gem
12-11-2009, 05:19 PM
قصرهلال , محمد بن عمر بوزويتة رائد النضال الوطني قصرهلال
http://img691.imageshack.us/img691/3259/image12mi.jpg (http://www.tunisia-cafe.com)
المناضل القدير محمد بن عمر بوزويتة رائد النضال الوطني بقصرهلال والوطن بقلم الحبيب ابراهم
إهداء إلى روح المرحوم المناضل الشريف الهلالي محمد بوزويتة الذي الذي ناضل من اجل استقلال تونس .
كنت أود أن يخرج هذا العمل – على تواضعه - إلى الوجود يوم 20 مارس 2006 بمناسبة الذكرى الخمسين لاستقلال البلاد التونسية الذي لم يكتب لمحمد بوزويته أن يرى فجره.
وعلى كل حال فإن نية الانجاز نشأت بالمناسبة نفسها "وإنما الأعمال بالنيات". طرحت الفكرة على السيد كمال بن الهادي الشرفي الكاتب العام للتجمع الدستوري الديمقراطي بقصر هلال يوم الأحد 5 مارس 2006 فقبلها بدون تردد وأضاف: افعل
وها أنا أفعل
فإليه أهدي هذا العمل ومن خلاله إلى روح رجل لولاه ما أشرق هلال قصر هلال ولولاه لكان للتاريخ منعرج آخر.
ومن الجحود أن يفوتني التنويه بما ساهم به صابر البنبلي في مستوى البحث والاتصال والتصوير.
الحبيب ابراهم
تبرير
جاء في قاموس "لسان العرب" لابن منظور أن الرائد هو الطالب ومن هذا المعنى جاءت الإرادة. وقد قصدنا هذا المعنى لأننا رأينا في مسيرة محمد بوزويته إرادة ما انفكت تطلب النهضة.
وجاء في القاموس الألفبائي التونسي أن الرائد هو الرسول الذي يرسله القوم ليختار لهم مكانا ينزلون فيه. وقد قصدنا هذا المعنى إذ رأينا في محمد بوزويته رسولا حدد لقصر هلال وأهلها حقلا من قطوفه العلم والحرية.
وجاء في المنجد الأبجدي أن رائد الضحى هو وقت ارتفاع الشمس وانبساط الضوء. وقد قصدنا هذا المعنى إذ رأينا في محمد بوزويته رائد الضحى في قصر هلال بعد أن كانت تعيش في ظل الزوايا.
وجاء في القاموس المحيط أن رائد الرحى هو يدها وأن رائد البكرة هو محورها وقد رأينا في محمد بوزويته اليد التي حركت قصر هلال في اتجاه النهضة وأنه جعل بكرة الحياة فيها تدور. لذلك كله جعلنا لكتابنا هذا العنوان : محمد بوزويته رائد النهضة بقصر هلال
توطئة
حالما أمسكت بالقلم لأشرع في الكتابة عن محمد بوزويته اعترضتني العقبة الكأداء الأولى: كيف أكتب؟
وهو سؤال لا يعترض من رام الحديث عن شاعر أو مؤرخ أو سياسي لأن الشخص المدروس يصطبغ إنتاجه بصبغة واحدة. كذلك الحديث عن لوحة ذات لون واحد. وكيف الحديث عن لوحة تعددت ألوانها وتشابكت خطوطها وتداخلت لمساتها حتى أصبح التعرض إلى بعضها تعسفا على بعضها الآخر ؟
كيف يمكن الحديث عن رجل تناولت تدخلاته كل مجالات الحياة أو أغلبها. ثم كيف يمكن تبويب تلك المجالات إذا كانت بطبيعتها متداخلة كالإصلاح الاجتماعي والنشاط السياسي مثلا ؟
فكرت في انتهاج طريقة التسلسل الزمني – الكرونولوجي حسب تعبير بعضهم – فوجدتني أتحدث عن "الديك طورا وعن الحمار طورا آخر" ثم قررت أن أمزج بين التبويب من جهة والترتيب الزمني من جهة ثانية ولو أدى ذلك إلى تذكير قد يرى فيه القارئ ضربا من التكرار.
