 تحدث أحمد بن بكير محمود عن الحاج علي صوة فكتب أنه "أحد أثرياء قصر هلال وأتقيائها وقد رددت أكثر من مرة على ذلك الرأي.
وأما إبراهيم عبد الله فهو لم يذكر اسم الحاج علي صوة بكتابه الذي يضم 230 صفحة وخصصه للحديث عن جذور الحركة الوطنية التونسية عموما فيما دعاه بالشروق وقد غاب عنه – رغم أنه من مواليد 1917 أن الحاج علي صوة ومدرسته قد واكبا ذلك الشروق مواكبة فاعلة. وقد أثبتنا ذلك بالأدلة والبراهين. صحيح أنه درس بالمدرسة الفرنكوعربية لكنه زاول التدريس بمدرسة "الهلال" بضعة أشهر من سنة 1940 قبل أن يجبر محمد صوة – مدير المدرسة- على فصله لأسباب سياسية. ولعل ذلك الفصل قد حز في نفسه وترك بها ألما جعله يقف من المدرسة ومنشئها موقفا سلبيا. وما يزيدنا اقتناعا بذلك أنه أغفل ذكرها في تسجيلات صوتية دامت خمس ساعات أدلى بها إلى المعهد الأعلى لتاريخ الحركة الوطنية سنة 1994- هكذا نحن !
تحدث أحمد بن الحاج علي صوة عن أبيه يوم 7 ماي 1992 فقال إن حوارا دار بدكان عثمان الشملي وبحضور محمد بوزويته عن رغبة السكان في إنشاء مدرسة قرآنية وأنهم يبحثون عن الموقع المناسب فعرض الحاج علي صوة أرضه ببئر بوعجيل. ثم أثير موضوع التمويل وعجز الناس عنه فتطوع الحاج علي صوة. هكذا وبكل بساطة لماذا طرح القوم السؤال على الحاج علي صوة بالذات ؟ ثم لماذا تبرع بأرضه وهو الرجل الأمي؟ لماذا كان ما كان؟ هل كل من تلقى عليه تلك الأسئلة يجيب بما أجاب به الحاج علي صوة ؟ ليت الفقيد أحمد صوة – وهو المتفقد العام للتربية القومية- ذهب إلى أبعد مما فعل.
تحدث عنه أحمد بن الحاج قاسم قعليش أمام الباي يوم 13 سبتمبر 1951 فقال: وجدت منه الحركة الوطنية بالساحل خير ساعد في الملمات وأقوى عضد في المهمات وخير سند في المبرات" .
ما نلاحظه من أقوال الناس عن الحاج علي صوة:
- أنها تتضمن أحكاما. فهم لا يحاولون فهمه بقدر ما يجرؤون على الحكم له أو عليه. غاب عنهم أن الحكم لله والتاريخ. ذلك التاريخ الذي عبر عنه تعالى بقوله: "أما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض (الرعد 17).
- أنهم يتحدثون عنه حديثهم عن كائن يقع بين السماء والأرض بل أقرب إلى السماء منه إلى الأرض. فلا هو ملاك ولا هو إنسان. لقد غدا عندهم كائنا أسطوريا. أصبحت حياته خرافة وأصبح الحديث عنه تخريفا. وذلك هو شأن كل حديث خلا من التوثيق. وقد غاب عنهم أنهم بذلك يفصلونه عن بني جنسه ويجعلون محاولة الاقتداء به شبه مستحيلة. إذ كيف يمكن الاقتداء بالملائكة؟
نشرت جمعية الشباب الأدبي الهلالي في الذكرى الأولى لوفاة الحاج علي صوة نشرية بها مقال طويل به وعظ منبري يقارن بين الحاج علي صوة ورجال المال والأعمال. فإذا هي حملة عشواء عليهم وإذا هي الهوة تزداد عمقا وإذا هو الثريّا أو فوقها وهم الثرى أو دونه. وكيف يلتقي الثرى والثريّا ؟
كما ساهم حفيده خليف بن امحمد صوة في تحرير النشرية بمقال تحت عنوان "حياته وأثاره" أغفل أن يذكر أنه سبق أن نشره بجريدة الأخبار بداية من يوم 5 نوفمبر 1953؟
أما هو فقد قال عن نفسه: "إذا ما ربحت في الدنيا نربح في الآخرة" .
وبعــــد،
نرى أن الله قد أكرم الحاج علي صوة إذ أراحه من حضور مشهدين فظيعين:
1- مشهد رئيس الجمهورية وهو يدشن مستشفى قصر هلال يوم 6 مارس 1959 صحبة أعضاء الحكومة والديوان السياسي. وقد مضى عام على اعتقال ابنه أحمد لأسباب سياسية في نطاق ما دعي بالمؤامرة اليوسفية أو "قضية التآمر على أمن الدولة" والتي اعتقل فيها 56 شخصا من بينهم أحمد صوة وابراهيم عبد الله والصادق الشايب .
