وتؤكد دراسات الطب النفسي على الصعوبات التي يواجهها الأفراد الذين نشأوا في أسر تفتقر إلى الحنان والانسجام، وقد استطاعت بحوث أجريت مؤخراً أن تزيح الغطاء عن الآثار المدمرة على الأسرة عندما يحجز طفل مصاب بتخلف عقلي في البيت وبالذات على الأخت الكبرى . . وعلى نحو مماثل تنشأ آثار ضارة عندما يصاب الأب أو أحد الإخوة بمرض عصبي.
ومن هنا فإنه من غير اليسير الإجابة عن ذلك التساؤل المطروح ما لم تتوفر لدينا البيانات الكافية التي تساعد على ذلك. وتؤكد إحدى الدراسات على أن الحاجة ملحة إلى مزيد من الفئات ذات المغزى بالنسبة لما يتوفر لدينا من بيانات عما يحدث للأطفال عندما ينهار البناء الأسري.
أما العنصر الآخر في هذا الارتباط فإنه يتمثل في تنشئة الأطفال على نحو ملائم، فغياب الأب عن الأسرة سواء كان بالطلاق أو الوفاة يؤدي إلى فقدان النموذج الذي يمكن أن يجتذبه الطفل.
وعلى كل حال، فإنه إذا افترضنا ثبات الوضع الطبقي للأبوين فإن معدلات الجناح ترتفع بين أبناء المطلقين أكثر من غيرهم، وكذلك ترتفع هذه المعدلات بين الأطفال الذين انهار بناؤهم الأسري نتيجة الانفصال أو الطلاق، مثلما يحدث بالنسبة للأطفال اليتامى. وهو ما يمكن التنبؤ به بسبب الدعم والمساندة الاجتماعية وكذلك الاحتمالات المتضائلة في أن الأطفال الذين يفقدون الأب سبب الموت مثلاً يمكن أن يتعاركوا أو يمروا بمرحلة من النزاع أو المشكلات مثل تحديد الهوية أو الولاء.
وقد قام كل من (شلدون واليانور جلو بك ) بربط جناح الأحداث بعدد من أنماط عدم الاستقرار الأسري، فوقع الجناح أكثر احتمالاً بين الأطفال الذين انحدروا من أسر تعرضت للطلاق، كما أن الأطفال الذين ينشأون في أسر مات عائلها تزداد معدلا جناحهم بنسبة (50% ) بالنسبة لغيرهم من الذين ينشأون في أسر مستقرة. ومع ذلك فإن الأطفال الذين ينحدرون من أسر تعرضت لانفصال الأبوين دون حدوث الطلاق يمثلون نسبة عالية من الجناح حيث تبلغ النسبة (1:2) بالقياس إلى الأسر المستقرة (مع استبعاد الوضع الطبقي ).
ويبدوا أن الفشل الذي يصيب أداء أحد الأبوين للدور المنوط به في البيت (في الأسر ) يمثل عاملاً مدمراً على الأطفال أكثر مما يمثله انسحاب أحد الأبوين من العلاقة الزوجية.
وفي دراسة أخرى اتضح أن المراهقين الذين يعانون من مشكلة سوء التكيف الشخصي ينحدرون أساساً من أسر تتعرض لصراعات زوجته ومشاكل لا تنقطع بالقياس إلى نظرائهم الذين ينحدرون من أسر تعرضت للتقويض نتيجة الطلاق أو موت العائل (1).
ويتفق الباحثون في مجال الإرشاد والتوعية الأسرية على ضرورة تعاون جميع المهتمين بالدراسات الأسرية من علماء الاجتماع، وعلماء الدين وعلماء النفس، وعلماء الاقتصاد، ورجال القانون، ورجال السياسة في وضع خطط التوعية الأسرية.
وبرامج وقائية تعين الشباب وراغبي الزواج على فهم هذه الحياة الزوجية والعائلية، للتعرف على دور كل عضو بالأسرة، والصعوبات التي تعترض هذه الحياة، والعوامل المؤثرة فيها، وأساليب العلاج الصحيح لذلك.
ويمثل العلاج الأسري خطوة متقدمة مهمة في خدمة الفرد والجماعة.
ويشير محمد خليفة بركات في كتابه ((علم النفس التربوي )) إلى أن برامج التوعية الأسرية يجب أن تشمل ما يلي:
1- التوعية بوظائف الأسرة، وكيفية تنظيم الحياة العائلية من النواحي الاقتصادية، وتدبير شؤون الحياة المنزلية .
