حقوق المراة التونسية - مجلة الأحوال الشخصيّة والمنظومة الدولية


مجلة الأحوال الشخصيّة والمنظومة الدولية
حقوق المراة التونسية - مجلة الأحوال الشخصيّة والمنظومة الدولية
بقلم السيدة راضية بن صالح
المديرة العامة للمعهد الأعلى للقضاء


يتميّز العصر الحديث بالقفزة الكبرى التي عرفتها معيشة الإنسان من حيث مستواها ونوعيتها. فلقد شهد مستوى العيش تطوّرا كبيرا، كما أنّ نمط العيش عرف مسارا موازيا حيث تزايد الإهتمام بظروف عيش الإنسان وبالعوامل التي من شأنها أن تضمن إمكانية تمتّعه بحياته، بما يمكن أن يجعله ينصرف أيضا إلى العمل لتحسين مستوى معيشته.
وفي هذا الإطار جاءت موجة الإهتمام العالمي بمسألة حقوق الإنسان بشكل عام وبضرورة منحه الحريات اللازمة لذلك. وتمثل سنة 1948 تاريخا مضيئا في هذا المجال حيث أنه بتاريخ 10 ديسمبر 1948 صدر عن الأمم المتحدة الميثاق العالمي لحقوق الإنسان والذي ولئن لم يكتس صبغة الاتفاقية الدولية ولم تكن له قيمة النصّ القانوني فإنّه أصبح في الواقع أكثر إلزامية من النصوص ذات القيمة القانونية بحكم إنخراط كافة أمم الأرض في مسار النهوض بحقوق الإنسان والحفاظ على حرياته. وفي هذا الإطار أيضا صدر العهدان الدوليان الخاصيـن بالحقـوق الإقتصـادية والإجتماعية والثقافيـة وبالحقـوق المدنيـة والسيـاسيـة المصادق عليهما في 29 نوفمبر 1968.
وبالتوازي مع هذا التمشّي نحو حماية حقوق الإنسان فقد وجد تيار يسعى إلى التركيز على حقوق المرأة خصوصا أنّ دراسة تاريخ البشرية تؤكّد أنه في أغلب الأحيان عانت المرأة من الضغوطات التي تعرّض لها "الإنسان" عموما، علاوة على معاناتها من قيود أخرى بسبب جنسها ووضعها العائلي فكانت محرومة من مجمل الحقوق في نطاق الحياة العائلية وخارجها بل أكثر من ذلك فقد كانت تعدّ ملكا لزوجها وأبيها، وللزوج أن يرغمها على الطاعة كما يملك بأن يقدمها لدائنيه ضمانا لديونه وينظر إليها مثلما ينظر للعبيد وللرجل عليها حق الحياة والموت. ففي المدنيات القديمة في الهند كانت النساء تعزلن في مؤخرات المنازل داخل غرف خانقة مغلقة النوافذ لا يدخلها الضوء أو الهواء حتى لا يتمكن رجل آخر من رؤيتهن وكان عليهن أن ينتحرن إذا مات أزواجهن. وفي الصين كانت تربط أقدام البنات بأشرطة ضاغطة بإحكام كي تتوقف عن النمو وتبقى صغيرة ناعمة لا تزيد عن عشرة سنتيمترات وذلك كي تحظى بإعجاب الرجال. وفي الحضارة اليونانية لم يكن للنساء الحق في الإشتراك في الإجتماعات العامة وكان ينظر إليهنّ مثلما ينظر إلى العبيد والأطفال(1). وفي اليابان كان خدم الزوج الياباني يشغلون الغرف الأمامية من المنزل في ما تظل النساء في غرف خلفية حتى لا يراهن أحد، وفي عصر الجاهلية العربية كان الأب يقتل بناته خشية الفقر أوالعار وفي أماكن أخرى من العالم وحتى وقت قريب في القرن العشرين استخدمت النساء لجرّ المحاريث مع الحمير والثيران(1).
لذلك انصرف الإهتمام إلى الحرص على حماية حقوق فئات خاصة من البشر كالعملة والأطفال والنساء فكان أن صدرت عن منظمة الأمم المتحدة الاتفاقية المؤرّخة في 18 ديسمبر 1979 المتعلقة بالقضاء على جميع أشكال التمييز ضدّ المرأة التي صادقت عليها تونس في 12 جويلية 1985 والتي يتّضح من تسميتها أن غايتها طموحة جدّا إذ تهدف إلى إزالة كل أشكال التفرقة بين المرأة والرجل مع أنّ هذه التفرقة عمّرت قرونا طويلة وأفرزتها في ذات الوقت عوامل بيولوجية واقتصادية وثقافية.
لم تبق البلاد التونسية بمعزل عن هذه الحركة الكونية فكما عدلت تشريعها الداخلي على مضمون الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لسنة 1948 فقد صادقت على جلّ الإتفاقيات التي تهدف إلى إزالة كلّ أشكال التمييز ضدّ المرأة.
من ذلك الاتفاقية بشـأن جنسيـة المـرأة المتزوجـة وذلك في 21 نوفمبر 1967. ثمّ الاتفاقية بشأن الرضا بالزواج والحد الأدنى لسنّ الزواج وتسجيل عقود الزواج (اتفاقية كوبنهاقن) التي صادقت عليها تونس في 21 نوفمبر 1967 والمنشورة بالرائد الرسمي في 4 ماي 1968. ونذكر أيضا الإتفاقية بشأن الحقوق السياسية للمرأة المصادق عليها في 21 نوفمبر 1967. واتفاقية حقوق الطفل التي صادقت عليها تونس في 29 نوفمبر 1991.
وإلى جانب هذا الاعتراف الدولي لحقوق المرأة فإن منظمة العمل العربية قد اهتمت بوضعية المرأة العاملة وحرصت هي الأخرى على حمايتها صحيّا وأخلاقيا فنظمت عملها الليلي (اتفاقية 1948) وسوت أجرها مع أجر الرجل (الاتفاقية عدد100 لسنة1951) ومنعت استخدامها تحت سطح الأرض (1935) ونظمـت حريتهـا وحقهـا النقابي (9/7/1948) كما صادقت تونس في 20 أوت 1959 على اتفاقية عدم التمييز في مجال الإستخدام والمهنة وعلى الإتفاقية الخاصة بمكافحة التمييز في مجال التعليم وذلك في 26 جويلية 1969.
تلك هي أهم المواثيق الدولية المكرسة لحقوق المرأة بدون تمييز جنسي أو جغرافي.
إلاّ أنّه وبما أنّ الاتفاقيات تضمّنت قواعد عامة مجرّدة ذات صبغة توجيهية في عديد موادها فقد تولّت السلط العمومية تحويل مبادئها إلى قواعد واضحة وأكثر تفصيلا عبر سنّ العديد من النصوص القانونية والترتيبية وإيجاد عديد الهياكل والآليات التي تكفل تحوّل المبادئ العامة إلى واقع ملموس.
