الجزء الثاني تحت عباءة أبي العلاء المعري لنجيب سرور - لتلميذ البكالوريا




بكالوريا اداب

تحت عباءة أبي العلاء
نجيب سرور
هذا مخطوط نادر وقيم للشاعر المصري الراحل نجيب سرور تناول فيه بعض الجوانب لــــ أبي العلاء المعري, ونقدمه بمنتديات تونيزيا كافيه لتلاميذ السنة الرّابعة اداب ليكون لهم عونا لهم في دراستهم
النجاح والتوفيق لجميع تلاميذ البكالوريا - بكالوريا اداب



الجزء الثاني تحت عباءة أبي العلاء المعري لنجيب سرور - لتلميذ البكالوريا - لتلميذ البكالوريا
مع تحيات منتديات تونيزيا كافي

http://www.tunisia-cafe.com


الفصل الثالث

الكتيبة الخرساء


"يكررني ليفهمنى رجـال
كما كررت معنى مستعادا" أبو العلاء

في مستهل لزوم ما لا يلزم ـ حرف الهمزة ـ وبعد تمهيد قصير يرسم به أبو العلاء صورة العصر كاشفا تناقضاته وموحدا أحيانا بين المتناقضات، ممهدا بذلك نفس وعقل القاريء للتلقي والفهم، وبعد أن يقول:

وما نوبُ الأيام إلا كتائب
تُبث سرايا أو جيوش تُعبأ

يطرح أبو العلاء المشكلة أو المهمة التي سيتفرغ لها في سجنه أو منفاه بالمعرة حتى يموت، والتى سيورثها أنصاره ومريديه في حياته وبعد مماته، والتى سيضرب لانجازها موعدا مقداره ألف عام، كما أشار إلى ذلك مرارا. يقول أبو العلاء:

يرتجي الناسُ أن يقوم إمــام

ناطق فى الكتيبة الخرســاء

كذب الظن لا إمام سوى العقل

مشيرا في صُبحه والمســاء

فإذا ما أطعته جلب الرحمـة

عند المسير والإرســــاء

إنما هذه المذاهب أسبـــاب

لجذب الدنيا إلى الرؤســـاء

غرضُ القوم مُتعة لا يرقـون

لدمع الشيماء والخنســــاء

كالذي قام يجمعُ الزنج بالبصرة

والقرمطي بالاحســــــاء

الكتيبة الخرساء..تلك هي حزب أبي العلاء، وهي البديل المطروح في مواجهة "نوب الأيام وسراياه المنبثة وجيوشه المعبأة"، أي الأحزاب والحركات والمذاهب والملل والنحل والفرق والطوائف، كحركة الزنج أو كالقرامطة، باعتبارها جميعا تجمعات يهودية ـ كما سيتضح فيما بعد ـ أو تسلل إليها اليهود وحرفوها عن طريقها كما سيتضح أيضا، ثم لأنها لا تفعل أكثر من أن تجلب الدنيا إلى الرؤساء الذين تتناقض دائما شعاراتهم مع أعمالهم.

ولكن أبا العلاء إذ يفشي سر الكتيبة الخرساء في أول الأبيات المذكورة عاليه إنما يوحي إلينا أيضا بأن هذه الكتيبة سابقة على أبي العلاء نفسه..فإن صح هذا ـ وهو صحيح ـ فما الذي أضافه أبو العلاء؟!

الحق انه أضاف الكثير! فالكتيبة كانت من قبل تتبع الظن والوهم بأن تنتظر ظهور الإمام الناطق..الإمام الفرد..الإمام المهدي المنتظر أو المستبد العادل أو المخلص فى حلم طوباوي جميل لا يتحقق أبدا من جيل لجيل ولا من عصر لعصر. فجاء أبو العلاء ليقول: ليست القضية قضية انتظار واهم حالم لمخلص منشود وانما هي بث السرايا وتعبئة الجيوش واتباع العقل لا الظن فى التدبير مادامت الحركات المعادية حركات منظمة وسرية وباطنية. نعم لا يفل المكر إلا المكر، والذكاء إلا الذكاء، والخبث إلا الخبث، والسرية إلا السرية، والتنظيم إلا التنظيم. وإذا كان ميعاد الحركات المعادية كلها بعد ألف عام على أرض الميعاد، فلتكن المواجهة بعد ألف عام على أرض الميعاد "إن صدق الوعد فكيف لا يصدق الوعيد" كما يقول. إذن فلنعبيء لهذه المواجهة قوانا، كتائب وسرايا وجيوشا خرسا. يضرب أبو العلاء موعدا للقاء فى أكثر من مكان.

