الجزء الثاني تحت عباءة أبي العلاء المعري لنجيب سرور - لتلميذ البكالوريا
بكالوريا اداب
تحت عباءة أبي العلاء
نجيب سرور
هذا مخطوط نادر وقيم للشاعر المصري الراحل نجيب سرور تناول فيه بعض الجوانب لــــ أبي العلاء المعري, ونقدمه بمنتديات تونيزيا كافيه لتلاميذ السنة الرّابعة اداب ليكون لهم عونا لهم في دراستهم
النجاح والتوفيق لجميع تلاميذ البكالوريا - بكالوريا اداب
الجزء الثاني تحت عباءة أبي العلاء المعري لنجيب سرور - لتلميذ البكالوريا - لتلميذ البكالوريا
مع تحيات منتديات تونيزيا كافي
http://www.tunisia-cafe.com
الفصل الثاني
أبو العلاء داعية للثورة
"إذا أغضب الخيل الشكيم فمالها
عليه اقتدار غير أزم الحدائــد" أبو العلاء
علينا أن نعد العدة كاملة للولوج إلى عالم أبي العلاء، فلن نلج هذا العالم إلا إذا أحطنا به وبجميع أعماله من خلال قراءته المتكررة والصبورة واليقظة!..ولنأخذ بنصيحة أبي تمام ـ من قبل أبي العلاء ـ بألا نمل التكرار في قول الأول:
لو رأينا التوكيد خطة عجز
ما شفعنا الآذان بالتثـويب
فالتثويب، أي التكرار أو الترديد، هو لدى أبي العلاء كما لدى أبي تمام خطة مقدرة لا عجز..ثم هو ضرورة لا بديل لها ولا مفر منها لامكان التلقي والفهم والكشف والاستيعاب، وذلك أمام الإغراب أو الإلغاز الذي اضطر إليه أبو العلاء وتعمده فى نفس الوقت وإن لم يقصده لذاته بحال من الأحوال على سبيل استعراض العضلات كما أجمع على ذلك ـ ظلما وافتراء ـ أغلب القدماء والمحدثين والمعاصرين، وإنما لجأ إليه عملا بنصيحة أبي تمام أيضا حين قال:
سنغرب تجديدا لعهدك في البكا
فما كنت في الأيام إلا غرائبـا
فلنترك أبا تمام في خرسه وصمته هو الآخر، يلوك الغيظ والغضب والحسرة كأبي العلاء ويعض الشكيم ويمضغ حديد اللجام كآلاف بل ملايين من الشعراء والحكماء منذ أقدم العصور حتى عصرنا هذا..لأن لأبي تمام أيضا قصة طويلة تحتاج وحدها إلى دليل منفرد!
ولقد رأينا فيما سبق من حديث كيف أن أبا العلاء لم يكتف بالشك فى التراث العربي كله بين الفصحى والعجمى والأصول والمنحولات..والمنسوخات والمقلوبات والمعكوسات والمبدلات والمدسوسات والمهموزات، بل وضع التراث الانساني كله والعالمي موضع الشك وقدم على ذلك الأدلة والشواهد والحيثيات بما في ذلك ما تبقى من أعماله هو نفسه التى لم تنج ـ بالضرورة ـ من عمليات الحذف والاضافة والتشويه والمحو!..واقرأوا بأناة قوله فى مقدمة اللزوميات: "..ومن الحركات: الإشباع، وهو حركة الحرف الذي بين ألف التأسيس وحرف الروي في الشعر المطلق، وذلك الحرف يسمى الدخيل، ويقال أن الخليل لم يذكر الإشباع وأن سعيد بن مسعدة ذكرهُ، فيجوز أن يكون اسما وضعهُ، ويجوز أن يكون قد تلقاهُ عمن قبلهُ من أهل العلم. وقد رئي في القوافي كتاب للفراء وكتاب لخلف بن حيان، فإن لم يخلوا من ذكر الإشباع فهذا يدل على أن سعيد بن مسعدة أخذ هذا الاسم عن غيره، إذ كان هذان الرجلان في القدم نظيره. ويجب أن يكون خلف مات قبله بمدة طويلة، فأما موته وموت الفراء فمتقاربان، وهذه الأسماء الموضوعة لا يعقل مثلها سكان العمد (والعمد بيوت من الوبر يسكنها عرب البادية)!..فان كانت تُلقيت عن العرب فيجب أن يكون من أُخذ عنه يعرف حروف المعجم (يقصد معجم العلماء لا معجم العامة، أي المعجم الباطني السري الشفري) ويقرأ الصحف وقد كان فيهم رجال يقرءون ويكتبون ويعرفون مواقع الحروف"!!..