.. . مثل تخطيط ميزانية الأسرة، والموازنة بين بين مصادر الدخل وبين متطلبات الإنفاق والاستهلاك، بما يحفظ التوازن الاقتصادي للأسرة . . . وكذلك التوعية بشؤون الادخار والاستثمار، وتبادل المصالح، وغير ذلك من المبادئ الاقتصادية.
2- من المهم أن يحاط الآباء والأمهات علماً بالمبادئ القانونية التي ترتبط بالحقوق والواجبات الاجتماعية . . مثل قوانين الأحوال الشخصية، وما يتصل بعقود الزواج والطلاق والنفقة، وكذلك شؤون الميراث.
وحقوق أفراد الأسرة في التركات، وأيضاً أنواع الجرائم من جنايات وجنح ومخالفات والعقوبات التي ترتبط ببعض الجرائم، كالسرقة والزنا . . . وبالأخص ما يتعلق بأمور التشرد وانحراف الأحداث وما إلى ذلك.
3- يجب أن تهتم الأسرة بمبادئ التربية الخلقية من حيث الخير والشر، ومن حيث احترام القيم والتقاليد الاجتماعية، والتمسك بالفضائل، والمعايير لاجتماعية السائدة، وتنشئة الأطفال على العادات والصفات الخلقية المرغوبة، والابتعاد عن العادات السيئة كالتدخين وتعاطي المخدرات والخمور وتعود لعب الميسر وتجنب صحبة السوء . . . إلى غير ذلك.
4- ويجب تثقيف الآباء في الأمور الدينية حتى ينشئوا أبناءهم على المبادئ الدينية، والمعتقدات السليمة، ويتكون لديهم الضمير الإنساني عن طريق العبادات، والتمسك بالفضائل الدينية.
5- ويمكن أن يعرف الآباء أهمية التربية الجمالية حتى يشجعوا أبناءهم وبناتهم على حب الفنون وتذوق الجمال، وعلى ممارسة هواياتهم المختلفة المرتبطة بالتربية الفنية.
ولا بد أن يدرك الآباء والأمهات أهمية التربية الثقافية للأبناء، بحيث يشجعونهم على القراءة والاطلاع، وتدريبهم على استخدام اللغة الصحيحة كتابة وتعبيراً .. وترتبط بذلك الثقافة العلمية، بما يساعد على النقد البناء، والأخذ بالأسلوب العلمي في التفكير، بما يساعد على النقد البناء، والأخذ بالأسلوب العلمي في التفكير، وفي محاربة المعتقدات الخاطئة، ومناقشة الأمثال العامية الشائعة.
ومن أهم البرامج توعية الآباء والأمهات ما يرتبط بالنواحي الصحية من حيث الوقاية والتشخيص والعلاج، وأهمية العناية بالتغذية، وتحقيق مبادئ الصحة الجسمية والنفسية(1).
ثانياً: وسائل العلاج والحلول للتوعية الأسرية
إن جميع برامج وخدمات الرعاية الأسرية، تهدف إلى مساعدة الأفراد للتمتع بحياة نفسية واجتماعية راضية، وإعانتهم للاشتراك في حياة الجماعة ومساهمتهم في المجتمع المساهمة الفعالة.
كما تعمل هذه البرامج والخدمات على زيادة قدراتهم الشخصية والأسرية في عمليات التكيف المطلوبة.
ماذا نقصد بعملية العلاج الأسري:
نقصد بالعمليات العلاجية بصفة عامة العمليات التي تقوم بإحداث تغيير في نظام الأسرة حتى يمكنها أن تؤدي وظائفها المختلفة وتحقيق حاجاتها كوحدة متكاملة، ولا بد أن يدخل في هذا التغيير ويتشابك معه تغيرات من جانب أفراد الأسرة، مثل تغيرات في الاتجاهات والمشاعر والسلوك والأدوار وغيرها.
فالفرد يحتاج إلى أن يشعر بأن الأسرة لها ذات مستقلة، كما أنه تحتاج إلى مساندة أفرادها لوحدتها، وأنها تعتمد على أنشطتهم وتعاملهم . . وفي هذا الإطار يجب أن يحدد المعالج أهداف العلاج بكل عناية، ويختبره من وقت إلى آخر. فقد تحتاج الأسرة إلى أمور غير تلك التي يعتقد المتخصص أنها في حاجة إليها، أو غير تلك التي يريدها لها، ويأتي ذلك عن طريق المحادثة الصريحة بينه وبين الأسرة.