محمد بوزويته نعتته جريدة "الإرادة" بأنه أب الحركة الوطنية بقصر هلال وقالت ذلك لأنها لم تكن تعرف دوره في مقاومة البدع ومكافحة الممارسات التي يفرضها رجال الطرق الصوفية على الناس في أفراحهم وأتراحهم ولا دوره في نشر التعليم أو حتى في العمل النقابي.
وكيف يمكن التعليق على لوحة ضمت كل هذه الألوان ؟
ولقد وجدنا الإجابة بتقارير السلطة الفرنسية وأعوانها: فهي قد تذمرت منها جميعا. لقد توحدت لديها كل الألوان فأصبح محمد بوزويته رمزا لها جميعا. تحسرت حين تأسست المدرسة القرآنية وساندت رجال الزوايا الذين استظلوا بظلها وتباكت على هوان أعوانها ثم صبت عليه جام غضبها حين راح يمس الأداءات ويطالب بالسيادة بشكل كان يشبه العصيان المدني. لذلك كله دعوت محمد بوزويته برائد النهضة بقصر هلال وسوف يرى القارئ أنه قد تجاوز حدودها.
من هو محمد بوزويته ؟
هو محمد بن عمر بن محمد بن الحاج أحمد بن علي بن حسن بوزويته ينتمي إلى شجرة آل بوزويته وهي إحدى أكبر الأشجار العائلية بقصر هلال وقد سميت باسمها إحدى المشيخات الأربع التي أحدثت بقصر هلال في القرن الثامن عشر باسم "مشيخة الزويتات" وبقيت تحمل ذلك الاسم حتى سنة 1900 حين أصبح تقسيم المشيخات تقسيما جغرافيا .. وقد تفرعت عن تلك الشجرة الأم عائلات : قرن وحسن والشنباح وزهرة.
كان جده محمد بن الحاج أحمد بوزويته ضابطا بجيش الباي (يوزباشي) وقد وقع تغريمه بمائة مطر من الزيت (حوالي 250 ديقة) سنة 1864 عقب ثورة علي بن غذاهم من طرف أحمد زروق.
لا نعرف عن أبيه –عمر- شيئا، فقد أنشئت دفاتر الحالة المدنية سنة 1909 بقانون صادر في 28 ديسمبر 1908 ولم نعثر فيها على أثر لوفاة عمر بوزويته الأب أو أمه خليفة بنت محمد برغل (بطيخ). فقد توفيا قبل ذلك التاريخ. وقد يفسر ذلك عدم دخوله المدرسة رغم أنه ينتمي إلى أسرة جل ذكورها متعلمون. فقد أضطر إلى خوض معترك الحياة مبكرا.
ويمثل تاريخ ولادته – هو الآخر- إشكالا، فالتاريخ المعتمد إلى حد اليوم هو 1884 استنادا إلى تصريح ابنه عمر عند تسجيل وفاته بدفتر الحالة المدنية سنة 1944 إذ صرح بأن عمره 60 عاما. وقد لاحظنا أن ذلك يختلف عما صرح به محمد بوزويته نفسه في مناسبتين أولاهما يوم 22 فيفري 1933 حين صرح بأن عمره 53 عاما وثانيتهما يوم 29 أفريل 1937 حين قال أمام عدلين بأن عمره 57 عاما وهما تصريحان يثبتان أن سنة الولادة كانت 1880 وهو التاريخ الذي نرجحه رغم أن وثيقة أخرى مؤرخة في 17 نوفمبر 1935 تفيد بأن عمره آنذاك 57 عاما.
لم يكتب لمحمد بوزويته أن يدخل المدرسة خاصة وأن أول مدرسة أنشئت بقصر هلال فتحت أبوابها سنة 1909 أي بعد أن بلغ من العمر 29 عاما. ولم يدخل حتى إحدى الكتاتيب. لكن هذه الحقيقة لها أهمية خاصة إذ هي تلقي على سعيه لاحقا لتأسيس المدرسة القرآنية ضوءا لم نكن نراه لو كان متعلما. فالرجل كان متشوقا إلى التعلم كما سنرى بل أنه راح يتعلم القراءة والكتابة بطريقة عصامية. وهذا ما لا يعرفه عنه الكثيرون. وإذا كنا اكتشفنا تحريره من خلال رسالة حررها سنة 1935 سوف نقرأ نصها لاحقا فقد اطلعنا كذلك على خطه من خلال وثيقة سوف نطلع عليها القارئ الكريم.