ويمكن التعرّض إلى بيان ذلك من خلال دراسة التشريع الداخلي التونسي من خلال الإتفاقيات الدولية وذلك على مستوى الأسرة.
حقوق المرأة في إطار حياتها الأسرية :
يتجه الإشارة بصفة أوّلية إلى أنه سيقع اعتماد عبارة الحياة الأسرية" بمفهومها الواسع على أنّ المقصود بها هو كلّ ما له علاقة من بعيد أو من قريب بالعائلة الموسّعة للمرأة بداية من عائلتها الأصلية التي تولد في أحضانها انتهاء إلى العائلة التي تكونها من خلال إنشاء رابطة الزوجية مع الإشارة إلى أنّ الأسرة طوال التاريخ لم تكن دائما أبوية أي ينتسب فيها الأبناء إلى الأب بل إلى الآن في بعض القبائل وفي أماكن متفرقة في العالم فإن الأسرة أمومية تخرج فيها المرأة إلى العمل بينما يبقى الآباء في المنازل للقيام بالشؤون العائلية كما أن الزوج عند الزواج هو الذي ينتقل إلى منزل أهل زوجته ليعيش معها.
ويتطلّب دراسة حقوق المرأة في إطار حياتها الأسرية من خلال مجلة الأحوال الشخصية والمنظومة الدولية(1) التعرّض إلى حقوق المرأة في إطـار:
الجنسية،
الأهلية،
الطفولة،
الزواج وما يترتّب عنه،
الملكية ونظام أملاك الزوجين.
أحكام الميراث.
أ - جنسية المرأة وأبنائـهـا :
قبل سنة 1993 كانت مجلّة الجنسية تقتضي في فصلها السادس أنّ الجنسية التونسية تسند للشخص بموجب النسب في الصور التالية :
إذا ولد لأب تونسي،
إذا ولد من أم تونسية وأب مجهولا أو لا جنسية له أو مجهول الجنسية،
إذا ولد بتونس من أم تونسية وأب أجنبي.
بحيث أن الأصل هو إلحاق نسب الإبن بنسب أبيه، أما جنسية الأم فلا تسري على الأبناء إلا في حالات خاصة أو بصفة تبعية تكملة لمعيار الولادة بتونس(حق الإقليم) وهذه الأولوية الممنوحة للأب في نقل جنسيته إلى الأبناء كانت محلّ جدل إذ أنها تعد شكلا من أشكال التمييز بين الرجل والمرأة والتي جاءت اتفاقية "كوبنهاقن" للقضاء عليها إذ جاء بالمادة الثانية منها أنّه على الدول الأطراف "اتخاذ جميع التدابير المناسبة بما في ذلك التشريع لتعديل أو إلغاء القوانين والأنظمة والأعراف والممارسات القائمة التي تشكل تمييزا ضدّ المرأة".
كما تقتضي المادة التاسعة من الإتفاقية المذكورة أنّه "تمنح الدول الأطراف المرأة حقا مساويا لحق الرجل في اكتساب جنسيتها أو الإحتفاظ بها أو تغييرها وتضمن بوجه خاص ألاّ يترتّب على الزواج من أجنبي أو تغيير جنسية الزوج أثناء الزواج، أي تغيير تلقائيا لجنسية الزوجة، أو أن تصبح بلا جنسية أو أن تفرض عليها جنسية الزوج".
ولئن كان التشريع التونسي السابق لسنة 1993 يكرّس مبدأ احتفاظ الزوجة بجنسيتها بعد الزواج مع تخويلها إمكانية كسب الجنسية التونسية بمجرّد الزواج من تونسي إذا كان قانونها الوطني الأصلي يجرّدها من جنسيتها الأصلية (الفصل 13 من مجلة الجنسية) والإحتفاظ بلقبها العائلي الأصلي بعد الزواج فإنه كان يكرّس التمييز بين الأبوين في نقل جنسيتهما إلى أبنائهما إذ تعطى الأولية في ذلك إلى الأب في حين أنّ الأم لا تعطي جنسيتها لأبنائها إلاّ إذا ولدوا بتونس في حين أن الأب ليس وحده الذي يزرع في أبنائه الشعور بالوطنية والإنتماء بل إن الأم تلعب دورا واضحا في تنمية هذا الشعور لدى الأبناء ولهذا السبب فقد تولّى المشرّع تنقيح الفصل 12 من مجلة الجنسية بموجب القانون المؤرخ في 12 جويلية 1993 حيث أصبح ينصّ على إمكانية تمتّع الإبن بجنسية أمه التونسية حتى ولو كان مولودا خارج البلاد التونسية بشرط أن يطالب بهذه الصفة بمقتضى تصريح خلال العام السابق لبلوغ سنّ الرشد. وإذا كان سنّه دون التسعة عشر عاما، فإنه يمكنه الحصول على الجنسية التونسية بمجرّد تصريح مشترك يصدر عن أبويه معا واشتراط المشرّع تصريحا مشتركا حال في بعض الصور دون اكتساب الإبن الجنسية التونسية خاصة عند وفاة الأب أو فقدانه أو انعدام أهليته قانونا ولتفادي مثل هذه الوضعيات تدخل المشرّع بمقتضى القانون عدد 4 لسنة 2002 المؤرخ في 21 جانفي 2002 لينقّح الفصل 12 بالكيفية التي تسمح بالإكتفاء بتصريح الأم وحدها في صورة وفاة الأب أو فقدانه أهليته أو انعدامها وهي صور يستحيل فيها الحصول على تصريح مشترك، على أنه يبدو من الضروري التدخل مجددّا للتنصيص على بعض الصور الأخرى حتى لا يحرم الطفل المولود بالخارج من أم تونسية وأب أجنبي من اكتساب الجنسية التونسية من ذلك إذا كان الوالدان على قيد الحياة وهما في حالة فراق بموجب الطلاق إذ أنه من الصعب تصور صدور تصريح مشترك منهما وكذلك الأمر في صورة وفاة الأم أو فقدانها أو انعدام أهليتها وذلك يقتضي التنصيص على الإكتفاء بتصريح من بقي من الوالدين حيّا .
ويستخلص من ذلك أنّ جنسية الأم التونسية لم تعد معيارا ثانويا أو تكميليا يلصق بمعيار مكان الولادة حتى يكتسب الإبن الجنسية التونسية، بل أصبح معيارا مستقلاّ وقائما بنفسه في هذا الشأن، على أنّ رفع التمييز كليّا في هذا المجال يقتضي أن تسند للأبناء الجنسية التونسية إذا ولدوا من أمّ تونسية فقط دون اشتراط ولادة الأبناء بتراب الجمهورية.