إنني أستبق الحديث عمدا لأوفر على القاريء مشوارا طويلا فى البحث والمراجعة والمعاناة، لأني أعلم أن قلة من القراء فى عالمنا العربي هي التى تصبر على قراءة التراث. إن أبا العلاء منذ الآن سينذر نفسه لمهمة المسير والإرساء، وسيرسم لكتيبته الخرساء خطتها وبرنامج عملها وطريقة العمل، وسيحدد لها الواجبات والالتزامات والمهام بين التكتيك والاستراتيجية. وسيحدد طريقة تجنيد العضو من أعضاء الكتيبة الخرساء وطريقة تربيته والشروط الواجب توفرها فيه ودرجات ومستويات ومراتب الأعضاء. وسيستخدم في ذلك وعلى طول اللزوميات الضمائر الثلاثة، المتكلم والمخاطب والغائب، بذكاء منقطع النظير. وعليك أنت أن تكتشف من الذي يتكلم؟ ولمن؟ وعن من؟ وعن ماذا؟ وسيحاول جهده أن يُطهر أعضاء الكتيبة من الأوثان الوهمية والعقلية والنفسية والاجتماعية والسياسية والوراثية. وسيكرر نفسه بالحاح غريب ونادر وعنيد وسيكلف أعضاء الكتيبة أن يكرروه ليفهموه لأنه لم يكن ليستطيع أن يكون أكثر صراحة وإلا عرض نفسه للسيوف والصلبان، ولم يكن فى نفس الوقت ليستطيع أن يتخلى عن رسالته ودوره ومهمته والا لانتحر كما حاول فعلا مرة. من هنا كان غموضه النسبي وكانت المشقة فى قراءته لا لأنه حريص على حياته، فهو القائل:

من باعني بحياتي ميتة سرحا
بايعته وأهان الله من ندمــا

وانما لأنه حريص كما قلت على أداء رسالته وايصالها واستمرارها وكفالة جميع الضمانات لانجازها وتجنيب مسيرة الكتيبة الخرساء جميع احتمالات الخطأ والفشل والانحراف والشغب..جميع المحاذير أو المعوقات أوالمفاجآت على طول زحفها منذ المسير حتى الارساء منذ بداية الزحف حتى يوم المواجهة المنشود.

فيما هو يكشف للكتيبة الخرساء عن خطط وحيل جميع الحركات المعادية التى هي فى واقعها كما قال في أكثر من مكان حركات ماسونية يهودية أصلا:

لهم حيل فى حربهم ما اهتدت لـها
جديس ولا ساست بها الملك جُرهم

فيما هو ـ على طول اللزوميات ـ يشكك في كل شيء بلا استثناء مما قاله أو قصه أو نقله الرواه، فاضحا جميع الاسرائيليات والأصابع الاسرائيلية التى مسخت وشوهت وحرفت وأبدلت كل شيء وعبثت بالأديان والمذاهب والأحزاب…إلخ وكذلك يقول قبل الأبيات المذكورة:

أعللت علة قال وهي قديمة
أعيا الأطبة كلهم ابراؤهـا

ويقول:

فهمُ الناس كالجهول ومـا
يظفر إلا بالحسرة الفُهماء

ثم هو سيسوق فى اللزوميات حاشية السيرة الذاتية، فيحكي أحيانا عن تجاربه وعن حياته الخاصة، ليصحح ما يُقال أو ما سوف يُقال عنه من افتراءات في حياته وبعد مماته.

