استقلال القضاء و المحاماة في الوطن العربي
- نقد ذاتي و تبرير: و قد يعتبر الحكم بهذه الطريقة على استقلال القضاء في الدول العربية متطرفا و جاحدا لواقع معاكس لعلتين:
ü أولاهما عامة، و هي كون المجالس القضائية في أغلب الدول العربية، إن لم تكن كلها، مؤلفة من ممثلي القضاة. حقيقة، فالأمر كذلك. و لكن تلك التمثيلية لا تعكس استقلال القضاء لأسباب ثلاثة:
§ أولها، أن تشكيلة المجالس القضائية تضم قضاة معينين فيها لصفاتهم بقوة القانون، كرؤساء المحاكم العليا، أو رؤساء إحدى الغرف أو الدوائر بها، أو رؤساء بعض المحاكم في الدولة. فتكون تمثيلية القضاة في المجالس شبه منعدمة في العديد من الأحيان، مادام القضاة لا يتدخلون في اختيار ممثليهم. و تتكرس هيمنة السلطة التنفيذية بشكل غير مباشر، مادام رئيس الدولة من يعين القضاة السامين، و هم أعضاء المجالس القضائية، في مناصبهم.
§ و ثانيها أنه حتى في الحالة التي يحق فيها للقضاة انتخاب ممثليهم، أو يكون فيها معيار تعيين العضو مستقلا تماما عن إرادة السلطة التنفيذية كما إذا تعلق الأمر بأقدم قضاة محكمة معينة، فلا يخفى أن لرئاسة المجلس من طرف رئيس الدولة، تأثيرا أدبيا على عمل باقي الأعضاء داخله، خاصة و الدول العربية دول أشخاص لا مؤسسات.
§ و ثالثها، أن القاضي عضو المجلس، منتخبا كان أم معينا، خاضع بدوره لسلطة هذا المجلس، و أن عضويته تلك لا تشفع له دائما و لا تحميه لتمنحه حصانة من التأديب، و لو أثناء أداء مهامه على الأقل.
ü و ثانيتهما خاصة تتعلق بالحالات التي يخالف فيها القانون العادي المبدأ الدستوري لاستقلال القضاء. عندها يتعين التدخل لاستبعاد أحكام الأول لخرقه مبدأ دستورية القوانين. و ذلك ما كان المنطق يقتضيه، لولا أن أغلب المشرعين الدستوريين تحسبوا له، و ضمنوا الدساتير مبدأ دستوريا آخر مفاده أن لا سلطان على القضاء و القضاة إلا للقانون. فإذا أظهرت قراءة المبدأ تكريسه لاستقلال القضاء، فإن تحليله يعكس أنه رغم ذلك، خاضع و تابع لسلطة أخرى، و هي سلطة القانون: القانون الذي تسنه السلطة التشريعية، و الذي ترسم معالمه و تسطرها السلطة التنفيذية المنبثقة عن هذه الأخيرة بحسب الأصل العام في النظم الديمقراطية. فيكون الخضوع الذي يضعه التشريع العادي و المخالف للمبدأ الدستوري لاستقلال القضاء، ذا أصل و مرجعية في الدستور، مما يمنح ذاك التشريع سندا يجنبه عيب عدم الدستورية.
