الفاتحة كما يقول المفسرون على قصرها قد حوت معاني القرآن العظيم واشتملت على مقاصده الأساسية بالإجمال. فهي تتناول أصول الدين وفروعه ، وفي صحيح البخاري أن النبي _ صلى الله عليه وسلم _ قال لأبي سعيد بن المعلّى لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن، الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي اوتيته
البسملة(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) فإنني أكتفي بقول المفسرين وهي أنها أدب مع الله في أن نبدأ كلامه بذكر اسمه وأن نبدأ الأعمال بها وتعني (أنا أبدأ بذكر أسم الله)
قوله تعال(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) فكلمة (الحمد) كلمة تقال للتعبير عن الشعور بالرضى أو السرور لتمام أمر كنت ترجو تمامه أو لعدم حصول مكروه كنت تخشى حدوثه. والحمد لا يكون إلا لله بينما يكون الشكر لله ولغير الله، علامَ نحمد الله؟ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ إذاً الحمد أولاً وقبل كل شيء على أن الذي نعبده هو الله.
اما قوله سبحانه وتعالى (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) فهنا يعرّف الله على نفسه لمن يتساءل ويقول عرفنا وآمنا بأن الله هو إلهنا الذي نعبده وانه ربنا، فما هي صفاته وهل فيه من الصفات ما يلبي حاجاتنا وآمالنا؟ وهل هى كافية حتى لا يكون لغيره صفات أفضل؟
وكأن الله سبحانه وتعالى يجيب على هذا التساؤل بقوله سبحانه وتعالى (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) وما قال الله غيرها في الفاتحة وذلك تلخيصاً لكل صفاته، إذاً من البدهي أن تكون هاتان الكلمتان تشملان كل صفاته سبحانه والذي يدقق في النص القرآني يجد أن الرحمن صفة عظمة وهي صفة لذات الله بينما الرحيم صفة رحمة للرب وهي صفة فعل تدل على علاقة تفاعلية بين الرب الخالق والعبد المخلوق، ودقق أخي مرة أخرى في النص (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ* الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) فالأولى للأولى و الثانية للثانية أي أن الرحمن لله والرحيم لرب العالمين وهذا الأسلوب البلاغي موجود في القران الكريم ويسمى اللف والنشر المرتب
أما قوله (مَالِكِ يَوْمِ الدِّين) جاءت لتلخص أمراً آخر. فبعد أن يتيقن الإنسان أن الإله الذي يعبد هو الله وقد رضي به رباً و أنه الرحمن الرحيم فيطمئن الإنسان المؤمن بأنه في محل أمن ورعاية، إذ ليس أفضل من أن يكون الإنسان بين يدي مولاه وربه رب العالمين الرحمن الرحيم، ويستعرض حياته فيجدها تنتهي بالموت فيخطر بباله سؤالان الأول هل بعد الموت حياة ؟ والثاني إن كانت هناك حياة فمن المسؤول والمتصرف فيها؟ فيأتي الجواب (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) أي أن هناك يوماً يسمى يوم الدين وهذا يعني ضمناً أن هناك حياة بعد الموت، وان هذا اليوم المسمّى يوم الدين هو يوم الحساب، وهو يوم عظيم يقضي فيه الله بين العباد فاما إلى جنة وإما إلى نار،ويعني أيضاً أن المالك لهذا اليوم هو الله رب العالمين الرحمن الرحيم الذي عرفتموه في الدنيا واطمأننتم له وعبدتموه وأحببتموه ورضيتم به إلها ورباً فاطمئنوا. ويجب ملاحظة أن كلمة (مالك) هي أفضل تعبير للدلالة على أن كل ما يحدث في ذلك اليوم من أحداث عظام وتقرير مصير وما إلى ذلك إنما يحدث بأمر الله فهو الملك وهو المالك