ب- أهلية المـرأة :
في بدايات القرن، منح التشريع التونسي للمرأة وضعية دونية إزاء الرجل، بإعطائها مكانة تقارب مكانة القاصر في جميع مراحل حياتها، ثم وقع التخلي تدريجيا عن مجمل الأحكام المكرسة لذلك التوجه.
فمن ناحية، أصبح الفصل 7من مجلة الالتزامات والعقود، منذ 3 أوت 1956، ينص على أن "كل إنسان، ذكرا كان أو أنثى تجاوز عمره عشرين سنة كاملة يعتبر رشيدا بمقتضى هذا القانون"
ومن ناحية ثانية، فإن بعض الأحكام القانونية الواردة بمجلة الإلتزامات والعقود التي تقتضي أنه "ليس للزوجة أن تؤجر نفسها للخدمة أو الرضاع إلا برضاء زوجها وإلا فله فسخ الإجارة" كذلك النص الذي يقتضي أن الزوجة لا تتجاوز كفالتها ثلث مالها إلاّ إذا أذن زوجها في الأكثر وإذنه لا يعدّ كفالة منه إلا إذا صرّح بذلك ...". فقد تمّ إلغاءهما بموجب القانون عدد 17 لسنة 2000 المؤرخ في 7 فيفري 2000، كما أنه تمّ تكريس مبدأ المساواة بين المرأة والرجل من خلال تنقيح الفصل 1138 في 9 أوت 2005 الذي كان يفرد الرجل بأحكام خاصة إذا كان وكيلا عن زوجته أو عن أخته أو عن أحد أفراد عائلته وكذلك الفصل 1158 الذي كان يتضمن أحكاما تتعلق بانفساخ وكالة الزوج عن زوجته بالطلاق وأصبح هذا الفصل في صيغته الجديدة يكرّس المساواة بين الزوجين وذلك بانتهاء الوكالة المسندة لأحد الزوجين إلى الآخر بالطلاق.
وانطلاقا ممّا تقدّم، نستنتج أن أهلية المرأة أصبحت كاملة، وأنها لا تختلف من هذه الناحية في شيء عن الرجل. فيمكنها أن تبرم جميع أنواع العقود والتصرفات القانونية، بداية من بلوغـها سنّ الرشد المحدّد قانــونا بعشرين سنة عــدا صـور الترشيد (émancipation) التي وردت بتنقيح سنة 1993 الذي جاء بتجديد هامّ ضمن الفصل 153 من مجلة الأحوال الشخصية بأن نصّ على أنّ زواج القاصر يرشده إذا تجاوز السابعة عشر من عمره.
ويستخلص من ذلك أنّ المرأة أصبحت قادرة على إبرام كلّ العقود الناقلة للملكية، وعقود الاقتراض والاستدانة، والكفالة والشركة وغيرها من المعاملات المالية، بمقابل وبدونه، والداخلة في إطار نشاط تجاري أو غير تجاري خصوصا وأن أحكام الفصول من 2 إلى 6 من المجلة التجارية والمتعلقة بالتجار تتحدث عن شروط مباشرة المهن التجارية من قبل كل «شخص» دون تفرقة في ذلك بين الرجل والمرأة (الفصول 2 و3 و5 و6). وقد تكرّس ذلك فعليّا بالمساهمة النشيطة للمرأة في الحياة الاقتصادية، حيث أصبحت تمارس النشاط التجاري وتساهم في بعث المشاريع الاقتصادية، وتجتمع النسوة صاحبات المشاريع الاقتصادية تحت لواء * "الغرفة الوطنية للنساء صاحبات المشاريع الاقتصادية ".
وتأتي الأحكام الخاصة بالأهلية المذكورة آنفا في نفس إطار أحكام المادة 15من اتفاقية "كوبنهاقن" التي تنص في فقرتها الثانية على أن "تمنح الدول الأطراف (في الاتفاقية) المرأة في الشؤون المدنية، أهلية قانونية مماثلة لأهلية الرجل، ونفس فرص ممارسة تلك الأهلية. وتكفل للمرأة بوجه خاص حقوقا مساوية لحقوق الرجل في إبرام العقود وإدارة الممتلكات، وتعاملها على قدم المساواة في جميع مراحل الإجراءات المتبعة في المحاكم والهيئات القضائية*».
أما الفقرة الثالثة من نفس الفصل فهي تنصّ على "اعتبار جميع العقود وسائر أنواع الصكوك الخاصة التي لها أثر قانوني يستهدف تقييد الأهلية القانوني للمرأة باطلة ولاغية".
ج – حماية القانون لطفولة المـرأة :
لئن كان من الجليّ أنّ المرأة ظلّت محتاجة إلى نظام قانوني يكفل حمايتها من عديد الممارسات الماسة بحريتها أو بحقوقها كإنسان، فإنّه من المحقّق أن الطفلة تحتاج إلى حماية أكبر بحكم تكوينها الفيزيولوجي وبحكم صغر سنّها وقد شدّدت اتفاقية "كوبنهاقن" على هذه المسألة إذ خصصت عديد المواد لحقوق الطفلة، ومنها على وجه الخصوص المواد 6 و 10 و11 و 16 كما تمّ إصدار اتفاقية أممية لحقوق الطفل في 20 ديسمبر 1989 صادقت البلاد التونسية عليها في 11 جانفي 1992 وقد اهتمت هذه الإتفاقية بحقوق الأطفال بوجه عام، كما خصّت الإناث منهم ببعض المواد على غرار المواد 34 و 28 و 29 و 32 و 24 و 26. وإثر هذه المصادقة أدرجت حقوق الطفل في التشريع الداخلي التونسي بموجب القانون عدد 92 لسنة 1995 المؤرّخ في 9 نوفمبر 1995 المتعلق بإصدار مجلّة حماية الطفل.


وانطلاقا من مجمل هذه الأحكام فإنّ النظام القانوني التونسي يضمـن للطفلـة :
الحق في التمتع بنسب والدها بمجرّد ولادتها وذلك سواء كانت ولادتها في إطار علاقة زوجية أو خارجها (الفصل 68 من مجلة الأحوال الشخصية، والقانون المتعلق بإسناد لقب عائلي للأطفال المهملين ومجهولي النسب الصادر في 28 أكتوبر 1998 الذي تمّ تنقيحه سنة 2004 والذي مكّن الأم من إسناد لقبها لأبنها مجهول النسب وطلب إجراء تحليل جيني لإثبات الأبوّة).
الحق في الرعاية الصحية وذلك بالتمتع بأعلى مستوى صحي يمكن بلوغه ، وكذلك بمرافق العلاج، ويشمل ذلك الحق أيضا الحماية من سوء التغذية (المادة 24 من اتفاقية حقوق الطفل).
الحق في الإنتافع بخدمات الضمان الإجتماعي.