ولابد أن يلاحظ المعالج أن العلاج الفعال هو الذي يبدأ مباشرة في تناول الصراعات والصعوبات الفردية التي لها صفة التكرار، لأن كثيراً من مثل هذه الأسر لا تجد العلاج المبكر وتكون نتيجة ذلك أن تواجه مشكلات متراكمة في حياتها المستقبلية.
والمعالج الأسري يحاول إتاحة الفرصة أمام أفراد الأسرة للتفاعل، سواء كان ذلك عن طريق الاتصالات اللفظية أو غير اللفظية، حتى يمكنه أن يتفهم المشكلات والصعوبات، ليتمكن من ثمّ من تعديل اتجاهات هؤلاء الأفراد واستغلال وإطلاق القدرات المعطلة.
وفيما يلي بعض الطرق التي تساعد في حل المشكلات التي تواجه الزوجين وبالتالي تسبب التفكك الأسري.
1- الاهتمام بوضع سياسة للتوعية الأسرية، تشمل الإجراءات التالية:
* تغيير مفاهيم الآباء والأمهات والأسرة بشكل عام حول أسس الاختيار للزوجين، والاتجاه نحو تدعيم فكرة الزواج المتكافئ.
* تغيير المفاهيم المرتبطة بالعلاقات الزوجية، لكي تتوافق مع التغيير الحادث في نمط العلاقة الزوجية التقليدية، والتي يمكن أن تتم من خلال ما يلي:
- توعية الذكور والإناث بأدوارهم الأسرية المستقبلية، ويمكن أن يبدأ ذلك منذ مراحل التعليم الأولى.
- عقد دورات تدريبية وندوات وحلقات نقاش حول الأدوار الأسرية وتباينها بين الزوجين، ومتطلبات تأسيس علاقة زوجية ناجحة(1).
2- دور الزوجين في حل مشكلاتهما:
وهي في نظري من أهم الطرق لتفادي حدوث المشكلة.
قد يبدو للبعض أن الزواج الفاشل ينشأ عن وجود مشكلات حادة تعترض الزوجين في بداية حياتهما الزوجية مما يعتذر معه الاستمرار فيها، فتنتهي بانفصالهما عن بعضهما بواقعة الطلاق.
ولكن الحقيقة أن تعذر الاستمرارية في الحياة الزوجية قد لا يكون بسبب وجود هذه المشكلات الحادة، ولكن بسبب تجمد الزوجين عندها، وتحجر فكر كل منهما بسببها.
ومن هنا يأتي دور الزوجين في حل مشكلاتهما بأنفسهما، حيث يرى ماهر محمود (1988 ) في كتابه ((سيكولوجية- العلاقات الاجتماعية )) أن هناك أسساً لحل المشكلات الزوجية تتمثل في:
- المرونة في التفكير واستخدام المنطق في الحوار، فهما يسهمان في حل أية مشكلات تعترض الحياة الزوجية مهما كانت درجة حدتها أو خطورتها. ومن المهم أن يتيح كل منهما للآخر الفرصة للتعبير عن رأيه بصراحة وموضوعية بلا هجوم ولا تجريح، بحيث تستهدف المناقشة معرفة أسباب الخلاف والتغلب عليه بعيداً عن العناد والتكبر الذي يدفع بعضهما للتمسك والتشبث برأيه حتى ولو كان مخطئاً فيه.
- ضبط النفس وكظم الغيظ والتحكم في الانفعالات بحيث لا يصطدمان مع بعضهما بعضاً في طريق بلا عودة.
- تحمل المسؤولية الكاملة من جانب أي من الطرفين فيما يتعلق بسلوكياته الخاطئة تجاه الطرف الآخر، بحيث لا يتمادى أي منهما في صب غضبه ولومه على غيره، واتهامه بأنه السبب في المشكلات، وتبرئة نفسه منها.