أقول سيكرر أبو العلاء هذا كله على طول اللزوميات وسيكلف القاريء غير الملول وغير المتعجل أن يكرر قراءته ليفهم عنه. ويمل هو نفسه التكرار ويوشك أن ينحدر إلى اليأس ثم يعود فيتماسك ويصبر ليستأنف بث تعاليم، صريحا تارة ومتخفيا تارات، طالبا من تلاميذه ومريديه وأنصاره وأعضاء حزبه أن يتفرقوا وينتشروا فى العالم المعروف حينذاك ويحملوا رسالته إلى شتى أرجاء الأرض ويعدوا العدة من رباط الخيل للمواجهة الحتمية القادمة:

فما حبس النفس المسيحُ تعبـــدا
ولكن مشى في الأرض مشية سائح

أما هو فمجبر بحكم عماه وعجزه على لزوم محبسه، أو محبسيه، أو الثلاثة محابس:

أراني في الثلاثة من سُجونـي
فلا تسأل عن الخبر النبيــث
لفقدي ناظري ولزوم بيتــي
وكون النفس فى الجسد الخبيث

فاذا انتقلنا إلى رسالة الغفران وجدناه يشير في أكثر من مكان إلى هذه الكتيبة وإلى حيل وخطط الاعداد مما لا يتسع له هذا النطاق وخاصة على لسان الجن فى لقائهم مع ابن القارح، إلى أن يقول صراحة لابن القارح: "ودنانيره بإذن الله مقدسات…وإن كانت زائدة على الثمانين، فقد أوفت على عدة أصحاب موسى الذين جاء فيهم: ]واختار مُوسى قومهُ سبعين رجُلا لميقاتنا[، وعلى عدة الاستغفار فى قوله تعالى: ] إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر اللهُ لهُم[، وعلى عدة أذرع فى السلسلة في قوله تعالى: ] ثُم في سلسلة ذرعُها سبعُون ذراعا فاسلُكُوهُ[ ".

وواضح أن عددى الثمانين والسبعين عددان رمزيان شفريان ولا يعنيان العدد الحقيقي، وهذا ما يقوله أبو العلاء بعد ذلك مباشرة. ولكن المهم أن هذه الدنانير ـ هذه الكتيبة ـ تتخذ من مصر بالذات مركزا لها. وهذا ما يوحي به قول أبي العلاء قبل ذلك مباشرة : "وسرتني فيئةُ الدنانير إليه فتلك أعوان، تشتبه منها الألوانُ، ولها على الناس حقوق، تبر إن خيف عقوق. قال عمرو بن العاص لمعاوية (بن أبي سفيان): رأيت فى النوم أن القيامة قد قامت وجيء بك وقد ألجمك العرقٌ. فقال معاوية: هل رأيت ثم من دنانير مصر شيئا؟ وهذه لا ريب من دنانير مصر"!

أما قصة أبي العلاء مع مصر بالذات فتحتاج وحدها إلى بحث طويل ما بين سقط الزند واللزوميات ورسالة الغفران فله عنها كلام أكثر من أن يقع فى حصر. وأعد بأن أفرد له مقالة منفردة، ولكن حسبي هنا أن أشير إلى قوله:

ان نال من مصر قضاء نازل
فمصير هذا الخلق شر مصير

وقوله:

تتوى الملوك ومصر فى تغيرهـم
مصر على العهد والاحساء احساء

وقوله:

ما خص مصرا وبأ وحدها
بل كائن فى كل أرض وبأ

وننتقل إلى رسالة ابن القارح فنراه يلمح كثيرا إلى المدسوس والمنحول والمصحف، ويحكي الحكاية التالية عن أبي الفرج الزهرجي: "لقيتُ أبا الفرج الزهرجي بآمد ومعه خزانة كُتبه، فعرضها على فقلتُ: كتُبك هذه يهودية، قد برئت من الشريعة الحنيفية، فأظهر من ذلك إعظاما وإنكارا، فقلت له: أنت على المُجرب، ومثلي لا يهرفُ بما لايعرف، وابلغ تيقن. فقرأ هو وولدُه وقال: صغر الخُبرُ (الاختبار) الخبر. وكتب إلى رسالة يُقرظُني فيها بطبع له كريم، وخُلُق غير ذميم".