الحق في التربية والتعليم على أساس تكافؤ الفرص مع الذكور، ذلك أنّ التعليم إجباري ومجاني من سنّ السادسة إلى سنّ السادسة عشر بشرط أن تكون الطفلة قادرة على مواصلة تعلمها بصفة طبيعية وكضمان لهذا الحق فقد اقتضى القانون المتعلق بالنظام التربوي أن الوليّ الذي يمتنع عن إلحاق منظوريه بمؤسسات التعليم الأساسي أو بسحبه منها قبل بلوغه سنّ السادسة عشر رغم قدرته على مواصلة الدراسة بصفة طبيعية يتعرّض إلى عقاب جزائي يضاعف في صورة العود.
الحق في الحماية من الإستغلال الجنسي ومن الإعتداءات الجنسية عموما، وذلك عبر اعتبار صغر السنّ نافيا لوجود رضاء بالتعرّض إلى الفعل الجنسي من قبل الطفلة بحيث أن مواقعة الصبية دون عنف تعدّ جناية متى كان عمرها دون الخامسة عشر، وتعدّ جنحة متى كان عمرها بين 15 و 20 سنة (الفصل 227 من المجلة الجنائية). أما إذا كان الفعل الجنسي صادرا عمّن له سلطة على البنت سواء كان أحد أفراد العائلة أو غيره فإنّ العقاب يضاعف. وإذا وقعت مواقعة الطفلة غصبا فإنّ الفعل تتكوّن منه جناية، عقابها الإعدام إذا كان الجاني قد استعمل العنف أو السلاح أو التهديد به. وإذا كانت المجني عليها غير بالغة لسنّ العاشرة، فإنّ مواقعتها تستوجب الإعدام، إذ يعدّ الغصب والإكراه مفترضين بحكم القانون، ويعاقب الفاعل بالإعدام ولو لم يستعمل العنف ولا السلاح والتهديد بهما. كما أنّ عقوبة المتوسّط في الخناء تتضاعف إذا كانت المرأة (البغي) طفلة.
ومن جهة أخرى فقد تمّ إلغاء أحكام الفصل 207 من المجلة الجنائية الذي كان يمنح الزوج الذي يقتل زوجته وشريكها في الخيانة الزوجية ظروف تخفيف تشريعية.
وقد صدر القانون المؤرخ في 2 أوت 2004 المتعلّق بزجر التحرش الجنسي سواء ضدّ المرأة أو الرجل وهو يعدّ من الآليات الحمائية للمرأة.
الحق في الحماية من جرائم المخدرات، حيث يقرّر القانون عدد 52 لسنة 1992 المؤرّخ 18 ماي 1992 المتعلق بالمخدرات عقوبات مضاعفة للمتّجرين بالمواد المخدرة الذين يستغلون أطفالا في نشاط الترويج.
الحماية من الإستغلال في إطار التسوّل (الفصل 171 ثالثا من المجلة الجنائية) وذلك بتجريم استخدام الأطفال الذين لم يبلغوا سن الثامنة عشر في التسوّل.
د – الزواج ونتائجـــه :
كان النظام الإجتماع يقوم على مبدأ يقتضي أنّ المرأة لا تخرج عن "ولاية" أبيها إلاّ لتنضوي تحت ولاية زوجها فيقع "تزويجها" بواسطة والدها ثم تصبح ملزمة بطاعة زوجها والعمل على إرضائه، بحيث لا يكون لرأيها أو لإرادتها قيمة تُذكر كما أنها لا تتمتع بحقوق تستحقّ الذكر في مواجهة الرجل. وقد نادى رواد الفكر الإصلاحي بإصلاح هذا الوضع وإخراج المرأة من حالة "الوصاية الفعلية" والدونية واحترام كيانها كإنسان وذلك بمنحها الحرية في الزواج وبعده على قدم المساواة مع الرجل وذلك للتوصّل إلى إقرار :
نفس الحق في عقد الزواج،
نفس الحق في حرية اختيار الزوج وفي عدم عقد الزواج إلاّ برضاها الكامـل،
تحديد سنّ دنيا للزواج لتلافي زواج الأطفال ونتائجها الوخيمة.
وهي ذات الحقوق المنصوص عليها بالمادة 16 من اتفاقية "كوبنهاقن" والتي شرع المشرع التونسي في تكريسها منذ فجر الإستقلال عند صدور مجلة الأحوال الشخصية في 13 أوت 1956 ثم تدعمت بعد تحوّل السابع من نوفمبر عبر التنقيحات المتلاحقة للمجلة المذكورة وخاصة منها التنقيح الصادر في 12 جويلية 1993.
** ففي ما يتعلق بعقد الزواج، فقد قيّد الفصل 6 من مجلة الأحوال الشخصية إمكانية الزواج بتوفر شرط ضروري يتمثل في بلوغ سن أدنى وهو سن سبعة عشر سنة بالنسبة إلى البنت وسن العشرين بالنسبة إلى الذكر، ولا يتمّ الزواج دون السنّ القانوني إلاّ إذا تمّ الحصول على إذن قضائي على أن لا يعطى الإذن المذكور إلاّ لأسباب خطيرة وللمصلحة الواضحة للزوجين وهكذا فإن زواج الأطفال لا يتمّ إلاّ في حالات استثنائية وقد بيّن التطبيق العملي أن القضاء لا يمنح الإذن بالزواج لمن لا يبلغ السن الأدنى القانوني إلا إذا كـان على درجـة كـافية من النضج الفيزيولوجي (البدني) والنفسي(1).
*** وفي ما يتعلق بالشروط الجوهرية لعقد الزواج، فقد ألغى المشرع التونسي منذ سنة 1956 إمكانية جبر البنت على الزواج أو على قبول زوج لا ترضاه إذ اشترط الفصل الثالث من مجلة الأحوال الشخصية من جهة أولى أن "لا ينعقد الزواج إلاّ برضا الزوجين" بما يوحي بأن هذا الرضا كاف لانبرام زواج صحيح قانونا، وقد صادقت البلاد التونسية على اتفاقية نيويورك المؤرخة في 10 ديسمبر 1962 المتعلقة بالموافقة على الزواج والسنّ الأدنى له وتسجيله وذلك بمقتضى القانون عدد 41 لسنة 1967 المؤرخ في 21 نوفمبر 1967 حيث جاء بتوطئة هذه الاتفاقية تذكير بمضمون المادة 16 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من إقرار لمبدأ المساواة بين المرأة والرجل في ما يتعلق باختيار القرين دون تمييز بسبب العنصر أو الجنس أو الدين. ومن جهة ثانية فإنّ رضا الأبوين بزواج أبنائهما غير ضروري إلا حين يتعلق الأمر بشخص لم يبلغ بعد السن القانونية (الفصل 6 من مجلة الأحوال الشخصية) الذي جعل زواج القاصر يتوقف على موافقة الولي وكذلك على موافقة الأمّ وهذا أمر هام لأنه تشريك للأمّ في الولاية على النفس.