- الترويح عن النفس، فعندما يشعر أحد الزوجين أو كليهما بأن الحياة الزوجية بينهما تمر في مرحلة حرجة وخطرة، بصرف النظر عمن تسبب فيها، يجب أن يبادر كل منهما بتجميد هذه المشكلات على ما هي عليه لفترة مرحلية دون الخوض فيها، ومن ثم يحاول أي منهما أو كلاهما خلال فترة الانتقال هذه أن يبحثا عن وسيلة فعالة ومؤثرة للترويح عن نفسيهما بطريقة جيدة(1).
3- العلاج الديني ودور جمعيات الإصلاح الديني:
قال الرسول صلى الله عليه وسلم : ((ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة، قالوا : بلى، قال: إصلاح ذات البين . . وفساد ذات البين هي الحالقة ))(2).
هناك اتجاهات حديثة بين علماء النفس تنادي بأهمية الدين في علاج الأمراض النفسية، وترى أن في الإيمان بالله قوة تمد الإنسان بطاقة روحية، تعينه على تحمل مشاق الحياة، وتجنبه القلق الذي يتعرض له كثير من الناس في العصر الحالي.
* ومن هنا تأتي أهمية الدور الذي يمكن أن تضطلع به جمعيات الإصلاح الديني، فهي تهدف إلى تشجيع أعمال البر والخير وبث الأخلاق الحميدة والتعريف بالإسلام ونشر فضائله وآدابه. وتقوم كذلك بتقديم المساعدات النقدية والعينية للمسلمين، وتوزيع الصدقات والزكاة ورعاية الأيتام والفقراء داخل البلاد وخارجها، كما تقوم ببناء المساجد والمدارس والعيادات ... وكثير من هذه الجمعيات تصدر المجلات والكتب والنشرات الدينية التي تنشر الكلمة الصادقة وتنشر الفكر الواعي وتبصر المسلمين بأمور دينهم ودنياهم.
* وتضطلع هذه الجمعيات أيضاً بمساعدة أفراد الأسرة على مواجهة الصعوبات والمشاكل والأزمات الأسرية المختلفة، وذلك بإقامة الندوات والمحاضرات التي يدعي لها المتخصصون في مجال الأسرة.
بالإضافة لذلك، فإن الإسلام قد وضع مراحل متدرجة لعلاج التفكك الأسري، هي:
- الوعظ:
ومعناه النصح أو العتاب أو التوجيه سواء من الزواج للزوجة، أو من الزوجة للزوج، أو ممن لهم تأثير قوي على الزوج أو الزوجة كالأب أو الأم أو الإخوة، ويجب أن يتضمن الوعظ الكلمات الطيبة وضرب الأمثلة من الأثر الصالح والسنة النبوية الشريفة، واختيار الأسلوب الملائم لذلك.
- الهجر:
ونعني به فراش الزوجة، وهذا الدرجة هدفها إشعار الطرف الآخر برفض المعاشرة كوسيلة للضغط من أجل التغيير وقد حدد الشرع ألا تزيد مدة الهجر عن شهر إلى أربعة أشهر، والهجر لا يعني ترك المنزل وإنما هو وسيلة لمحاولة الإصلاح داخل المنزل وداخل الأسرة وبدون تدخل الآخرين.
- الضرب غير المبرح:
إن لم ترتدع المرأة بالنصح والوعظ ولم يضغط عليها هجر الفراش لتغير من سلوكها، أباح الشارع الحكيم وسيلة الضرب كعقاب مادي هدفه الإيذاء المعنوي وليس الإيذاء البدني.
- التحكيم:
وهنا يتم اختيار حكم من أهل الزوجة وحكم من أهل الزوج، ومن رأي الإمام القرطبي أن الحكمين لا يكونان إلا من أهل الزوج والزوجة، إذ هما أعرف بأحوال الزوجين، ويشترط أن يكونا من أهل العدالة وحسن النظر، فإن لم يوجد من يصلح لذلك فمن غيرهما، وذلك إذا أشكل أمرهما ولم يدر ممن جاءت الإساءة، فأما إذا عرف الظالم فإنه يؤخذ منه الحق ويجبر على إزالة الضرر.
4- دور وسائل الإعلام في التوعية الأسرية:
تلعب وسائل الاتصال المختلفة، سواء المباشرة أو غير المباشرة، من خلال رسائلها الإعلامية، دوراً حيوياً في تنشئة الأسرة التنشئة السليمة التي تضمن استقرارها، وتعمل من خلال شبكة العناصر والمؤثرات الوسيطة، على إحداث التأثير المطلوب بين أفرادها لانتهاج السلوك المقبول حيال أية مشكلات أو نزاعات قد تواجهها، ذلك أنها تضطلع بوظائف مهمة تجاه الجماهير كالتعليم والتثقيف، والتوعية، والإرشاد، والترفيه.
