الشرف من جهة الأم بين النفي والإثبات


الشرف من جهة الأم بين النفي والإثبات

سليمان بن الحسن القـراري

تقديم:
الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، والشكر له كما يجب لجزيل نعمائه وكثير ألطافه، الصلاة والسلام على نبيّه ورسوله، محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فإنّ الدارس لتاريخ الإفتاء الإسلامي لا يقف على نازلة - لشرف من جهة الأم» إلا بعد حلول الثلث الأول من القرن الثامن الهجري وتحديدًا عام 726ﻫ. لمَا كثر الجدل بين علماء الغرب الإسلامي حول إمكان تسمية من كانت أمُّه شريفة، وأبوه ليس كذلك شريفا وبالرجوع إلى المصادر المعتمدة التي أصَّلت للنازلة فقهيًّا نجد الفقهاء قد تفرَّقوا إلى مذهبين، مذهب أنكر أصحابه الشرف من قِبَل الأم، وتمثل في فقهاء تونس ومن وافقهم، ومذهب أثبت أصحابه ذلك وتمثل في فقهاء بجاية وتلمسان ومراكش ومن وافقهم. ولما كان المذهب المالكيُّ المذهبَ السائد وقتها فإن أكثر هؤلاء الفقهاء بحثوا النازلة على ضوء ما خلَّفه الإمام مالك ـ دون غيره من أئمة المذاهب ـ من مدونات فقهية يمكن القياس عليها، ومنهم من سكت عن الإفتاء في النازلة لمجرد أن الإمام مالكًا لم يتكلم فيها، ومنهم من فرغ الجهد والوسع في معالجة النازلة دون الابتعاد عن مذهب الإمام مالك. وفي هذا المقال سأحاول ـ بعون الله تعالى ـ كشف النقاب عن بعض الآراء الفقهية المتعلقة بالنازلة والمحفوظة عن فقهاء القرن الثامن الهجري المشهود لهم بالصدارة العلمية بالغرب الإسلامي، وذلك بتتبع أقوال النفاة ثم المثبتين دون الإكثار من ذكر الأدلة التي استند إليها كل فريق إلا قليلا مما تتطلبه الدراسة.

أولا: نفاة الشرف من جهة الأم:
سلك أكثر فقهاء الغرب الإسلامي في العهد المريني مسلك الاتباع المذهبي، لذا فإن نازلة الشرف من جهة الأم أكثرُ فقهاء تونس ـ ومن وافقهم ـ تناولوها على أنها مسألة مفرغ منها، وأن الإمام مالكًا سكت عنها لوضوح حكمها الملحق بالإجماع على ثبوت النسب وحصوله من جهة الأب دون الأم، وباب الشرف والنسب سِيَّان في ذلك. وممن ذهب إلى هذا الرأي ابن عبد السلام المنستيري (المتوفى750ﻫ.) الذي ثبت عنه تخطئة من أثبت الشرف للولد من جهة أمه، متمسكا بالإجماع على أن نسب الولد إنما هو لأبيه دون أمه، وهو ما عوَّل عليه تلميذه ابن عرفة (المتوفى803ﻫ.) حين قال: - شاع في أول هذا القرن ـ القرن الثامن الهجري ـ على ما بلغني الخلاف فيمن أمه شريفة وأبوه ليس كذلك هل هو شريف أم لا... قال بعض من لقيت من الفاسِيين يلزم عليه لو تزوج يهودي أو نصراني بعد عتقه وإسلامه شريفة أن يكون ولده منها شريفا، وهذا لا يقوله منصف أو مسلم.» وهذا الذي ذهب إليه الإمامان ابنُ عرفة، وشيخه ابن عبد السلام فصّل القولَ فيه ـ من قبلهما ـ شيخُهما أبو إسحاق ابن عبد الرفيع (المتوفى733ﻫ.) حين قال: سألني سائل عن مسألة كتب بها إليه رجل قال: إن أم أبيه شريفة وهو مع ذلك يُنسب إلى الشرف، فأجبته عن ذلك أنه لا يصح الانتساب إلى الشرف بهذا القدر..» ذلك أن الشرف ـ حسب رأيه ـ لا يثبت من جهة الأم بدليل قوله تعالى:"أدْعُوهُم لآبَائِهِمْ هُوَ أٌقْسَطُ عِنْدَ اللهِ." [الأحزاب الآية 5] وقوله:"يُوصيكُمُ اللهُ في أَوْلادِكُمْ للذّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْـثَيَيْنِ." [النساء الآية 11] للإجماع المنعقد على أن أولاد البنات لا يدخلون تحت هذا اللفظ. وأجابه الفقيه أبو علي البجائي ـ وهو من مثبتي الشرف من جهة الأم ـ بأن الآية "أدْعوهُم لآبَائِهِمْ" لا تدل على ذلك، بل إن كان المراد بها نادوهم لآبائهم فإن لآية حينئذ دالة على أن النداء بالأب مطلوب، ولا يلزم منه أن يكون الشرف من جهة الأم أو الجدة غير ثابت، لاحتمال جواز ثبوته مع ثبوت النداء بالأب لكونه من آداب الشريعة... أما إن كان المراد لقوله تعالى "أدْعوهُم" انسبوهم فإنه أيضا لا يلزم من ثبوت النسبة للأب أن لا يكون منسوبا للأم، وإنما يلزم ذلك أن لو كانت النسبة للأب تنافي النسبة للأم.» وفي اعتقادي أن ما قاله أبو إسحاق بعيد عن المراد، لأن الآية :"أدْعوهُم لآبَائِهِمْ هُوَ أٌقْسَطُ عِنْدَ اللهِ" جاءت ناسخة لحكم التبني بإجماع المفسرين، ومع ذلك لا تخرج نسبةُ الولد إلى أمه من عموم الحكم الناسخ بدليل قوله عليه الصلاة والسلام في عبد الله بن مسعود:"رَضيتُ لأُمَّتي مَا رَضيَ لها ابنُ أمِّ عَبْدٍ" وقوله في عبد الله بن قيس "فَكُلوا واشْرَبُوا حَتىّ يُنَادي ابنُ أمّ مَكْتوم" فلا تكون ـ بهذين الدليلين ـ نسبة الولد إلى أمه حرامًا ولا مكروهًا، قال في ذلك الضرير المراكشي (المتوفى807ﻫ.): إن أريد به نادوهم فلا يلزم منه نفي الحكم بالشرف لمن متَّ إليه عليه السلام بأم، وإن أريد به أنسبوهم وهو الصحيح لتعديته باللام دون الباء، فإن اقتضى الإيجاب كانت نسبة الإنسان إلى أمه حرامًا، والنبي عليه السلام معصوم من ارتكابه... وإن اقتضى الندب كانت مكروها، والنبي صلى الله عليه وسلم منزه عن ارتكابه، فتبين بهذا أن قصد الآية نسخ حكم التبني لا ما ظنه الشيخ أبو إسحاق رضي الله عنه من دلالتها على أن ولد الشريفة ليس بشريف.» أما استدلال الشيخ أبي إسحاق على نفي الشرف من جهة الأم بقوله تعالى: " يُوصيكُمُ اللهُ في أَوْلادِكُمْ للذّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ" [النساء الآية11] فلا يستقيم إن أبقيناه على عمومه، بدليل أن السِّبطيْن الحسن والحسين عليهما السلام إنما ثبت شرفهما من جهة أمهما فاطمة الزهراء. ثم إن الآية جاءت في سياق الحديث عن الميراث، والإجماع المنعقد على أن ولد البنت لا يدخل تحت اللفظ يخص الميراث لا الشرف. ولم يكتف الشيخ أبو إسحاق بذلك بل عزَّز مذهبه القاضي بإنكار الشرف من قِبَلِ الأم بمباحث لغوية لها علاقة بمسائل الوقف والوصية المتعلقين بأولاد البنات كي يقيس النازلة عليها فقال: وقد علم أن ولد البنت ليس من الذرية ولا من العصبة... وقد روى ابن القاسم عن مالك أن ولد البنت ليس من أهل الرجل، وقال ابن القاسم في موضع آخر: ولد بنت الرجل ليس من قرابته.» ومعنى كلام أبي إسحاق أن الرجل إذا ما حبَّس ماله على أولاده أو ذريته أو عصبته أو قرابته فإن أولاد البنات لا يدخلون في الوقف تحت هذه الألفاظ على مذهب الإمام مالك، وبالتالي لا يُثبت لهم الشرف المتنازع فيه قياسا على ذلك، وفي هذا مبالغة، فالمحفوظ عن الإمام مالك وعن جميع أصحابه المتقدمين والمتأخرين أنه إذا قال