وقد دافع جانب من الفقهاء عن فكرة أن مصادقة تونس على هذه الاتفاقية يعني أنها تقرّ للمرأة المسلمة حق التزوج من غير المسلم إلاّ أنّ فقه القضاء التونسي استقرّ على اعتبار أن هذه الاتفاقية لا يمكنها أن تخرق أحكام الفصل الأول من الدستور التونسي الذي يؤكد على الهوية الإسلامية للبلاد مما يوجب الرجوع إلى أحكامه في خصوص حرية الزواج ومن ثمة إلى قاعدة اعتبار زواج المسلمة بغير المسلم باطلا لا عمل عليه(1) وفي نفس السياق جاءت أحكام منشور وزير العدل المؤرخ في 5 نوفمبر 1973 ثم المنشور الصادر عن الوزير الأول في 19 أكتوبر 1973 تحت عدد 606 اللذين حجّرا إبرام عقود زواج التونسيات المسلمات بغير المسلمين إلا إذا وقع الإدلاء بما يثبت اعتناق المرشّح للزواج للدين الإسلامي. وفي هذا الإطار ولصيانة المرأة التونسية المتزوجة من أجنبي من الرجوع إلى وضعية تعدد الزوجات التي حجرها التشريع التونسي فقد أوجب الفصل 38 من قانون الحالة المدنية الإدلاء قبل تحرير عقد الزواج بشهادة عزوبية أو شهادة طلاق.
ولضمان حقوق المرأة وتلافي مخاطر الطلاق العشوائي أو التخلّي عن الزوجة تعسفيا فقد حرص التشريع التونسي على أن يكون عقد الزواج عقدا شكليا لا يثبت إلاّ بحجّة رسمية ينظمها قانون الحالة المدنية المؤرخ في أوّل أوت 1957 ويحرّرها إما عدل إشهاد أو ضابط الحالة المدنية الذي يمثل السلطة العمومية (الفصل 4 من مجلة الأحوال الشخصية).
ويترتّب على قيام الرابطة الزوجية نشوء عدد من الإلتزامات والواجبات القانونية على عاتق كل واحد من الزوجين. فإلى حدود سنة 1993 كانت هذه الإلتزامات متّسمة بالإختلاف وبعدم التوازن، حيث أن الزوجة مطالبة بطاعة زوجها في حين أن الزوج يعدّ رئيسا للعائلة مع ما يرافق ذلك من حقوق وصلاحيات لا تتمتّع بها المرأة إذ أنه صاحب ولاية على نفس زوجته وأبنائه، وهو صاحب سلطة الأمر والنهي.
إلاّ أنه كان من الحتمي أن يقع تعديل أحكام التشريع الداخلي وفق أحكام اتفاقية "كوبنهاقن"، وهو ما آل إلى تعديل أحكام الفصل 23 من مجلة الأحوال الشخصية سنة 1993 بحذف واجب الطاعة، الذي كان محمولا على الزوجة وإحلال محلّه إلتزام مشترك بين الزوجين، وهو الإلتزام بالتعاون بينهما والذي يقتضي إحلال منطق الشراكة والتكامل والتكافؤ محلّ منطق الأمر والنهي والطاعة.
وتتكامل هذه الأحكام الجديدة مع مضمون الفصل 24 من ذات المجلة الذي ينصّ على أن "لا ولاية للزوج على أموال زوجته الخاصّة بها".
كما جاء تنقيح مجلة الأحوال الشخصية سنة 1993 بتوسيع صلاحيات المرأة في نطاق العائلة وتحديدا في ميدان إدارة شؤون الأبناء حيث يوجب الفصل 23 الجديد على الزوجين أن يتعاونا على "تسيير شؤون الأسرة وحسن تربية الأبناء وتصريف شؤونهم بما في ذلك التعليم والسفر والمعاملات المالية" وهذه القاعدة تساندها قاعدة الفصل 60 الجديد من ذات المجلة الذي مكّن الأمّ النظر في شؤون المحضون وتأديبه وإرساله إلى أماكن التعليم.
أما في ما يتعلق بالولاية على الأبناء، فإنها ولئن كانت مسندة مبدئيا إلى الأب، فإنّ ذلك لا يعفيه من التشاور مع الأم في شأن الإبن المحضون كما تنتقل الولاية آليا إلى الأم في ما يتعلق بسفر الإبن المحضون ودراسته والتصرف في حساباته المالية، وذلك في صورة إسناد الحضانة إليها كما يمكن أن تنتقل إليها جميع صلاحيات الولاية بقرار قضائي حفاظا على مصالح الأبناء من تعسف الوليّ الأصلي.
ومن جهة أخرى ولضمان حق المرأة المتزوجة وأبنائها في مستوى عيش معقول يتماشى مع الوضع المادي للعائلة ومداخيل الزوج، فقد أوجب الفصل 23 السالف ذكره على الزوج الإنفاق على العائلة على قدر حاله وحال الزوجة والأبناء، وخوّل القانون للزوجة اللجوء إلى القضاء لاستصدار حكم يُلزم زوجها بالإنفاق عليها وجعل من عدم دفع النفقة بعد الإعلام بالحكم المذكور جنحة موجبة لعقاب جزائي، وهو ضمان فعّال إزاء تلدّد بعض الأزواج في الإنفاق على عائلاتهم.
وبالتوازي مع تخويل المرأة حرية بناء علاقة زوجية واختيار شريكها فيها، فقد تمّ تكريس حقها في إنهاء هذه الرابطة، كما هو الشأن بالنسبة إلى الرجل حيث أنه من حق المرأة طلب إيقاع الطلاق بينها وبين زوجها بمبادرة منها سواء كان ذلك بالتراضي أو بموجب الضرر الذي يكون قد ألحقه بها، أو حتى بمجرّد رغبة خاصة منها (طلاق إنشاء) إن رأت أنها غير مستعدّة لمواصلة العيش معه، شريطة أن تتحمّل عواقب ذلك بدفع الغرامات والتعويضات التي يحكم بها عليها بطلب من الزوج المدعى عليه إن كان الطلب تعسفيا.
هذا ونلاحظ أنّ القانون التونسي أحاط إنهاء العلاقة الزوجية بعديد الضمانات من أهمّها الصيغة القضائية لإجراءات الطلاق حيث لا يمكن فصم رابطة الزواج خارج أسوار المحكمة حتى في صورة التراضي وذلك حفاظا لحقوق كلا الطرفين وللأبناء إن وجدوا، ومنع ممارسات الطلاق العشوائي والتعسفي التي كانت موجودة قبل سنّ مجلّة الأحوال الشخصية.