ولقد خلص الباحثون في مجال الإعلام إلى عدة نتائج حول أثر الإعلام وقوته في الإقناع، من أهمها: أن وسائل الإعلام تعزز القيم الاجتماعية وتدعمها، وتصبح في كثير من الأحيان المصدر الرئيس للمعرفة، كما أن المعلومات الواردة من وسائل الإعلام عادة ما تلعب دوراً أساسياً في صنع قرارات الجماهير حيال القضايا المختلفة.
أما فيما يخص الأسرة كجمهور نوعي من جماهير وسائل الإعلام المختلفة، فقد اتفق الباحثون على أن المواقف التي يعتنقها أفراد الأسرة وأصدقاؤهم تحدد بمقدار كبير قبول المعلومات الواردة عبر وسائل الإعلام أو رفضها .. كما يتجلى تأثير وسائل الإعلام بصورة واضحة في تكوين الآراء لديهم حول المواضيع التي لا يعرفون عنها إلا القليل، وبهذا فإن وسائل الإعلام تقل فعاليتها في تغيير الآراء الموجودة فعلاً عند الأفراد.
لقد استنتج عالم الاتصال المشهور ( لاسويل ) أن وسائل الاتصال تقوم بنقل الموروث الاجتماعي ونشره من جيل إلى جيل، والتعرف به، وهو ما عبر عنه بالوظيفة التعليمية لوسائل الاتصال، التي تعني تأهيل الفرد وتنشئته تنشئة مشتقة مع أهداف المجتمع ومثله وقيمه. ولما كانت التنشئة الاجتماعية تعلم الالتزام بأساليب الجماعة، فهي عملية مستمرة مدى الحياة، يكتسب المرء من خلالها المعايير والقيم والسلوكيات المقبولة اجتماعياً، ويمارسها بدوره. وفي المجتمع الحديث تقوم وسائل الإعلام بعملية التنشئة الاجتماعية بصورة موازية ومكملة لما تقوم به المؤسسات الأخرى (التعليمية والعائلية والثقافية ) إن لم تتفوق عليها، خاصة في عالم متغير كعالمنا تكثر فيه الأحداث وتتسارع بطريقة غير مسبوقة.
ومما يزيد من فعالية وسائل الإعلام في التنشئة الاجتماعية الوقت المتزايد الذي يكرسه المرء لها، فالذهاب إلى المدرسة مثلاً قد يتوقف بعد سنين عديدة، ولكن التعرض لوسائل الإعلام يكون مدى الحياة. لذلك فإن وسائل الإعلام من خلال التزامها بقضايا المجتمع والإنسان توفر رصيداً مشتركاً من المعرفة الاجتماعية يتأثر به كل أفراد المجتمع . . ومن البديهي القول: إن ذلك الرصيد المشترك يمكن الأفراد من القيام بأدوارهم بفاعلية، ويتيح لهم المشاركة الإيجابية في الحياة العامة وشؤونها.
ويؤكد هذا الاستعراض لبعض خصائص وسائل الاتصال الإعلام، الحاجة لاستخدام هذه الوسائل الاستخدام الأمثل في الإرشاد الأسري، وذلك يتطلب إعداداً مدروساً للرسائل الإعلامية التي تبث للجمهور، من حيث شكلها ومضمونها . . كما يتطلب اختيار وسيلة الاتصال المناسبة التي يمكن بها إحداث التأثير المطلوب في الجمهور المستهدف، واختيار الأوقات المفضلة للجمهور، بوصف ذلك عملاً مهماً في التعرض الاختياري للرسائل الإعلامية . . كذلك التنوع والتوسع في الرسائل الإعلامية فيما يخص تنمية معارف الجمهور، وعرض القضايا الجدلية، ومحاولة مساعدة الجمهور في صنع القرار والاستنتاج، وتقديم الحجج الخاصة بالمواضيع المختلفة للإرشاد، وتوضيح خطورة عدم التقيد بما تحمله الرسائل الإعلامية من تعليمات ومعلومات، فضلاً عن المصداقية والدقة اللتين هما أساس ثقة المتلقي بوسيلة الاتصال(1).