متى تعلم القراءة والكتابة ؟
لا ندري، فالرجل كان كتوما .. لكننا نعرف أنه كان -حسب التقارير الأمنية- يجتمع بمعلمي المدرسة القرآنية منذ افتتاحها سنة 1929. فهو إذن تعلم القراءة والكتابة بين سنتي 1929 و 1934.
لكن مراسلات الشعبة التي كان يرأسها والتي كانت تستوجب مقدرة أكبر كان يحررها أحمد بن محمد ساسي الذي لم يكن عضوا بهيئتها والذي كان يعمل تاجرا في المواد الغذائية ثم متوظفا بشركة السكك الحديدية. وقد أعطى لنفسه مرة صفة "مقرر الشعبة" واستمر في القيام بتلك المهمة إلى يوم 20 أوت 1933 حين وقعت رسالته إلى محي الدين القليبي بيد السلطة. ويبدو أنه تلقى تهديدا توقف بعده عن تلك المهمة.
واجهة الدكان الذي بدأ فيه بوزويته حياته نساجا (بنهج محمد بوزويته حاليا)
البيئة الاقتصادية والاجتماعية
لقد شهدت قصر هلال في نهاية القرن التاسع عشر تحولا كاملا في النشاط الاقتصادي لسكانها إذ كان لثورة علي بن غذاهم سنة 1864 التي ساهمت فيها مساهمة كبيرة وما تبعها من اضطهاد أتى على الأخضر واليابس -وقد رأينا ما حل بجد محمد بوزويته – دور في تحويل نشاطها من الفلاحة إلى الحياكة اعتمادا على مواد محلية أول الأمر ثم المواد المستوردة بعد ذلك كانت الحياكة حرفة تكميلية تمارسها النسوة بالمنازل فتحولت إلى حرفة أساسية تمارسها الأسرة بكافة أفرادها.
حدث ذلك في غضون أربعين عاما
وبدأ الحديث عن قصر هلال باعتبارها مركزا هاما للحياكة سنة 1905 حتى إذا جاءت سنة 1909 تحدثت التقارير عنها باعتبارها مركزا "هاما جدا" مما دعا إلى تعليم النسج بالمدرسة الفرنكوعربية سنة 1911.
ولاشك أن لذلك التحول أهمية بالغة : فحياة الفلاح مغايرة تماما لحياة "الحوكي". ذلك يعيش بين الأرض والسماء علاقته بهما حيوية في الرخاء والشدة وهذا يعيش بين الناس.
قيل أن الدارس الذي يغفل أن أنكلترا جزيرة لا سبيل إلى أن يفهم كيف يفكر الأنكليز. وقيل إن دارس القطر المصري يجب أن لا ينسى نهر النيل وكذلك نقول إن من تحدث عن قصر هلال يجب أن يضع الحياكة نصب عينيه. ونقول الحياكة ولا النسج أي الصناعة التقليدية. منها كانت بداية قصر هلال في العصر الحديث وبانقراضها اليوم تتعرض ملامح قصر هلال إلى الانقراض.
فقد سيطرت الحياكة على حياة الهلاليين سيطرة مطلقة منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى عاش منها وعاش بها وعاش لها تسعة أعشار السكان صبغت اقتصادهم ونشاطهم واهتمامهم وحتى لغتهم حتى نعت بعضهم قصر هلال بأنها "بلاد الخبابل" (الخبالة : كبة مشوشة من الخيط).
ومن خصائص الحياكة أنها حرفة مركبة تركيبا عضويا يجعل من عناصرها وحدة لا سبيل إلى تجزئتها بل أن انفصالها يجر موت كل عناصرها :
يشتري الحائك الخيوط المغزولة ومواد الصباغة من البائع الذي يجلبها من العاصمة بوسائله الخاصة.