اعتقل يوم 25 فيفري 1958 ليلا وهو مصاب بمرض صدري وأغمي على والدته أثناء اعتقاله. وقع تعذيبه طيلة شهرين و"تعليقه" طيلة عشرين يوما. وما آلمه أكثر هو شتم والده – أي الحاج علي صوة. وقال له رئيس المحكمة – كما قال آخر عن الحاج علي صوة- : إنك لم تكن دستوريا .
وقع الإعلان عن الاعتقال يوم 5 مارس وصدر الحكم يوم 23 ديسمبر 1958 على أحمد صوة وابراهيم عبد الله بالسجن لمدة خمسة أعوام وعدم سماع الدعوى للصادق الشايب بعد أن طلب المدعي العام الطاهر دبية عشرين عاما. وكان محمد القنوني عضوا بالمحكمة صحبة محمود زهيوة وكان رئيسها محمد فرحات.
أطلق سراحه يوم 30 ماي 1960 صحبة إبراهيم عبد الله إثر عفو رئاسي مع السراح الشرطي وولدت ابنته فاطمة وهو بالسجن.
جرى التدشين وأحمد صوة محكوم عليه بخمسة أعوام سجنا لأن صالح بن يوسف حضر حفل زفافه بالقاهرة !
فهل كان الحبيب بورقيبة يعرف أن ابن واهب المؤسسة التي يدشنها رهن سجونه السياسية ؟
2- مشهد المبيت الذي شيده بالمال والمعاناة ووهبه لطلاب العلم ونوهت به كافة الأوساط والجرافات تهدمه لتوسيع "ساحة معقل الزعيم" ولم يمض على بنائه عشرون عاما. سنة 1960.
وأنا لنحس اليوم بغصة كلما مررنا اليوم بتلك الساحة التي أصبحت اليوم خالية موحشة.
يا أيتها النفس...
شهدت قصر هلال في تاريخها المعروف جنازتين عظيمتين شيعت فيهما ابنين من أبنائها:
- كانت إحداهما جنازة الحاج سالم عياد يوم 5 جوان 1928 وتحدثت عنها جريدة "الصواب" يوم 6 جويلية 1928 (أنظر الوثيقة).
- وكانت الثانية جنازة الحاج علي صوة يوم أول نوفمبر 1953 وتتحدث عنها الصورتان التاليتان.
من النادر أن نرى نعشا يرفع على الأكف
وللتاريخ نعيد نشر البلاغ الصادر بجريدة النهضة يوم 8 نوفمبر 1953: إن آل صوة يشكرون جميع السادة الذين شاركوهم في مصابهم الجسيم بفقد والدهم صاحب المبرّات العديدة الحاج علي صوة سواء بالحضور في تشييع الجنازة أو برسائل التعزية ويتمنون أن لا يريهم الله تعالى مكروها في عزيز عليهم إنه سميع مجيب.
رزنامة الحاج علي صوة
1909 الحج
25 جويلية 1911 تولي مشيخة زاويتي سيدي عبد السلام بقصر هلال
15 ديسمبر 1919 استقالة من مشيخة الزاويتين
2 فيفري 1920 التصويت لفائدة خلفه بالزاويتين
25 أفريل 1922 وفاة أمه فاطمة بنت الحاج علي سعيدان
1922-1923 اقتناء هنشير شراحل
1927-1929 بناء المدرسة القرآنية "الهلال" بقصر هلال
2 نوفمبر 1929 افتتاح مدرسة "الهلال"
21 جانفي 1930 اقتناء دار ودكان لتوسيع الجامع الكبير
26 أكتوبر 1930 حفل زفاف لابنيه محمد وعبد الله
2 جويلية 1932 تحبيس مدرسة "الهلال"
ديسمبر 1938 طلب أرض من الوزارة الكبرى لبناء مبيت بالعاصمة
5 نوفمبر 1942 افتتاح المدرسة الهلالية بالعاصمة
21 مارس 1944 شكوى إلى المقيم العام من احتلال الدخلاء للمبيت
17 جويلية 1944 رسالة للإعلان عن اعتزامه فتح أقسام للبنات
1948 بناء حمام بقصر هلال وتحبيسه على المدرسة
1951 بناء جامع الزمزمية بمنزل قابس
13 سبتمبر 1951 دعوة الباي لوضع الحجر الأساسي لمستشفى قصر هلال
17 نوفمبر 1951 تحبيس المستشفى وبداية الأشغال
1952 توسيع جامع بوزير (الحاج سويد) بقصر هلال
1952 إعادة بناء مسجد الباب الجبلي (جامع الجبل) بقصر هلال
1952 تحسين مسجد الباب الشرقي (جامع الخميري) بقصر هلال
28 أوت 1953 تحبيس هنشير البزازية على المستشفى
31 أكتوبر 1953 الوفاة (دفن يوم 1 نوفمبر 1953)
الحاج علي صوة،الزعيم الصامت لقصرهلال بقلم الأستاذ الحبيب ابراهم
يتبع