5- دور المؤسسات الحكومية والأهلية في التوعية الأسرية:
فيما يلي بعض النماذج لمؤسسات حكومية أو أهلية تقدم وتشارك في حل المشكلات الأسرية، ويختلف حجم هذه المؤسسات وأهدافها طبقاً لإمكانياتها واحتياج المجتمع لمثل هذا التخصص:
أ - مراكز التنمية الاجتماعية Social Development
تقوم المراكز التنموية بتقدم الخدمات الإرشادية للأسر، ورفع مستوى التربية الاجتماعية، العمل على استقرار الحياة الأسرية، وإرساء دعائم الأسرة على أسس وقيم دينية وأخلاقية ووطنية، باعتبار تلك القيم من العلامات المهمة في هذا الاستقرار.
ومن برامج مراكز التنمية الاجتماعية ووسائلها في تحقيق أهدافها ما يلي:
- المحاضرات والندوات، التي تتولى التوعية الاجتماعية والثقافة والصحية للمرأة والرجل على السواء.
- تنظيم دورات تدريبية للنساء، ككيفية التعامل مع المشاكل الأسرية، وعن كيفية تربية الأبناء(1).
بالإضافة إلى الاستعانة بالجمعيات الأهلية والتطوعية في إقامة المحاضرات والندوات والدورات التدريبية للعلاقات الأسرية. ويمكن تأسيس تخصصات في الجامعة تقوم بتدريب أخصائيين في مجلا العلاقات الأسرية، يكونون هم القائمين فيما بعد على إدارة وحل مشكلة الزواج(2).
ب - مكاتب التوجيه والاستشارات الأسرية:
تتلخص أهداف هذه المكاتب في: علاج المشاكل التي تتعرض لها الأسرة، وتقضي أسبابها، وتهيئة الجو العائلي السليم الذي يكفل للأسرة نشأة اجتماعية سليمة صالحة، وتوجيه الأسرة نحو مصادر الخدمات الاجتماعية المختلفة في المجتمع المحلي للانتفاع بها، ومعاونة قضاة الأحوال الشخصية في بحث العوامل المسببة للمنازعات الزوجية والعائلية، بالإضافة إلى القيام بالبحوث والدراسات المتصلة بالأسرة والتي تساعد على تحديد الإطار العام للخدمات اللازمة لها. وتعمل هذه المكاتب على تحقيق أهدافها بأسلوبين:
الأول: الأسلوب العلاجي:
وذلك بدارسة الحالات التي تعرض عليها وبحث أسبابها، وتشخيصها تشخيصاً دقيقاً، والعمل على علاجها، واتخاذ الحلول اللازمة لتقديم الخدمات اللازمة التي تساعد على زوال أسباب المشكلة.
الثاني: الأسلوب الوقائي:
وذلك بالتوعية الاجتماعية والأسرية، والاستعانة بوسائل الإعلام المختلفة، وإجراء البحوث والدراسات، وعقد الندوات والمؤتمرات بهدف زيادة الوعي الأسري في المجتمع وتفادي المشاكل والمنازعات قبل وقوعها(1).
وهناك عدة طرق تقدمها المراكز كوسائل للعلاج من بينها:
* الجلسات الأسرية: وفيها إما أن تكون:
- الاستشارة جماعية (في جو هادئ وخصوصي )،
- أو استشارة جماعية (جماعة الدعم الاجتماعي، جماعة المجهولين ).
* البرامج والدورات التدريبية (الثقة بالنفس، مهارات الاتصال، تطبيقات أسرية، السعادة الزوجية التربية الإيجابية للأولاد، إدارة الضغوط ).
* الإصدارات المرئية والسمعية، الخاصة بالاستشاريين المحليين والعالميين(1). وهناك أساليب علاجية حديثة تطبق الآن من أجل حل المشكلات الزوجية قبل أن تتفاقم، منها العلاج الزواج المرتبط بالمواقف، والعلاج الزواج السلوكي، والعلاج الزواج الذي يركز على العواطف، وهو أحدث أساليب العلاج حالياً. وكلها أساليب تطبق تحت إشراف أخصائي المشكلات الزوجية الذي يجب أن تتوفر لديه الخبرة العلمية المرتبطة بالإرشاد الاجتماعي والنفسي والسلوكي.