يقوم الصباغ أو الزوجة بصبغها
تقوم النسوة بتنشيتها بالمنازل
يكون "التقنيط" و"التدوير" أي اللف على القصب (قنانط وجعاب) من طرف النسوة بالمنازل أو الصبية المترشحين للمهنة (صانع تدوير)
تحال كمية السدى (القيام) على المختص بالتسدية (سداي)
تحال المطواة المعمرة على المناولة لتثبيت المشط (الشفرة) والنير
تنصب المطواة الجاهزة في موضعها من طرف صاحب المحل أو معاونه
يقوم الحائك بعمله
يكون البيع يوميا في أغلب الأحيان بسوق البلدة أو يتلقاه وسطاء يبيعون المنسوجات بالعاصمة أو الدخلة (الوطن القبلي) أو الجنوب أو حتى بالجزائر وليبيا.
فالخلالة الواحدة (أو التخليلة أو الملية) تمر من ثمانية إلى عشرة أشخاص. إنها سلسلة متماسكة إذا فسدت إحدى حلقاتها فسدت كلها واختل توازن القرية بأكملها:
فحين اضطرب التزويد بالخيط أو ارتفع ثمنه أثناء الحربين وبعدهما اهتزت البلاد بأسرها
وحين طرد تسعة من الباعة الهلاليين من الجنوب بسبب نشاطهم السياسي ثارت القرية بأكملها
وحين رفع أمين المعاش في معلوم الأداء بسوق الخلالة كتبت العرائض حتى أقيل من مهامه.
فإذا قال أحمد بكير محمود إن قصر هلال رضعت من ضرعين: الحياكة والسياسة قلنا إن السياسة – بقصر هلال على الأقل- بنت الحياكة. لذلك "تسيست" أكثر من جيرانها الذين لهم شواغل مهنية أخرى كالفلاحة والملاحة وإذا انتقلت "العدوى السياسية" إلى القرى المجاورة فبحكم اشتغال بعض سكانها بالحياكة دائما.
وقد لاحظ تقرير أمني مؤرخ في 13 سبتمبر 1949 أن "الشعب الدستورية الجديدة يقع انتدابها من بين أوساط النساجين بقصر هلال وبوحجر" وإذا كتب أحمد بكير محمود متحدثا عن قيادة محمد بوزويته للحركة الوطنية بقصر هلال: "صار الجميع هيكلا واحدا يعمل بمجموعه" وكأن بيد الرجل عصا سحرية يسوق بها قطيعا فقد كان من الأنسب الحديث عن طبيعة المجتمع الهلالي الذي كان في حياته اليومية هيكلا واحدا. وكان يكفي أن يقع التحكم في أحد أطرافه لكي يتم التحكم في الهيكل كله. لذلك قيل إن صناعة الحياكة صناعة مسيّسة.
العمل الإصلاحي
الحاج سالم عياد
هو سالم بن أحمد بن عياد بن الحاج مبارك بطيخ. ولد بقصر هلال سنة 1852 وتولى خطة عدل بقصر هلال في 31 أكتوبر 1882 ثم الإمامة الأولى بالجامع الكبير يوم أول مارس 1916 بعد وفاة سلفه خليفة بن حسن القصاب يوم 6 ديسمبر 1915.
وكان له من الأبناء: محمد واحمد وحامد
ولعل أسماء الذرية تشير إلى تجذر الأب في تربية إسلامية خالصة.
هو الزارع الأول لبذور الإصلاح على المستوى الديني والاجتماعي والسياسي في التربة الهلالية.