المُحبِّس: وَقَفْتُ على أولادي، ويُسميهم بأسمائهم ذكورهم وإناثهم وعلى أولادهم، فإن ولد البنات يدخلون في ذلك. كما أن الظاهر من مذهب مالك أن ولد البنت يدخل في صيغة: وقفت على أولادي ذكورهم وإناثهم ولم يُسمهم وعلى أعقابهم، على ما رواه غير واحد من السادة المالكية. ومع ذلك فإن صيغ الوقف وعباراته مبنية على العرف، فلا يمكن بحال الاستناد إليها في إثبات أو نفي الشرف من جهة الأم، يقول في ذلك الضرير المراكشي وليست هذه المسائل ـ عبارات الوقف ـ مما نحن فيه في شيء، وإنما الفتوى فيها مبنية على عرف كلام الناس، ومن الدليل على ذلك قول مالك رضي الله عنه في وَقَفْت على ولدي وولد ولدي: ولدُ البنات في هذه المسألة ليسوا بعقب، مقتضاه أنهم عقب في غيرها كالشرف من الأم، وإلا كان تقييده رضي الله عنه لغوًا، وذلك غير لائق به.»

ثانيا: مثبتو الشرف من قبل الأم:
ممن ذهب إلى ثبوت الشرف من جهة الأم فقهاء بجاية وتلمسان، وكذا فقهاء مراكش قاطبة، وهم من السادة المالكية الذين أكدوا على أن نازلة الشرف من جهة الأم لم يحفظ فيها عن الإمام مالك شيء، فدرسوا النازلة على ضوء الاجتهاد المخول به في الشريعة السمحاء، وذلك عن طريق إلحاقها بمباحث النسب والوقف والوصية التي حُفظ عن الإمام مالك فيها الكثير، وهذا ما ذهب إليه الضرير المراكشي في كتابه سماع الصُّم في إثبات الشرف من قِبَلِ الأم» الذي أملاه بذي القعدة عام801ﻫ، حيث عقد فيه مقدمة تحدث فيها عن مباحث الوقف والوصية المتعلقة بولد البنت على ضوء ما صحَّ عن الإمام مالك بقصد إلحاق حكم الشرف من جهة الأم بها. فلم يَركن الضرير المراكشي إلى التقليد لمجرد أن الإمام مالك لم يُبد رأيًا في نازلة كهذه، بل كغيره من فقهاء بجاية وتلمسان عمد إلى تفعيل ملكة الاجتهاد لمعالجة النازلة، باعتبارها نازلة تلحق بغيرها من المباحث الفقهية التي تشترك معها في معان وعلل من شأنها ترتيب الحكم ذاته عليها. إلا أن منطق الجمود الذي خيَّم على ذهنية النفاة وقتها لم يكن من السهل زعزعة رواسبه من أذهانهم إلا بنص صريح عن الإمام مالك، أو عن غيره من أئمة المذاهب من شأنه إثبات الشرف من جهة الأم، وإلا فإن إثبات النازلة ـ حسب منظورهم ـ أمر مغلوط خارج عن الشرع، حينها بادر الضرير المراكشي إلى تأكيد مذهبه القاضي بإثبات الشرف من جهة الأم عن طريق رواية الإمام الشافعي في الروضة جاء فيها: لشرف من قبل الأم ثابت.» وإن صحَّت هذه الرواية فإن الإمام الشافعي بذلك يعتبر أول من أفتى في النازلة من علماء الملة، بدليل أنه لم يصلنا شيء مدون قبلا، وحتى الإمام مالك ـ وهو الإمام الذي وعى علوم الأوائل ـ لم يحفظ عنه فيها شيء. والمثير في هذه الرواية ـ التي تناقلها فقهاء الإثبات خصوصا المراكشِيين ـ أنها جاءت كردة فعل طبيعية إزاء منطق التقليد والجمود اللذين سادا البلاد خلال القرن الثامن الهجري وما بعده، فجاءت بحق نصا شافيا لغليل المثبتين وجوابا مُفحِما لشبه المُنكِرين. ورغم أن الإمام الشافعي كغيره من الأئمة يُؤخذ كلامه بدليل ويُرد بانعدامه، لم ينقل الضرير المراكشي عنه دليلا اعتمده فيما قال، وكأن النفاة للشرف من جهة الأم لم يكن ليردهم غيرُ كلام الأئمة وإن جاء مجردًا من الأدلة.