- ويقوم العلاج الزواج المرتبط بالموقف، على إعادة تمثيل الموقف محل الخلاف بين الزوجين، الذي يعتبر مجالاً للتنفيس عن المشاعر السلبية بين الزوجين، حتى يعود الهدوء لحياتهما من جديد.
- أما المنهج السلوكي فيقوم على خلق مواقف التفاعل بين الزوجين، ويستهدف إيجاد التواصل الجيد بينهما، أولاً، وتغيير أساليبهم أو سلوكياتهم في مواجهة المواقف، ثانياً، وذلك من خلال تدريبهم على التعبير عن مشاعرهم، واكتساب القدرة على الاستماع أو الإنصات للطرف الآخر.
- أما الأسلوب الذي يعالج المشكلات الزوجية بالتركيز على العواطف، فيقوم على مساعدة الزوجين على إدراك مشكلاتهم ومشاعرهم الخفية التي يزيد كبتها من حدة الصراع بينهما أو يؤدي إلى التفاعل السلبي بينهما، وبالتالي فإن المنهج يركز على تدعيم:
- العلاقة الإيجابية
- تفادي مناطق الاختلاف.
- إظهار المشاعر الخفية في موقف تفاعلي هادئ.
- تدعيم الثقة بين الزوجين.
العلاقة بين مفهوم الذات وأساليب المعاملة الزوجية:
أجرى الدكتور محمد محمد بيومي، أستاذ النفسية بجامعة الزقازيق، دراسة ميدانية لتحديد العلاقة بين مفهوم الذات، وأساليب المعاملة الزوجية، وعلاقتهما بالتوافق الزواج، وذلك بهدف:
- الخروج ببعض التوصيات والتطبيقات النفسية والتربوية الإرشادية المتعلقة بالإرشاد الزواج وخدماته، بقصد مساعدة الزوجين على تحقيق أقصى قدر من التوافق الزواج.
ومن ضوء ما كشفت عنه الدراسة من نتائج، تتضح أهمية الحاجة إلى الإرشاد الزواج لطرفي العلاقة الزوجية، والقائمين على تربية النشء والشباب. ويمكن في ضوء هذه النتائج اقتراح الخدمات الإرشادية والتطبيقات التربوية التالية:
أولاً: في مجال التربية الزوجية والأسرية:
(أ) بالنسبة للآباء:
- تقديم نموذج طيب لأساليب المعاملة الزوجية يرغب الأبناء في الزواج، وفي اتباع هذه الأساليب السوية في قابل حياتهم الزوجية. فالبنت التي ترى أمها تحترم أباها لا شك أنها ستحترم زوجها في المستقبل والعكس صحيح . . وهذا بالنسبة للابن تماماً، فالابن الذي يجد أباه يحترم أمه ويقدس الحياة الزوجية، لا شك أنه سوف يقدسها ويتكون لديه اتجاه موجب نحوها.
- اتباع أساليب معاملة والديه سوية مع الأبناء، فلا شك أن اتباع مثل هذه الأساليب سوف يساعد على تكوين شخصيات ناضجة عاطفياً ووجدانياً، لديها مفهوم موجب عن ذاتها، مما ينعكس على اتباعها لهذه الأساليب السوية في تعاملها الزواج، وعلى العكس فإن اتباع أساليب معاملة غير سوية مع الأبناء سوف يكوّن شخصيات قلقة مضطربة تفتقر للنضج العاطفي والانفعالي، لدينها مفهوم وسالب عن ذاتها، مما ينعكس على أساليب معاملتها الزوجية مستقبلاً.
- تقديم المعارف والمعلومات الصحيحة والمبسطة عن الحياة الجنسية والزوجية للأبناء بشكل مبسط ومقبول.
- عدم إرغام الأبناء على اختيار شريكة حياة لا يرغبون في الزواج منه، والاكتفاء بالنصح والمشورة.
- عدم المغالاة في المهور عند زواج البنات، ومراعاة الكفاءة والتكافؤ ومستقبل شريك أو شريكة الحياة.
- البعد عن التدخل السافر في حياة الأبناء بعد زواجهم، وتركهم يعيشون هذه الحياة كما يرغبون، مع التدخل بالنصح والإرشاد والصلح عندما تقتضي الظروف ذلك وبرغبة الأبناء.
(ب) بالنسبة للمؤسسات التعليمية والتربوية:
- الاهتمام بالتربية الزوجية ووضعها ضمن مقررات الصفوف النهائية بالنسبة لطلاب المدارس الثانوية الفنية، ولطلاب النهائية بالجامعة.