ثم يستطرد الإمام القائد المعلم الضرير فيقول: "فأما الخليل وابنُ مسعدة فلم يذكراه (المجرى من بين الحركات) وقد جاءت أشياء في الشعر القديم بعضها منصوب وبعضها مرفوع أو مخفوض، وإنما يُحمل ذلك على الوقف، لأنه يبعدُ أن يقول عربي فصيح له علم بالشعر:
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمـدا
وعادك من عاد السليم المسهدا"
ثم يستطرد أبو العلاء في موضع آخر، فيقول: "..فإذا انفتح ما قبل الواو في مثل عصوا، وغزوا، وقضوا فالجماعة يجعلونها رويا ولا يجيزون أن تكون وصلا. وذلك مفقود في أشعار الفصحاء. إنما يجيء منه الشيء النادرُ ولعلهُ مصنوع….وليس على الشذوذ تعويل. ولا أعرف لأحد من أهل الفصاحة مثل أبيات مروان"!!..يقصد مروان بن الحكم، ويشير إلى القول المنسوب إليه:
هل نحن إلا مثل من كان قبلنا
نموتُ كما ماتوا نحيا كما حيوا
مرة ثانية: ماذا أبقى أبو العلاء لمنهج الشك الديكارتي أو لطه حسين؟! وما الذي يمكن ـ بعد هذا ـ أن ينجو من الشك؟ انني أكرر هنا قول برتولد بريخت: "التشكك يزحزح الجبال، ومن بين كل ما هو يقيني نجد الشك أكثر يقينا"!
نعم إن الشك منذ الآن هو الشيء الوحيد الذي لا شك فيه! ولسوف يزحزح به أبو العلاء جبالا وجبالا ـ على طول اللزوميات خاصة ـ حتى يزلزل عقولنا ويوشك أن يورثنا الجنون بما يكشف لنا من أهوال المتناقضات، بل يغرينا بالانتحار لولا أنه يحثنا على التماسك وعلى أن نتمالك أعصابنا وعقولنا وأنفسنا ونصبر ونطيل الصبر كما فعل هو!..
ان أبا العلاء كلم الناس رمزا أكثر من أربعين عاما منذ أن عاد من العراق طريدا إلى المعرة حتى مات في الثمانين!
من حيثما نظرت في أقوال أبي العلاء ستجد دائما "الماس" أو "الماسونية" بكل مشتقاتها وبكل حروفها المتشابهة والمشبهة والمتقاربة والمتباعدة والمبدلة والمعكوسة والمهموزة. وكذلك "موسى" و "الموسوية" وكذلك "اليهود" و "اليهودية"..ضمنا أو مباشرة، تصريحا أو تلميحا، لا أستثني من ذلك شيئا.
دعونا على سبيل المثال نستعرض بعض ما يقوله في حرف السين:
تمازج بالعُرب الأعاجمُ والنقى
على الغدر أنواع تذم وأجنــاسُ
تنمس منا بالديانة معشـــر
وقد بطلت عند اللبيب النوامـسُ
يقولون إن الدين يُنسخُ مثل ما
تولت بإقبال الحنيفة فـــارسُ
وما حرصُهُ فى العلم يدرُسُ كُتبهُ
وقد شاهد الآثار تُمحــى وتُدرسُ
قام للأيام في أُذنـــــــي
واعظ من شأنه الخــــــرسُ
أنسلُ إبليس أم حواء ويحــكُمُ
هذا الأنامُ ففي أفعالهم دلــــسُ
إن يؤمنوا لا يُؤدوا أو يكُن لــهم
عز يضيموا وإن أعياهُمُ اختلـسوا
يستحسن القوم ألفاظا إذا امتحنت
يوما فأحسنُ منها العي والخـرسُ
وآل إسرال غادوا فى مدارســهم
تلاوة ومُحــــال كُل ما درسوا
وموه الناس حتى ظن جاهلُـهُم
أن النبوة تمويه وتدليــــــس
أضعت شاء جعلت الذئب حارسه
أما علمت بأن الذئب حـــراسُ
تعلم الكُفر أُولاهم وآخـــرُهُم
فكل أرض بها جمع ومـدارسُ [4]
وعن قليل يصيرُ الأمرُ منتقــلا
عنهُم وتخفتُ للاجراس أجـراسُ
وما حمدى لآدم أو بنيـــه
وأشهدُ أن كلهُم خسيـــــسُ
وزوجك أيها الدنيا تمنــــى
طلاقك قبل أن يقع المسيـــسُ
بناتُ العم تأباها النصــارى
وبالأخوات أعرست المجــوسُ
ومتى ركبت إلى الديانة غالها
فكر على حُسن الضمير دسائسُ
والعقلُ يعجبُ والشرائعُ كلــها
خبر يُقلدُ لم يقسهُ قائــــسُ
مُتمجسون ومسلمون ومعــشر
متنصرون وهائدون رسائسُ [5]
وبيوتُ نيران تُزارُ تعبـــدا
ومساجد معمورة وكنائـــسُ
والصابئون يُعظمون كواكبــا
وطباعُ كُل فى اشرور حبائسُ