9- سلطات وزراء العدل العرب في حق القضاة: غير أن التدخل السافر في أمور القضاء ينعكس من خلال بعض النصوص القانونية التي تمنح وزراء العدل العرب حق إصدار جزاءات تأديبية في حق القضاة، و حق انتداب القضاة و نقلهم، كما فعلت المادة 57 من النظام الأساسي لرجال القضاء المغربي، عندما خولت وزير العدل سلطة انتداب القضاة، و المادة 60 منه التي منحت الوزير المذكور حق إنذار القضاة و توبيخهم و تأخير ترقيتهم لمدة لا تتجاوز سنتين و حذفهم من لائحة الأهلية. و نفس التوجه سارت عليه المادة 39 من قانون السلطة القضائية العماني التي خولت وزير العدل حق نقل القضاة من محكمة إلى أخرى خلال السنة القضائية. فأي استقلال يتمتع به القاضي المواجه في كل لحظة بقرار تأديبي من ممثل السلطة التنفيذية؟ و أي سلطة تلك التي يمارسها متى كان مهددا بسلطة متقاض أو وكيله، قد يصير أحدهما مع مرور الزمان وزيرا، و على الأرجح إنسانا يتعامل بمعايير شخصية، لا مؤسسة تقيم الأمور بطريقة موضوعية؟
10- تدخل السلطة التنفيذية في المحاماة: و رغم أن المحاماة مهنة حرة يفترض فيها الاستقلال، إلا أنها ليست أحسن حالا من القضاء في هذا الصدد. و تتفاوت درجة استقلال المحاماة لدى العرب بين:
ü دول تكون فيها قريبة الاستقلال التام، بل و أكثر استقلالا من القضاء. و تلك حال المغرب حيث يمكن حصر تدخل الدولة في المهنة فيه:
§ في وجود المراقبة القضائية على أعمال مجالس هيئات المحامين: و هذه المراقبة لا تضر من حيث المبدأ لأن القضاء مكلف بمراقبة امتثال مكونات المجتمع للقانون، و لأن المحامين و هيئات مهنتهم، جزء من المجتمع.
§ و في إشراف وزارة العدل على تنظيم امتحان الحصول على شهادة الأهلية لمزاولة مهنة المحاماة، و ضرورة صدور قرار من وزير العدل بإجراء الامتحان المذكور.
ü و دول يتقلص فيها استقلال المهنة نظرا لخضوعها فيما يخص ولوج المهنة و التأديب، لوصاية لجان إدارية مكونة بالأساس من القضاة. و تلك حال الكويت مثلا. و الفرق بين هذا النظام و سابقه، أن الأول يمنح أجهزة المهنة الصلاحية التامة في اتخاذ القرارات المتعلقة بها من حيث ولوجها أو تأديب المنتسبين إليها، مع تخويل القضاء، كسلطة تفترض فيها السيادة و مهمتها السهر على حسن تطبيق القانون، حق مراقبة مدى تقيد المؤسسات المهنية بالضوابط الجاري بها العمل. في حين أن الثاني يسلب المحامين الاستئثار بالحق المذكور، و يمنحه للجنة و إن كانت مشكلة من القضاة، إلا أن طبيعة عملها إدارية لا قضائية.
ü و دول أخرى يكاد يكون فيها مفهوم المحاماة شبه منعدم، لفقدانه أبسط مقومات المهنة، و هو الاستقلال. و تلك حال القانون البحريني الذي يخضع رجال البذلة السوداء لوصاية وزير العدل منذ تاريخ اتخاذهم قرار ممارسة المهنة، إلى أن تزول عنهم صفة محام: فوزير العدل و الشؤون الإسلامية من يتلقى طلبات القيد في الجدول العام للمحامين، و هو من يصدر قرار القيد أو الرفض بعد أخذ رأي لجنة يشكلها هو لهذا الغرض. و هو من يقرر المتابعة التأديبية في حق المحامين، ثم من يعين أربعة من بين خمسة أعضاء المشكلين لمجلس تأديب المحامين، و أخيرا فهو نفسه الذي يعين أعضاء مجلس التأديب الاستئنافي، محكمة الدرجة الثانية في تأديب المحامين.
فتكون الخلاصة، أن الاستقلال المفترض في القضاء و المحاماة لدى العرب،
لم يقو على مواجهة مجرد النصوص التشريعية النظرية التي عصفت به.
فإذا كان الأمر كذلك على المستوى النظري،
فكيف هو حال هذا الاستقلال على مستوى الممارسة و التطبيق؟
ثانيا: التجارب الواقعية لاستقلال القضاء و المحاماة
11- تكريس الواقع للأحكام النظرية: ليس منتظرا من الواقع إلا أن يكرس التوجه النظري الذي قننته النصوص التشريعية المشار إليها أعلاه، و يعكس بالتالي أزمة استقلال القضاء و المحاماة في الدول العربية. فعديدة هي المحطات التي عانى فيها رجال العدالة و رموزها في الأقطار العربية من تعسف السلطة التنفيذية. إلا أن قلة التجربة و محدودية الاطلاع، لن تسعفا مطلقا في استعراض مختلف تلك الأيام الحالكة، بل فقط بعضا من التجارب حديثة العهد، نزر يسير من التجارب المريرة التي أوضحت بجلاء أن أصحاب البذل السوداء، حماة العدالة و الساهرين على تحققها في الدول العربية عامة و في المغرب خاصة، أن هؤلاء أنفسهم في حاجة ماسة لمن يحميهم من بطش الدولة و تجاوزاتها.