إلاّ أننا نلاحظ أنه لئن كان المبدأ هو أن التعويض عن الضرر يقضى به صبرة واحدة ومرة واحدة، فإن القانون التونسي خصّ المرأة التي يقع تطليقها إنشاء من زوجها أو التي تتحصّل على حكم بالطلاق بموجب الضرر من زوجها بإمكانية المطالبة بأن يدفع لها التعويض عن ضررها المادي الناشئ عن الطلاق في شكل "جراية تدفع لها بعد انقضاء العدة مشاهرة وبالحلول على قدر ما اعتادته من العيش في ظلّ الحياة الزوجية بما في ذلك المسكن" (الفصل 31 فقرة 2 من مجلة الأحوال الشخصية).
ولئن كان هذا الحق في الإختيار بين صيغتي التعويض (رأس مال/جراية) خاصّا بالمرأة دون الرجل فإننا لا نرى فيه مخالفة لأحكام اتفاقية كوبنهاقن التي "نصتّ المادة 32 منها على القضاء على "جميع أشكال التمييز ضدّ المرأة" وبالتالي فإن هذا الخيار جعل لفائدة المرأة إذ أنه يهدف إلى ضمان استقرار وضعيتها المادية بعد الطلاق وعدم تدهور مستوى معيشتها بسببه.
هـ – نظام الأملاك العائليـة :
إن الزواج حسب تعريف الطاهر الحداد "عاطفة وواجب وازدواج وتعمير"(1).
وإعتمادا على ذلك فإن عقد الزواج يفرض إلتزمات من ضمنها الحقوق ذات الصبغة الاقتصادية.
ولقد جاء التشريع التونسي اللاحق للإستقلال والمتمثّل في مجلة الأحوال الشخصية مكرّسا للقواعد الفقهية الإسلامية المتعلقة بنظام أملاك الزوجين حيث أن المبدأ الأساسي هو مبدأ إستقلال الذمم المالية للأزواج (الفصل24) وعدم تأثير الزواج على الحالة المالية لكلا الزوجين إذ يبقى كل واحد منهما محتفظا بملكية أمواله التي اكتسب ملكيتها قبل الزواج كما أنّ العمليات أو التصرفات القانونية التي تحدث إثر الزواج تنشئ حقوقا أو تنقلها أو تنشئ ديونا في ذمّة أحد الزوجين فقط، إلاّ في الصور التي يقتضي فيها القانون أو العقد تضامنهما لا بحكم أنهما زوجان وإنما لتوفر الشروط القانونية للتضامن أو قيام حالة شيوع بحكم العقد أو بحكم القانون. وبحكم أنّ الواقع المعيش قبل صدور المجلّة كان يكرّس ولاية فعلية (وعرفية) لفائدة الزوج على أموال زوجته فقد اقتصر المشرّع على نفي إمكانية وجود ولاية للزوج على أموال زوجته (الفصل 24) ولم ير من موجب للتنصيص على أنّ لا ولاية للزوجة على أموال زوجها.
إلاّ أنّ تطوّر دور المرأة في الحياة الإقتصادية للعائلة وللمجتمع ككل أفرز بعض الظواهر التي استوجبت تدخّل المشرّع لتطويقها ففي العديد من العائلات التي يكون فيها كلا الزوجين ممارسين لأنشطة مأجورة يتقاسم الزوجان أعباء الحياة الزوجية بشكل يجعل الزوج يوظّف مداخيله الخاصة في اقتناء العقارات والتجهيزات الكبرى لفائدة العائلة بينما تخصّص مداخيل الزوجة لمجابهة الأعباء اليومية إلى جانب ثبوت الدور الحيوي التي تقوم به المرأة غير العاملة من أعباء تعفي زوجها من عديد المصاريف التي تستوجبها الحياة الأسرية(1) وقد نجم عن ذلك أنه في صورة الطلاق تبقى جميع الأملاك العقارية والمنقولات الهامة على ملك الزوج وحده مما يشكل حيفا فادحا في حق المرأة وهو ما يخالف أحكام اتفاقية "كوبنهاقن" التي تنصّ في مادتها الثالثة عشر على أنهّ "على الدول الأطراف إتخاذ جميع التدابير المناسبة للقضاءعلى التمييز ضدّ المرأة في المجالات الأخرى للحياة الإقتصادية والإجتماعية لكي تكفل لها على أساس المساواة مع الرجل في الحقوق ولا سيما أ- الحق في الإستحقاقات الأسرية".
وانطلاقا من ذلك فقد صدر القانون عدد 94 لسنة 1998 المــؤرخ في 9 نوفمبر 1998 المتعلق بنظام الإشتراك في الأملاك بين الزوجين، والذي أنشأ إلى جانب النظام الأصلي للأملاك العائلية والقائم على مبدأ استقلال الذمم المالية، نظاما اختيارا يمكن أن يعتمده الزوجان برضائهما معا، هو نظام الإشتراك في ملكية بعض الأملاك العقارية وخاصة منها المسكن العائلي والتي يقع اكتساب ملكيته بعد الزواج عدا صورة الميراث أو الهبة أو الوصية وتلحق بالعقار المشترك جميع توابعه كالغلال المدنيّة على أنه يمكن للزوجين الاتفاق على توسيع نطاق هذا الإشتراك ليشمل أموالا أخرى غير داخلة بحكم القانون في الإشتراك، كالعقارات الموروثة أو المكتسبة بوصية أو بهبة وحتى المنقولات (الفصل 10 من القانون المذكور).ويعدّ نظام الإشتراك في الأملاك ضمانا مهمّا لكلّ من المرأة والرجل على حدّ سواء،إذ يمكن لكل واحد منهما في ظلّه أن ينصرف إلى العمل دون خشية على ثمرة مجهوداته بأن ينفرد بها الطرف الثاني. إلاّ أنه يجب التذكير بأن هذا النظام اختياري أي أنه لا يقع العمل به إلا بتراضي كلا الزوجين سواء حصل هذا التراضي بمناسبة إبرام عقد الزواج أو بعده كما يمكن التخلي عنه برضائهما أما إذا تعلق الأمر بزواج قاصر فإنّ اختيار نظام الإشتراك في الملكية يقع بنفس الكيفية التي تتبع في الحصول على إذن بالزواج.
د – حقوق المرأة في الميـــراث :
انطلاقا من نظرية "هانس كلسن KELSEN " فإنّ القواعد القانونية الجاري العمل بها داخل هرم ما تكون منضّدة في شكل هرمي بحيث تنقسم القواعد القانونية إلى طبقات يعلو بعضها بعضا وتوجد في أعلاها القواعد الدستورية ويكرّس النظام القانوني التونسي هذه القاعدة حيث يعدّ الدستور أعلى النصوص القانونية مرتبة وأكثرها قيمة بحيث تقدم أحكامه على جميع الأحكام الأخرى بما فيها المواثيق والمعاهدات الدولية.