ومن أوائل العلماء الذين قالوا بإثبات الشرف من جهة الأم ـ قبل انقضاء القرن السابع الهجري ـ ابن الغماز (المتوفى673ﻫ) فقيه بلنسية و بجاية وقاضيهما على مذهب الإمام مالك، حيث نقل عنه أنه كان يقول: ;ولد الشريفة شريفا..» ويأتي من بعده ابن دقيق العيد (المتوفى702ﻫ.) من فقهاء الإثبات الذي عالج النازلة استنادا إلى المذهب المالكي رغم شافعيتة. ومع مطلع القرن الثامن الهجري ظهر على الساحة العلمية ثلة من الفقهاء ذهبوا ـ كأسلافهم ـ إلى إثبات الشرف من جهة الأم أمثال ناصر الدين المشذالي (المتوفى731ﻫ.) رئيس البجائيين، ومن أوائل فقهاء بجاية الذين أثبتوا الشرف من جهة الأم ردًا على فقهاء تونس على رأسهم أبي إسحاق ابن عبد الرفيع الذي ـ كما رأينا ـ كتب مقالا ذكر فيه بعض الوجوه الدالة ـ حسب زعمه ـ على نفي حصول الشرف من جهة الأم. ولقد اعتبر الشريف أبو عبد الله (المتوفى771ﻫ.) الفقيهين أبي إسحاق وناصر الدين من أوائل الفقهاء المتكلمين في النازلة حينما قال: لا أعلم في المسألة ـ نازلة الشرف من جهة الأم ـ نصًّا للمتقدمين من أصحابنا المالكية ولا المتأخرين، إلا ما وقفت عليه للتونسيين، كأبي إسحاق ابن عبد الرفيع، وهو يذهب إلى أن الشرف لا يثبت من جهة الأم، ورئيس البجائيين أبو علي ناصر الدين المشذالي ذهب إلى ثبوته.» والذي نعرفه أن قبل الفقيهَيْن وُجد من الفقهاء من تكلم في النازلة، لذا يُحمل كلام الشريف أبي عبد الله على أن أبا إسحاق وناصر الدين يعتبران أول من أفتيا في النازلة كتابة، فالأول كتب في النازلة مقالة أبدى فيها رأيه معززًا بأدلة مشيرة إلى عدم حصول الشرف لولد الشريفة، فكان مكتوبه بمثابة حكما نهائيا عليه عوَّل أكثرُ فقهاء تونس، أما الثاني فقد أملى رأيًا مخالفًا لأبي إسحاق أجاز كتابته ليكون حكمًا نهائيا عوَّل عليه أكثرُ فقهاء بجاية. ومن أشهر تلامذة ناصر الدين المشذالي الذين دوَّنوا فتواه تلك أبو علي البجائي الذي قال: واستدعى منه الجواب ـ ناصر الدين المشذالي ـ فأجاب بعدم صحته ـ نفي الشرف من قبل الأم ـ وأمرني لأجل اشتغاله بما هو أهم من ذلك من أمور المسلمين أن أقيِّد ما حضرني من الكلام في إبطال ما أفتى به ابن عبد الرفيع في المسألة، فرأيت أمره حتما وإشارته غنما، فقلت ببطلان ما أفتى به، وتزييف ما استدل به..» ومن فقهاء تلمسان جاء فقيهان كانت لهما الصدارة في إثبات النازلة والحكم بشرف ولد الشريفة، الأول هو أبو عبد الله الشريف (المتوفى771ﻫ) الذي قال: ;والشرف حاصل من وجوه ثلاثة: الرحم والنسب والصهر لولد بنت الرجل، وإن تفاوتت مراتبها.» والثاني تلميذه ابن مرزوق الحفيد (المتوفى842ﻫ) الذي ألَّف في النازلة كتابًا موسوم بـ"إسماع الصُّم في إثبات الشرف من قِبَلِ الأم" أملاه سنة 818ﻫ أوله: "الحمد لله سيدي أدام الله سعادتكم وبلغكم في الدارين إرادتكم، جوابكم -أبقاكم الله وسددكم- في مسألة رجل أثبت أن أمَّه التي ولدته شريفة النسب، فهل يثبت لهذا الرجل شرف النسب من جهة الأم، ويحترم بحرمة الشرفاء، ويندرج في سلكهم أم لا، بيِّنوا لنا ذلك والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وإن ثبت له ذلك فهل يثبت لذريته كما ثبت له جوابكم