12- قضاء لبنان و أحداث شباط 2005: و لتكن البداية خفيفة الوطأة، و بالضبط بما أعقب أحداث شباط 2005 في بيروت. أجمع العالم على اعتبار الانفجارات التي أودت بحياة زعيم لبنان الحديث و رمزها، كارثة سياسية و إنسانية. و توالت الاتهامات و تعاقبت التحريات بحثا عن المسؤولين، و لكن بدون جدوى. فكان الحل أن قررت هيئة الأمم المتحدة انتداب قاض أجنبي، لا لبناني و لا عربي، ليباشر التحقيقات اللازمة للوصول إلى الحقائق و إعداد التقرير المعتمد في المتابعات القضائية. و كأن لبنان عديم السيادة. و كأن قضاءه عديم الفعالية. و كأن قضاته منعدمو الثقة و الكفاءة و المصداقية. فأي استقلال هذا الذي تضمنه الدولة لقضائها، إذا كانت عاجزة عن ضمان استقلالها هي؟
13- محاكمة صدام: ثم ننتقل للمسلسل المهزلة. لمسرحية محاكمة صدام حسين. لأشهر المحاكمات العربية على الإطلاق في العصر الحديث. للمحاكمة التي تنبأ لها الكل بالشهرة نظرا لأهميتها. للمحاكمة التي كتبت لها الأقدار بعد ذلك أن تشتهر للعار الذي ألحقته بالقضاء العربي. للمحاكمة التي تغير رئيس المحكمة فيها للمرة الرابعة لحينه. للمحاكمة التي تقلب على تسييرها عدد من القضاة يتجاوز عدد رؤساء الحكومة العراقية منذ سقوط عهد المتهم الرئيسي فيها. للمحاكمة التي يقصى القضاة فيها لأن توجهاتهم، ربما، لا تتفق و توجهات السلطة التنفيذية. للمحاكمة التي طرد رجال الدفاع فيها. للمحاكمة التي اغتيل بعض ممن حملوا على عاتقهم أداء دورهم و رسالتهم فيها. للمحاكمة التي قيل عنها الكثير في وقت مضى، و التي صارت في الذاكرة قبل مماتها. للمحاكمة التي كان لكل رجل قانون عربي أن يتمنى لو تولاها القضاء الغربي، لو علم مسبقا بالمجرى الحالي للأمور.
14- أزمة محامي تونس: على مرارة ما ذكر، فيا ليته لم يتجاوز هذا الحد. و يا ليت الضرر توقف معنويا. فكأن الحكومات العربية لم تكتف بالإساءة لمبدأ استقلال العدالة، فقررت الانتقال للاعتداء الجسدي و الإجرام في حق المحامين. محامو تونس ينتفضون ضد قانون، تشريع يفترض فيه صون الحقوق و الحريات، فإذا به يسلب أفواه الحق استقلالها. محامو الزيتونة يرفضون الإذعان و الخضوع، يتظاهرون سلميا محتجين على قانون، تشريع يفترض فيه تنظيم الحياة داخل المجتمع. و السلطة المتحضرة تتقبل النقد بكل مسؤولية. كذلك يمكن تكييف رد فعل سلطات تونس عندما واجهت المظاهرات بهراوات رجال الأمن و عصي أبناء شعب يأتمرون و ينفذون، و لكنهم للأسف يجهلون أنهم ضد مصالحهم ينفذون. فأين استقلال محاميي تونس، من استقلال المواطنين الفرنسيين الذين خلق رفضهم لمشروع تعديل قانون الشغل الفرنسي أزمة في الحكومة الفرنسية؟
يتبع