وانطلاقا مما تقدّم، فقد احترزت الجمهورية التونسية على بعض مواد الاتفاقية المتعلقة بالقضاء على جميع أشكال التميز وخصوصا منها الأحكام التي من شأنها أن تخالف أحكام الفصل الأول من الدستور الذي يعلن أن الإسلام هو الدين الرسمي للجمهورية وبالتالي احترام مبادئ الشريعة الإسلامية المتعلقة بالميراث، والتي تكرّس مبدأ منح الذَّكَرَ مَنَابًا من الميراث يفوق مناب الأنثى.
إلاّ أنّه لا يجب السهو عن أنّه عملا بأحكام الفصل الأوّل من الدستور ذاته تكفل تونس للمرأة الحق في الإرث وتحيط هذا الحق بجملة من الضمانات الناجعة.
فمن جهة أولى، فقد تدخل المشرع بإقرار الأحكام المتعلقة بالردّ بما يعني أنّ المرأة ترث في غالب الأحيان بوصفها وارثا بالفرض بمعنى أنها ترث منابا معيّنا من التركة في حين أنّ الوارث بالتعصيب يرث الباقي من التركة بعد حصول جميع الوارثين بالفرض على مناباتهم وقد يحصل أن تستغرق منابات أصحاب الفروض جميع التركة فلا يبقى للعاصب شيء وذلك تطبيقا للقاعدة العامة التي يتمّ فيها تفضيل الأقرب على الأبعد في الميراث وتجسيما لأحد مظاهر تطوّر الحياة والمجتمع وهو أن تكوين التركات أصبح اليوم ثمرة عمل الزوجين والأبناء أكثر منه نتيجة للتوارث بين الأقارب(1).
ومن جهة ثانية، فقد منع القانون التونسي الإيصاء للوارث وذلك لمنع المورّث من الإيصاء بجميع تركته لأبنائه الذكور كما أُقرت مؤسسة مرض الموت للحيلولة دون تحايل المورث على حقوق بعض الورثة وخاصة منهم النسوة بالتفويت في الأملاك بمقابل خيالي أو بمقابل بخس وتمّ أيضا إقرار مؤسسة الوصية الواجبة بين أولاد الإبن وأولاد البنت على حدّ السّواء وحصرها في الطبقة الأولى.
- حق المرأة في العمل:
1 – ممارسة المرأة للأنشطة المأجـورة :
تتميز الأنشطة المأجورة عن المهن الحرة والمهن التجاريــة بتوفر عنصــر التبعية ( La subordination) أي خضوع القائم بالنشاط إلى سلطة أعلى منه تفرض عليه نوع العمل وكيفية إنجازه وتمارس عليه سلطة التأديب عن الإقتضاء، وبحكم تطور وظائف الدولة وتحولها إلى أول مشغل في جل بلدان العالم ومنها تونس، فإن العمل المأجور يمكن أن يكون في القطاع الخاص كما يمكن أن يكون في القطاع العمومي.
* ففي القطاع الخاص، توجب إتفاقية " كوبنهاقن" في مادتها الحادية عشر على الدول الأطراف أن " تتخذ جميع ما يقتضي الحال إتخاذه من تدابير للقضاء على التمييز ضد المرأة في ميدان العمل لكي تكفل لها، على أساس تساوي الرجل والمرأة، نفس الحقوق ولا سيمـا.
(أ) الحق في العمل بوصفه حقا غير قابل للتصرف لكل البشر.
(ب) الحق في التمتع بنفس فرص التوظيف بما في ذلــك تطبيق معايير الإختبار نفسها في شؤون التوظيف.
(ج) الحق في حرية إختيار المهنة والعمل والحق في الترقية والأمن الوظيفي، وفي جميع مزايا وشروط الخدمة والحق في تلقي التدريب وإعادة التدريب المهني…
(د) الحق في المساواة في الأجر بما في ذلك الإستحقاقات، والحق في المساواة في المعاملة في ما يتعلق بالعمل المتعادل القيمة وكذلك المساواة في المعاملة في تقييم نوعية العمل.
(هـ) الحق في الضمان الإجتماعي … وكذلك الحق في إجازة مدفوعة الأجــر،
(و) الحق في الوقاية الصحية وسلامة ظروف العمل بما في ذلك حماية وظيفة الإنجاب.
ويصح تلخيص هذه الحقوق في أنها تتعلق بالإنخراط في الشغل، وظروف العمل والتغطية الصحية والإجتماعية.
ففي ما يتعلق بالإنخراط في العمل، فقد جاء بالفصل 5 مكرر من مجلة الشغل الواقع إضافته بالقانون عدد 66 لسنة 1993 المؤرخ في 5 جويلية 1993 أنه "لا يمكن التمييز بين الرجل والمرأة في تطبيق أحكام هذه المجلة والنصوص التطبيقية لها"
ونتيجة لذلك ، فإنه لا يحق لأصحاب المؤسسات الإمتناع عن قبول مترشح للشغل بسبب جنسه كما لا يحق لهم الإعلان عن رغبتهم في إنتداب أشخاص من جنس معين، لما في ذلك من تمييز، يمنعه الفصل 5 مكرر المشار إليه.
كما يمتد واجب عدم التمييز بإعتماد معيار الجنس إلى مرحلة تنفيذ عقد الشغل، حيث لا يجوز إفراد النساء أو الرجال بظروف عمل خاصة، عدا الظروف التي تقتضيها المعطيات البيولوجية، وخاصة منها الأمومة، حيث يجيز القانون للمرأة الحامل التغيب عن العمل أو مغادرته ، ولا يعتبر وقف العمل من جانبها طيلة المدة التي تسبق الولادة أو تليها موجبا لقطع العلاقة الشغلية من جــانب المؤجـر ( الفصلان 18 و 20 من مجلة الشغل ). كما تتمتع المرأة بعطلة ولادة مدتها ثلاثون يوما يمكن التمديد فيها لمدة شهر آخر شريطة الإدلاء بشهادة طبية . وتتمتع المرأة بمنحة وضع تساوي ثلثي الأجر اليومي ويخول للمرأة الحق في حصتي راحة في اليوم كل واحدة منها ذات نصف ساعة ليتسنى لها إرضاع طفلها طيلة الأشهر التسعة الموالية للوضع.
إلاّ أنّ روح المساواة بين الجنسين التي يتّسم بها تشريع الشغل في تونس لم تمنع مراعاة خصوصية التكوين البيولوجي للمرأة فقد حجّر المشرّع عمل النسوة في بعض الأشغال المرهقة والخطيرة كالعمل في المناجم والمقاطع وتحت الأرض (الفصل 77 من مجلة الشغل). كما أنّ المبدأ هو منع تشغيلهن ليلا (الفصل 66) إلاّ في صور استثنائية كالقوة القاهرة (الفصل 68) وفي نطاق الأعمال التي تتطلب حمل أشياء أو نقلها، حـدّد وزير الشـؤون الإجتماعيـة في قراره المـؤرّخ في 5 ماي 1988 الأوزان القصوى التي يمكن إلزام العامل بحملها وضبط بالنسبة إلى المرأة أوزانا تقلّ عن تلك المقرّرة للرجال.