شافيا. فأجاب بما نصه الحمد لله وحده، يثبت للمذكور شرف النسب من جهة الأم، ويحترم بحرمة الشرفاء، ويندرج في سلكهم، ويثبت ذلك له ولذريته، هذا هو الذي أختاره...» ولقد نهج ابن مرزوق في كتابه هذا منهجا بناه على مقدمة وعشرة فصول، كل فصل يستند إلى أصل فقهي متين، خصوصا لما ألحق النازلة بمباحث الوقف والوصية كي يستدل على ثبوت الشرف من جهة الأم، فأبان عن لياقة في الاحتجاج قلّ نظيرها، إضافة إلى جملة من الأحاديث التي اعتمدها لدلالتها على ثبوت الشرف من جهة الأم.
ومن فقهاء مراكش نقف عند الضرير المراكشي (المتوفى807ﻫ) الذي يُعد أول من ألَّف في النازلة كتابا مرتبا موسوما بـ"إسماع الصُّم في إثبات الشرف من قِبِل الأم" أملاه ـ قبل تأليف ابن مرزوق الحفيد ـ عام 801ﻫ. بدأه بمقدمة وضَّح فيها بأن نازلة الشرف من قبل الأم وإن لم يحفظ في شأنها عن الإمام مالك شيء، فقد حفظ عنه ما يكمن القياس عليه من مباحث فقهية أهمها النسب والوصية والوقف، ثم جاء بعدها بفصول مبوبة كل باب فصَّل فيه القول على أصل متفق عليه، فجاء الباب الأول في الاستدلال من القرآن على إثبات الشرف من قِبَل الأم، والثاني في الاستدلال من السنة على ذلك، والثالث في الاستدلال من الإجماع على ذلك، والرابع في الاستدلال من النظر على ذلك، والخامس فيما يحتج به نفاة الشرف من قِبَل الأم والجواب عنه. والناظر إلى كتابه يلحظ الجانب الأصولي طاغيا على دراسة النازلة ـ على غرار منهج ابن مرزوق في كتابه ـ وذلك راجع إلى براعة الضرير، وتمكنه من أصول الفقه، فهو الأصولي المنطقي الذي يغلب على منهجه التأصيل والتعليل، ففي الباب الأول عالج النازلة انطلاقا من استدلاله بأصل متفق عليه وهو القرآن؛ حتى يؤكد للنفاة جلل المسألة، وطريقته في ذلك قامت على رد الخطاب إلى أصله اللغوي عند انشغال المفسرين بالاختلاف في المعاني، كدخول عيسى ابن مريم في ذرية إبراهيم عليهما السلام استنادًا إلى اللسان العربي الذي يفيد بأن ولد البنت من الذرية، وبالتالي فإن ولد الشريفة يكون شريفا لأنه من الذرية، نفس الأمر وظفه الضرير بالنسبة للآيات التي تصرح بولادة وقرابة عيسى من إبراهيم عليهما السلام، بدليل أن ولد البنت في اللسان تصدق عليه هذه الألفاظ بإجماع اللغويين، مما يعني أن ولد المرأة الشريفة تكون له ولادة وقرابة من جدِّه الشريف لأمه، فيكون كذلك شريفا بحكم هذه الولادة والقرابة. بجانب ذلك فإنَّ الضرير استعان على إثبات النازلة بالأصل الحديثي الصحيح إلا قليلا من الروايات الضعيفة المعززة بالشواهد والتوابع. واللافت للنظر في مؤلَّف الضرير قدرته على ربط أحكام الأحاديث بأسباب ورودها وجريانها كلما تجددت هذه الأسباب، على أن النص الحديثي كالنص القرآني هو خطاب مشترك بين قائله المكلِّف ومتلقيه المكلَّف، وبالتالي فإنَّ ضرورة رد النص الحديثي إلى سبب وروده ـ على أنه نص لم يأت من فراغ ـ مسألة مهمة لتعدي أحكامه وجريانه على الأسباب المتشابهة. كما راح الضرير مقتفيًا طريقة المجتهدين في استنطاق منطوق الحديث مبينًا مفهومه كي يبرهن على ثبوت الشرف من جهة الأم، ومستدلاً على طرحه بالأصلين اللغوي والعرفي ـ الذي سيق عليهما النص الحديثي ـ أيّما استدلال.