ظلوا كدائرة تحول بعضـها
من بعضها فجميعُها معكـوسُ
شر أشجار علمتُ بـــها
شجرات أثمرت ناســـــا
حملت بهضا وأغربـــــة
وأتت بالقوم ـ أجناســــا
قالت معاشرُ لم يبعث إلهُكُمُ
إلى البرية عيساها ولا موسى
وإنما جعلوا للقوم مأكلـــة
وصيروا لجميع الناس ناموسا
ولو قدرتُ لعاقبتُ الذين طغوا
حتى يعود حليفُ الغي مرموسا
داءُ هذا الأنام لا يقبل الطب
وقدما أراه داء نجيســـــا
فكر حسنت لقوم أُمــــورا
فاستجازوا التهويد والتمجيسـا
وصار دمُ الديك المؤذن سُحره
لأهل المغاني حُسوة لفم النمــس
ولبسك ثوب السقم أحسن منظرا
وأبهج من ثوب الغوى المنــمس
تداعت بلفظ العُجم أعرابُ مذ حج
وأعرب أهلا فارس وخُــــراس
ترومون بالناموس كسبا فسعيكم
إذا لاحت الأطماعُ سعىُ نمــوس
فتوقهم من أسود أو أبيـــض
أو أسمر ما بين ذين مجنـــس
نسخ المعاشرُ فالغضنفرُ ثعلب
فى لؤمه والناسُ كالنسنـــاس
وتفكرت نفس اللبيب وقـد رأت
أشُخوصُ جن أم شُخوصُ إنـاس
عُرب وعجم دائلون وكلنـــا
في الظلم أهل تشابه وجنــاس
يكفيك طعم جنسُهُ واحـــد
أطعمة ضرت بتجنيســــها
أتضحي بالهم أم أتمســى
وتقضي من الخطوب التماسـي
وتتداعى القافية من الهماس إلى الشماس إلى عماس إلى الهرماس إلى المياس إلى التماسي ـ ثانية ـ إلى الأرماس إلى الغماسي..إلى أن يقول:
أيما طارق أصابك يا طارق
حتى مساك للغي ماســي
ثم إلى الشماس ـ مرة أخرى ـ والى الأخماس..إلى الديماس: ها هنا ما تريد قد ظهر الأمر الذي قبل في الديماس، إلى أن يعلمك فن العكس والتعاكس ـ تكتيك الماسون ـ:
ـ وكـذا الجمر مثله الرجم قد
ميز بلفظ مغير معكــــوس
ـ ما النحو والشعر والكلام وما
مرقش والمسيب بن علـــس
بهذا ومثيله أكثر مما لا يتسع له أي نطاق في حرف السين وفي سائر حروف المعجم..يتضح لماذا قال الرجل:
أرى الحى جنسا ظل يشمل عالمي
بأنواعه لا بورك النوع والجنـس
وهو الذي يقول أيضا:
ما خص مصرا وبأ وحدها
بل كائن فى كل أرض وبأ
ومادام الوبأ أو الداء قديم قدم الأزل وكائن في كل أرض وكل زمان ويشمل العالم كله ويعم البشرية عامة بشتى ألوانها وأشكالها وأجناسها وفضائلها..أسود وأبيض وأسمر بين ذلك لا يهم ومادامت كل الأزمنة يوم واحد هو السبت وذلك في الماضي والحاضر والمستقبل ـ ما لم تنته لعبة التنكر والتقمص والانسلاخ ويوضع لها حد ـ..مادام الأمر كذلك فقد أخذ على عاتقه مهمة كشف اللعبة ووضع الحد لها منذ تولى قيادة الكتيبة الخرساء ولذلك ليس أبو العلاء من أنصار الثورة ضد الأعداء في البلد الواحد وانما هو من دعاة الثورة العالمية العامة التى تشمل أيضا كل الأنواع والأجناس والفصائل البشرية وفي جميع بلدان وأنحاء العالم!
أنظروا إلى أي مدى طموح الرجل ومدى تفاؤله رغم بشاعة الصورة التى كشفها وسيكشفها هو نفسه، ورغم أنها تبدو باعثة على اليأس والاحباط وتبدو محالة ولا معقولة ولذا قال:
لو قيل لم يبق سوى ساعة
أملت ما تعجز عنه سنـة
إلى هذا الحد كان تفاؤله هو الذي اتهم وطوال ألف عام بتهمة التشاؤم!..وتكتيكه ولغته وأسلوبه وذلك على أيدي الرواة والنقلة والشراح والنقاد والباحثين والدارسين، القدماء منهم والمحدثين والمعاصرين. ولكم تلح على هنا كلمات انجيلية شهيرة: "أما قرأتم قط فى الكتب: الحجر الذي رفضه البناؤن هو قد صار رأس الزاوية"!..فها هو الضرير يقود كتيبة بل كتائب المبصرين، وها هو "زعيم التشاؤم" يصير أكبرداعية من دعاة التفاؤل، وها هو الرجل المرفوض يصير الرجل المفروض!
مع تحيات منتديات تونيزيا كافيه
http://www.tunisia-cafe.com
يتبع في الصفحة الموالية