ولا يجوز للمؤجر أن يسند للنسوة اللاتي يشغلهن أجورا أدنى من تلك التي يحصل عليها الرجال، وذلك عملا بأحكام الفصل 5 مكرر من مجلة الشغل ومبادئ الإتفاقية الدولية حول المساواة في الأجر، والمادة 11 من إتفاقية "كوبنهاقن " . وقد تم تكريس المساواة في الأجر بصفة نهائية عند إلغاء الفصل 135 من مجلة الشغل الذي كان يقر إمكانية إسناد أجور غير متساويـة في الميـدان الفلاحـي (القانون عــدد 62 لسنة 1996 المـؤرخ في 15 جويلية 1996).
وتتمتع المرأة بالتغطية الإجتماعية بنفس الظروف والشروط المنطبقة على الرجل، إذ لا يتضمن قانون الضمان الإجتماعي أية تفرقة بينهما، وتشمل هذه التغطية الحق في جرايات التقاعد والعجز، والتأمين عن حوادث الشغل والأمراض المهنية.
أما في القطاع العام، أو بالأحرى في ما يتعلق بالوظيفة العمومية، فقد نص الفصل 11 من النظام الأساس العام لأعوان الدولة والجماعات العمومية المحلية و المؤسسات العمومية ذات الصبغة الإدارية الصادر بمقتضى القانون عدد 122 لسنة 1983 المؤرخ في 12 ديسمبر 1998 على أنه " ليس هناك أي ميز بين الجنسين في تطبيق هذا القانون باستثناء الأحكام الخاصة التي تحتمها الوظائف والتي تتخذ في هذا الصدد " وقد تم تكريس نفس هذا المبدأ بالنسبة لأعوان المنشآت العمومية ضمن أحكام القانون عدد 78 المؤرخ في 5 أوت 1985 في فصله الرابع.
وعملا بهذه الأحكام ، فإنه لا يمكن إفراد النساء بشروط خاصة للإنخراط في الوظيفة العمومية ولا بظروف عمل خاصة وخصوصا في ما يتعلق بعدد ساعات العمل ومقدار الأجر، عدا ما تقتضيه المعطيات البيولوجية، ومنها مثلا ما جاء بالفصل 48 من قانون الوظيفة العمومية الذي ينص على أنه تنتفع الموظفات ، بعد الإدلاء بشهادة طبية ، بعطلة ولادة مدتها شهران مع إستحقاق كامل المرتب ويمكن الجمع بين هذه العطلة وعطلة الإستراحة.
وكما هو الشأن بالنسبة للقطـاع الخاص فإنّ المرأة التي تشتغل في القطاع العمومي تتمتع بالتغطية الإجتماعية حيث جاء بالقانون عدد 12 لسنة 1985 المـؤرخ في 5 مارس 1985 المتعلق بنظام التقاعد في القطاع العام أنه ينطبق على كل الأعوان مهما كان جنسهم.
وقد إنخرطت المرأة في قطاعات الوظيفة العمومية المختلفة، بما في ذلك القضاء ، حيث أثير جدلا في البداية حول هذه المسألة بالنظر إلى وجود مذاهب فقهية تعتبر الذكورة شرطا من شروط تقلّد مهنة القضاء أو المذهب الحنفي الذي لم ير مانعا في تقليد المرأة هذا المنصب، مع إخراج بعض أصناف القضايا من نطاق نظرها وقد ذهب الإمام الطبري والحسن البصري إلى جواز قضاء المرأة لأنه يجوز لها الإفتاء .... ومع تفاوت الإجتهادات فإن التوجه الصحيح في صورة الإختلاف يستمدّ من القرآن الكريم باعتباره المصدر الأصلي الأول للشريعة الإسلامية الذي لم يرد فيه منع لممارسة المرأة القضاء. وقد دخلت المرأة سلك القضاء منذ سنة 1966.
كما لا يفوتنا التذكير بأن المرأة لها نفس الضمانات والحقوق المقررة لنظيرها الرجل في صورة الفصل عن العمل. فلا تفرقة في تقدير الغرامات المستحقة بموجب الطرد.
2 – حق ممارسة المهن الحرة:
كما هو الشأن في المهن المأجورة، تتحدث النصوص التشريعية عن إمكانية ممارسة المهن الحرة بصيغة الجمع المذكر، إلا أن ذلك لا يمكن تأويله على أنه يعني قصر إمكانية ممارسة هذه المهن على الرجال، وذلك إنطلاقا من المبادئ الدستورية .
وبالتالي فإنه لا يوجد نص من هذه النصوص، ولا في القوانين المتعلق بالمهن الحرة الأخرى كمهنة العدول المنفذين وعدول الإشهاد، الخبراء العدليين،المترجمين المحلفين، الأطباء، الصيادلة والمحاماة يستعمل عند الحديث عن شروط الترشح لهذه المهن صيغة التأنيث، ولا توجد أية شروط خاصة بالنسوة المترشحات لهذه المهن، وقد تحولت هذه المساواة النظرية إلى واقع فعلي بحكم الإقبال المكثف من قبل العنصر النسائي على ممارسة المهن الحرة بجميع أصنافها سواء كان ذلك في إطار فردي أو في إطار شركات مهنية متى كان القانون يسمح بذلك، وأصبح ميدان المهن الحرة أحد أهم الميادين التي تشتغل فيها المرأة.

لقد قطعت تونس أشواطا شاسعة نحو تكريس مبدأ المساواة بين الجنسين ، وتجاوزت ما حققته جلّ الدول في هذا المجال، مع الإشارة إلى أن الميثاق العربي لحقوق الإنسان الذي تبناه مجلس جامعة الدول العربية منذ سنة 1994 الذي تمّ أخيرا تحديثه وتعصيره تضمنت أحد بنوده عدم الإنتقاص من الحقوق والحريات التي تحميها التشريعات الوطنية للدول الأطراف أو المنصوص عليها بالمواثيق الدولية والإقليمية لحقوق الإنسان بما في ذلك حقوق المرأة.
ونستخلص من جميع ما تقدّم أنّ التشريع الداخلي التونسي تمّ تعديله على أحكام الإتفاقيات الدولية التي صادقت عليها تونس وخصوصا عبر تنقيح مجلة الأحوال الشخصية، وإصدار مجلة حماية الطفل وتنقيح بعض أحكام المجلة الجنائية وإصدار القانون المتعلق بالنظام التربوي وانتهى ذلك إلى إقرار حماية شاملة للمرأة منذ ميلادها إلى مرحلة نشوئها وتكوين شخصيتها انتهاء إلى مرحلة النضج والإندماج في الحياة الزوجية وحتى ما بعد انفصام العلاقة الزوجية وإنّ مجمل هذه الأحكام القانونية يتمحور حول فكرة تسوية المرأة بالرجل في الحقوق داخل العائلة.