وهو يقدم ثبتا طويلا بكتب ضاعت أو سرقت أو خبئت. ثم يحث أبا العلاء على أن يتخذ فى مبدأ دعوته أسوة فى صحابة النبي، ومنهم عُتبة بن غزوان: "كان عُتبة بن غزوان يقول إذا ذكر البلاء والشدة التى كانوا عليها بمكة: لقد مكثنا زمانا ما لنا إلا ورق البشام (شجر طيب الريح يستاك به، ولا ثمر له)، أكلناه حتى تقرحت أشداقُنا، ولقد وجدتُ يوما تمرة فجعلتها بيني وبين سعد بن أبي وقاص بن أهيب الزهري، وما منا اليوم أحد إلا وهو أمير على كُورة".

ثم دعوة النبي التى بدأت ضعيفة ثم ما لبثت أن قويت وانتشرت، متنبئا بذلك ـ ضمنا ـ لدعوة أبي العلاء.

أبو العلاء إذن قائد كتيبة وصاحب دعوة وفيلسوف ومنظم ومنظر ومخطط لحركة لم يكن لها منذ ألف عام إلا أن تلتزم التخفي والسرية.

فما هو تكتيك تلك الحركة؟

وما هي استراتيجيتها؟

وما هي تعاليمها ومبادؤها وأسسها ومنطلقاتها؟

ومن هم أعداء أبي العلاء؟

وأين هي هذه الكتيبة الآن؟ وهل صُفيت على مدى ألف عام من الخيانات أم ماذالت تتحرك تحت الأرض؟ لو أنا التفتنا إلى أبي العلاء منذ زمن طويل واكتشفنا سره لما اُخذنا على غرة ألوف المرات، ولو أننا صُنا تراثنا وطهرناه من المدسوس والمصحف ـ الاسرائيليات ـ لعرفنا أعداءنا من أصدقائنا، فضلا عن معرفتنا لأنفسنا، ولواجهنا خطط الأعداء بنفس المكر والخبث والذكاء ونمنا بعيون مفتوحة يقظة. ولعرفنا أن الذكاء العربي يزري كثيرا باسطورة الذكاء الاسرائيلي..ولكن دائما يفوت الأوان.

ان الفعل والفكر العالمي لم يلق مثلما لقى العقل والفكر العربي بالذات من صنوف الاغتيال البدني والروحي والقهر والحجر والمحاذير والقيود والمطاردة والتشريد والتجويع ..إلخ

لاغرو أن نعيش الآن فى ظل شلل فكري شامل ورهيب، حتى فقدنا الثقة بأنفسنا وبماضينا وحاضرنا ومستقبلنا، بل وفقدنا حتى مجرد غريزة الدفاع الشرعي عن النفس. ولكن لا داعي لأن نستبق الحديث.

إن علينا أن نتابع رحلتنا مع أبي العلاء، وسيأتي كل شيء فى حينه. وسنكتشف أن بروتوكولات حكماء صهيون مثلا وهى الصيغة القريبة والحديثة أو المعاصرة لمخططات الماسونية، أي اليهودية ، أي الصهيونية..إلى آخر ما يتفتق عنه الخبث اليهودي من أقنعة وألوان وجلود.

أقول إن البروتوكولات هي الصيغة القريبة والحديثة أوالمعاصرة لهذا المخطط الموجود تقريبا ـ وبطريقة رمزية ـ في التراث الفكري كله على مدى العصور، ولكن المفاجأة حقا هي أنه موجود أيضا في سقط الزند ولزوم ما لا يلزم وسالة الغفران والفصول والغايات!


مع تحيات منتديات تونيزيا كافيه
http://www.tunisia-cafe.com

يتبع في الصفحة الموالية