أما عن المستوى الديني والاجتماعي فقد نشرت جريدة "الوزير" إثر وفاته يوم 5 جوان 1928 مقالا مؤرخا في 9 أوت 1928 تحت عنوان "فقيد الإصلاح" جاء فيه : قليل من علماء الخلف من يسير على منوال السلف متبعا الكتاب والسنة وشروح الأئمة. ومن النادرين فضيلة العالم النحرير والقدوة الشهير الحاج سالم عياد عمدة قصر هلال في مراجعة أصول الدين وفروعه وتطبيق القواعد على صحتها مع مقاومة البدع والضلالات الملصقة بالدين والمنسوبة إليه اعتباطا بل افتراء. فكان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ولا تغره في الحق لومة لائم ... أوصى الفقيد بأن لا ترفع عليه نائحة صوتا ولا تلطم عليه نادبة خدا وأن تسير جنازته طبق الكتاب والسنة بلا أصوات مرتفعة ولا قراءة قرآن في الطرقات فتمم أنجاله وصيته برا بوالدهم المرحوم" .
ويوم 6 جويلية 1928 كتبت جريدة "الصواب" مقالا احتل نصف صفحة من صفحاتها تحت عنوان "ما مات من لم يمت ذكره" مضيفة إلى ما سبق عظمة الجنازة التي أقيمت للفقيد إذ صلى عليه أكثر من أربعمائة رجل من سائر جهات الساحل أمهم محمد بن حسين الورداني ونشرت عن مآثره ما لم نر مثيلا له بتلك الصحيفة أو بغيرها.
وإن هذين المقالين – وحدهما- كافيان لإبراز الدور الإصلاحي الذي لعبه الحاج سالم عياد في الساحة الهلالية وخارجها.
وأما في المستوى السياسي فقد فتح الرجل داره لينعقد فيها أول اجتماع سياسي بقصر هلال تأسست خلاله شعبتها الدستورية يوم 23 سبتمبر 1921 وشغل بتلك الهيئة الأولى خطة مساعد للكاتب العام . كما فتح دكانه – حسب شهادة خصومه- ليطالع فيه الراغبون ما يرد عليه من الصحف والمجلات وقد جاء بإحدى الوشايات أنه يفتح (للدستوريين) دكانه ويقرأ لهم جرائدهم" ولا شك أن خطبة أيام الجمعة بالجامع الكبير كانت من جنس ذلك التصرف.
وقد وقع استغلال كل ذلك من طرف خصومه – وعلى رأسهم الإمام الثاني (إمام الصلوات الخمس) الناصر الشملي لينتهي الأمر بعزله من الإمامة الأولى يوم 29 نوفمبر 1926. وحتى ابنه العدل محمد رفض ترشحه لخلافة أبيه لأنه "ابن لرجل مواقفه معادية لفرنسا" .
كتب كاهية المكنين يوم 28 سبتمبر 1926 – أي قبل شهرين من العزل أن سالم عياد" متعصب مع أفراد ينتمون للحزب الدستوري" وقد كان محمد بوزويته آنذاك رئيسا للشعبة الدستورية بقصر هلال. فالرجل كما نرى قام في نطاق خطتية –العدالة والإمامة- بنشاط توعوي هام. وحتى داره فإنها بقيت دارا دستورية إذا ما لبثت حتى آوت اجتماع يوم 3 جانفي 1934 ومؤتمر 2 مارس 1934 على يد ابنه أحمد.
وقد عايش محمد بوزويته ماحيك لسالم عياد من دسائس وما تعرض له من العزل وشهد الموجة الرجعية التي تمثلت في إطلاق يد الزاوية العيساوية في شتى مجالات الحياة حتى احتل رجالها رحاب الجامع الكبير بعد قيام مشجعهم الأكبر الناصر الشملي بالإمامة الأولى منذ سنة 1925 عند مرض سالم عياد وبعد ذلك بدون تعيين رسمي – إذ بقي الجامع بلا إمام أول حتى الاستقلال ! ... وبذلك تحكمت الزاوية في أفراح الناس واتراحهم.
عايش محمد بوزويته كل ذلك وهو رئيس لشعبة المكان وشهد الإطاحة بسالم عياد فدخل المعركة مدركا جيد الإدراك ما كان ينتظره من المصاعب والعقبات. لكنه كان يدرك أيضا أن المعركة الإصلاحية لا محيد عنها لمن رام بناء جبهة داخلية لها من المتانة ما يمكنها من مواجهة غيرها من المعارك. فقد كان الرجل يرمي إلى بناء ما سوف يدعوه سنة 1934 "بالجيش" .