أما الأصل الثالث وهو الإجماع فإنّ الضرير ـ كعادة الأصولي ـ استدل به بعد الأصلين القرآن والسنة، فاعتمد على إجماع علماء الملة قاطبة على شرف الحَسَنيْن لشرف أمهما بولادة رسول الله صلى الله عليه وسلم ;فوجب أن يطرد انعقاده في كل من للنبيِّ عليه السلام عليه ولادة من قبل أب أو أم..» كما أن الإجماع انعقد على تحريم نكاح المتصلة بالنبيِّ عليه السلام من جهة الأم عليه وإن سفلوا، مما يعني أنها بعضه، فلا يعقل أن يكون بعضُ النبي عليه السلام غير شريف، ومن زعم ذلك فقد تنقصه. أما الأصل الأخير الذي استند إليه الضرير في إثبات الشرف من قِبَل الأم هو النظر أو القياس، ونظرًا لبراعته في تعليل الأحكام فإنه نقَّب عن علة الشرف وسبر أغوارها فوجدها المتات إلى النبي عليه السلام من جهة أب أو أم، فقال: ;القياس حمل فرع مختلف فيه على أصل متفق عليه، والحكم المتنازع فيه ثبوت شرف من متَّ بأم إليه عليه السلام، والأصل ثبوت شرف من متَّ بأبيه، والعلة الجامعة المتات...» مما يعني أن نازلة الشرف من جهة الأم تُقاس ـ باعتبارها فرعًا ـ على أصل ثبوت الشرف من جهة الأب، وذلك لوحدة الوصف الجامع بين الأصل والفرع الذي هو المتات إلى النبي عليه السلام، فيكون إلحاق حكم الأصل بالفرع قياسًا شرعيًّا، ومن جعل علة الشرف الميراث فإنه في نظر الضرير بعيد عن فقه الاجتهاد، لأن تعليق الشرف على الميراث تعليق على علة فاسدة الوضع، بدليل أن أولاد فاطمة الزهراء ثبت لهم الشرف من قبل أمهم، ولا ميراث لهم من هذه الجهة، مما دفع بالضرير إلى وضع عشرة وجوه استنبطها من صحيح السنة النبوية دالة على نظرية التعليل بالمتات في مسألة الشرف دون الميراث.
وأخيرًا يمكن القول بأن الشرف من جهة الأم ثابت بثبوته من جهة الأب، لأن نسب النبي عليه الصلاة والسلام وسببه موصول إلى يوم القيامة، وأقوى حجة يمكن الاستدلال بها على خلاف هذا رواية نقلها الأمام ابن عرفة عن فقهاء فاس بالمغرب، مفادها أن الشرف من جهة الأم يلزم عليه أنه لو تزوج يهودي أو نصراني بعد إسلامه شريفة أن يكون ولده منها شريفا، وهذا جاري التحقق، وقد ألفناه في زمننا هذا، لذا تعتبر النازلة حاليًّا أمرًا مهمًا ـ وهي من مسؤولية العلماء من مختلف البقاع ـ لما نراه من لجوء أكثر النساء الشريفات إلى الدول الغربية عبر زواجهن من أجانب مسلمين، أفيكون أولادهن شرفاء لشرفهن؟ أم ينقطع الشرف بخلو النسب العربي من آبائهم ؟ أم أن الشرف غير موصول من جهة النساء أصلاً ؟ والله الهادي إلى الصواب.