- الاهتمام بالتربية الجنسية والعاطفية، وتقديم المعلومات الصحيحة عنها من خلال مقررات الأحياء ولم النفس وعلم الاجتماع.
- التركيز في التربية الدينية في المرحلة الثانوية على النكاح وأحكامه وما يتعلق به من خطبة وصداق، وعقد، ونفقة . . إلخ.
- التركيز في علم الاجتماع على الأسرة، وتكوينها، وأهميتها، والأسباب التي تساعد على تكوين أسرة ناجحة:
(ج) بالنسبة للعاملين بمراكز الأمومة والطفولة ووزارة الصحة:
- الاهتمام بمكاتب فحص الراغبين في الزواج لتقوم بتقديم خدماتها الطبية والإرشادية للراغبين في الزواج من حيث الأمراض الوراثية والتناسلية والعقم وخلافة تجنباً لمشكلات تهدد مستقبل الحياة الزوجية مستقبلاً.
- توسيع نطاق هذه الخدمات بإنشاء مكاتب للعلاقات الزوجية والإرشاد الزواج، وحل المشكلات بعيداً عن المحاكم.
(د) بالنسبة لعلماء الدين وعلماء الاجتماع ورجال القانون:
- تقديم الإرشادات والتوجيهات والأحكام والفتاوى الدينية السليمة المتعلقة بجميع أمور الزواج.
- تطبيق الشريعة الإسلامية تطبيقاً تاماً يتمشى وروح العصر، فالإسلام صالح لكل زمان ومكان.
- توضيح الغموض حلو زواج المتعة، والزواج العرفي، والمساعدة على إصدار التشريعات اللازمة في هذا الخصوص.
- توضيح الأساليب الاجتماعية الرشيدة لقيام حياة زوجية سعيدة.
2- خدمات إرشادية للراغبين في الزواج:
- تقديم الخدمات الإرشادية المتعلقة بسيكولوجية المرأة والرجل.
- المساعدة في اختيار شيك/ شريكة الحياة من حيث:
- النضج العاطفي والجنسي والجسمي والعقلي.
- التدقيق في الاختيار، وعدم التسرع جرياً وراء نزوة طارئة أو إعجاب عارض مؤقت.
- التكافؤ نسبياً من حيث: المستوى التعليمي والعقلي، الوسط الاجتماعي، المهنة، الدخل، المستوري الديني والخلقي.
- اعتبار الدين المقوم الأساس للاختيار الزواج.
- البعد عن زواج المصلحة.
- تقديم خدمات إرشادية تتعلق بأساليب المعاملة الزوجية وإدارة الأسرة، وتربية الأبناء.
3- خدمات إرشادية للمتزوجين فعلاً:
- تقديم المعلومات المتعلقة بمقومات الزواج الناجح.
- تقديم المعلومات المتعلقة بالتوافق الزواج وأساليبه.
- تقديم الخدمات الإرشادية المتعلقة بكيفية حل المشكلات الزوجية بأيسر الطرق.
- تقديم الخدمات المتعلقة بطرق التفاعل الاجتماعي مع الزوجة والأبناء.
- تقديم الخدمات المتعلقة بطرق تربية الأبناء ورعاية نموهم.
وفي النهاية، فمما لا شك فيه أن الزواج السعيد ينمو في جو عامر بالثقة والحرية والاحترام المتبادل، فليس أخطر على السعادة الزوجية من أن يعيش الزوجان في قاتم من الشكوك المستمرة، والريبة الدائمة، أو في محيط خانق من الضغط المتوالي والقسر المتواصل، وإذا كانت الثقة لا تولد إلا الثقة، فإن الريبة أيضاً لا يمكن أن تولد إلا الريبة والشك.
ولما كانت السعادة الزوجية ليست منحة أو هبة بل هي كسب، فإنه لا بد لضمان هذا الكسب من تعاون كل من الزوج والزوجة في سعي حثيث من أجل العمل على تحقيق أسباب التكيف، وتجنب دواعي الخلاف والنزاع والتشاحن، وزيادة عوامل وأسباب التوافق والانسجام الشاملة . . . واهتمام الدولة بتوفير جميع سبل الرفاهية والتقدم للمجتمع . . كما أرى أن التخطيط Planning للمستقبل أمر حتمي تفرضه مسيرة التغير المستمر(1).