بدأ من حيث كان يجب أن يبدأ : بدأ بإصلاح النفوس والعقول. أيقن أن لا سبيل إلى أن يطلب الحرية فضلا عن أن يضحي في سبيلها من كان داخله مغلولا. وقد رأى في رواد الزوايا طاقات مهدورة. فراح يقومها ثم يقاومها. بدأ بزاوية سيدي عبد السلام فأقنع شيخها الحاج على صوة بالتخلي عنها والتوجه صوب ما ينفع الناس فاستقال من مشيختها سنة 1919 بعد أن قضى بها ثمانية أعوام. وبقيت زاوية سيدي بنعيسى وهي زاوية ذات ماض عتيد ويسيرها رجال اعترف بهم مؤسس الدولة الحسينية نفسه !
وقد استفحل أمر الزاوية حين أفسح زوال عقبة الحاج سالم عياد المجال لممارسة النشاط الطرقي داخل الجامع الكبير نفسه.
وكانت جماعة العيساوية تحسب أنها قد كسبت باقتحامها رحاب الجامع بمباركة من الإمام الناصر الشملي الحصانة وتحسب أنها في مأمن من رجال الإصلاح حتى كان يوم الجمعة 31 جويلية 1925 حين دخل محمد بوزويته الجامع صحبة ثلة من شبان الشعبة قبل صلاة الجمعة واتباع العيساوية يرددون أناشيدهم فتوجه إلى المصلين قائلا: "أتعجبكم وغوغة دلائل الخيرات؟" ورد رجال الزاوية الفعل أمام الخطر الداهم بتحرير عريضة يوم أول أوت 1925 – أي غداة الواقعة – يحتجون فيها على بوزويته و"حزبه الدستوري" .
وحرر الطرف المقابل عريضة يوم 2 أوت 1925 للتنديد بممارسة "جماعة دلائل الخيرات" لنشاطها بالجامع وتشييعها للجنائز .
ولم تكن للعريضتين نتيجة تذكر. فكتب عبد الله بن محمد البهلول – وهو عضو بالشعبة الدستورية يوم 18 ديسمبر 1925 يبلغ عن تمرد الناصر الشملي على توصيات الوزير الأكبر بخفض الصوت عند القراءة يوم الجمعة .
دخل بوزويته المعركة بأسلحة غير متكافئة. فخصومه يملكون المقر ويملكون منبر الجامع وتقف وراءهم السلطة الحاكمة في كل مستوياتها ثم إنهم يملكون في رصيدهم انتصارا.
هل كان ينوي مواجهة جماعة الزاوية منذ البداية أم جرفته الأحداث؟
لا ندري فقد عثرنا على عريضة مؤرخة في 23 جانفي 1924 تطالب بإعادة مركز الخلافة إلى قصر هلال وهو المركز الذي حذف منذ سنة 1897 حين ارتأت السلطة ضم قصر هلال إلى مركز المكنين نظرا إلى قصر المسافة بين القريتين. وقد كان من بين الممضين كل من محمد بوزويته والناصر الشملي وفرج الإميم والصادق الديماسي ومحمد العامري الكعلي وعثمان الشملي وهي وجوه متنافرة أشد التنافر .
وسرعان ما تغيرت العلاقات :
فقد توجه أصبع الاتهام إلى الناصر الشملي حين وقعت الوشاية بمحمد بوزويته الذي فوجئ وهو يعقد اجتماعا يضم حوالي ثلاثين شخصا بمنزله يوم 18 ديسمبر 1924. فمن الواضح أن الأمر يتعلق بوشاية موصوفة حيث أن الاجتماع كان بمنزل وفي فصل الشتاء وفي العاشرة ليلا وحيث أن رجال الجندرمة قدموا من المكنين. لكن لماذا نسبت تلك الوشاية إلى الناصر الشملي دون سواه ؟
لقد قال الناصر الشملي – أكثر من مرة- أن العداوة نشبت منذ رفض الانضمام إلى الحركة الدستورية وردد قوله قصد تأليب السلطة بدون شك لكن قد تكون هي الحقيقة. فالرجل لم يشارك في أي حركة قد يشتم منها رائحة نقد أو معارضة أو حتى امتعاض. أما مطالبته – صحبة الآخرين – بإرجاع مركز الخلافة فقد تكون من باب الطموح الشخصي الذي كان عظيما. ألم يطح بسالم عياد من أجل الحصول على الإمامة الأولى ؟
تلك الوشاية كانت – في رأينا – منطلق المعركة التي دارت رحاها على مدى تسعة أعوام لكنها لا تفسر الأسباب السابقة.