وانظر الى ترتيب الآيات يجيء قوله تعالى (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) بعد الحديث عن الله رب العالمين الرحمن الرحيم ، فيدرك القلب المؤمن أنه محاصر وأن الأبواب كلها موصدة أمامه الا باباً واحداً مفتاحه (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)وهكذا يكون فهم المسلم المؤمن لآيات الفاتحة . أما القلب الغافل فيقرأ(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ*الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) ويقول:"الأمر لا يعنيني"، فتأتيه آية (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) تصفعه على وجهه المتكبر صفعة تستفيق لشدتها القلوب الغافلة، وتذرف العيون خوفاً وطمعاً ، ًثم لا يبقى قلب فيه ذرة من ايمان إلا ويخشع لذكر الله ، فينطلق لسانه بِـ (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) فهماً لمعانيها وادراكاً لمراميها، فالأمر جد خطير
فعبارة (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) تمثل العلاقة المتبادلة بين الله وعباده، ذات حركة متعاكسة، أي تصعد العبادة إلى الله وينزل العون من الله وتحقق الأول شرط للثاني فلا يكون الله في عون الكافر أو الظالم ولا يعين من يستكبر عن عبادته أو دعائه قال تعالى (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)
سورة غافر- أية 60
وإنك بقولك (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) تؤكد على وحدانية الله وتفرده بالعبادة، فإياك تعني أنت وحدك.
قوله سبحانه وتعالى(اهدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) جامعة لكل خير يرضى الله سبحانه وتعالى به، واختيارُ الله لها وحدها دعاءً في سورة الفاتحة لهو الدليل على أنها جامعة، وان أردت أن تتعرف على تفاصيل الأدعية فاقرأ القران وتعلم الدعاء . وكما يقول بعض علمائنا الأجلاء (إذا أردت أن تخاطب الله فصلّ، وان أردت أن يخاطبك الله فاقرأ القران).
بقي موضوع واحد هو من الأهمية بحيث يشكل سبع الفاتحة قوله سبحانه وتعالى (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ) لأنه تفسير للآية السادسة، فليس من موضوع جديد لكنه مهم جداً ، فقد يقول قائل هذه الآية مفهومة فالصراط المستقيم ليس صراط المغضوب عليهم وهم اليهود ولا صراط الضالين وهم النصارى وللرد نقول: انك تقول هذا بعد أكثر من 1400 عام على بعثة رسول الله وقرأت القران مراراً وتكراراً ولا بد أن تكون قد قرأت تفسير القران ووقفت على حقيقة الأمر ، ولكن تصور في بداية الدعوة كيف كان الناس يفكرون، وكانوا يعرفون أن اليهود أهل كتاب، وكان اليهود يستغلون الفرص ليشككوا في الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وقد يقول قائل وحتى بعض الجهلة في زماننا هذا، يقولون ما دامت التوراة والإنجيل كتباً سماويةً فلماذا لا يكون أهلها على الصراط المستقيم، ويجد من شياطين الإنس والجن من يزين له الفكرة، فيؤكد الله هنا أن الصراط المستقيم هو صراط الذين أنعمت عليهم وهم الذين أسلموا وجوههم الى الله واتبعوا الإسلام ديناً، وليس صراط اليهود والنصارى ذلك أنهم حرفوا دينهم واتبعوا أهواءَهم . ثم إن الأصل في أصحاب الكتب السماوية السابقة أن يلتحقوا بالإسلام
وبهذا تكون آيات سورة الفاتحة كلمات مختصرة مفيدة جامعة مانعة موجزه للقران العظيم تشكل الخطوط العريضة لدستورِ ومنهاجِ الأمةِ من غيرِ خوضٍ في التفاصيل فيكون الإعجاز فيها أنها سبع آيات لخصت القران الكريم كاملاً من غير نقص. إضافة إلى إعجازها بأنها جزء من القرآن الذي تحدى الله به العرب بل الإنس و الجن أن يأتوا بمثله. إذاً فهي والقرآن العظيم معجزة الرحمن على مر الزمان.
والله أعلم
تقبلوا تحياتى لكم جميعا
أبو مروان