لقد كان الناصر الشملي يعتبر محمد بوزويته – عن حق – نصير الحاج سالم عياد ثم وريثه في الاتجاه الإصلاحي لكنه أخطأ إذ حسب أن معطيات المعركة قد بقيت على حالها. فلم يحسب للشعب – وللشباب منه خاصة – حسابا.
كان سالم عياد فردا، أما بوزويته فقد كان أخطبوطا. وسرعان ما شددت أصابع بوزويته الخناق على الناصر الشملي فراح يشكو أمره إلى الكاهية الذي نصحه بأن يرفع أمره إلى العدالة. ففعل موجها إلى بوزويته تهمة "التشويش على الإمام". لكن المحكمة قضت يوم 4 فيفري 1926 بعدم سماع الدعوى وقد دافع عن بوزويته راجح ابراهيم. مع العلم أن المدعي العام طالب بتسليط 6 أشهر سجنا .
وذاق الناصر الشملي طعم الهزيمة لأول مرة وذاقها معه كاهية المكنين الذي تبنى قضية الناصر الشملي بصفة شخصية فجاء إلى قصر هلال في أواخر نوفمبر 1926 ودخل الجامع وأعلم المصلين بتوقيف الحاج سالم عياد وأمرهم بانتخاب الناصر الشملي بدلا عنه. وكان رد الفعل عكسيا فامتنعوا. وعند الخروج من الصلاة قاموا بمظاهرة احتجاج على ذلك التدخل وكتبوا عريضة إلى الوزير الأكبر فدعا المراقب المدني بسوسة محمد بوزويته في أوائل ديسمبر 1926 وهدده معتبرا إياه مسؤولا عما جرى وقد علقت جريدة "الوزير" بأن سكان قصر هلال أصبحوا يؤدون صلاة الجمعة بالمكنين.
لقد كانت السلطة الحاكمة منحازة إلى الناصر الشملي كامل الانحياز وساندته بكل قواها وكان يرد لها الجميل بالدعاء للكاهية عقب الصلوات والمواظبة النشيطة على حضور كل المناسبات الرسمية وعند تنصيب كل من يقع تعيينه في المستوى المحلي والجهوي باعتباره "إمام الجامع الكبير".
أصدرت الوزارة الكبرى أمرا بانتخاب إمام أول لكن الأمر لم يقع تنفيذه. "ثم كتبت عريضة تحمل 150 إمضاء تطالب بتعيين أحمد بن محمد الشرفي إماما أول ولم تنفذ هي الأخرى وأكدت "لسان الشعب" ما كتبته "الوزير" من أن المصلين بقصر هلال يؤدون صلاة الجمعة بالمكنين رافضين الصلاة وراء الناصر الشملي حتى وصفته "لسان الشعب" بأنه إمام بالدبوس" .
كان الناصر الشملي هو الذي اختار السلاح السياسي وهو السلاح الذي جرب نجاعته مع سالم عياد، لكنه كان سلاحا ذا حدين إذ كان السلاح الذي أطاح به هو شخصيا. فمحمد بوزويته ليس سالم عياد وإذا كانا يؤمنان بهدف واحد فإن الوسائل التي استخدمها الرجلان كانت شديدة الاختلاف. سالم عياد رجل علم ودين ومحمد بوزويته رجل أمي ونساج. للأول مبادئ وقيم لا يرضى أن يتجاوزها أو ينزل دونها والثاني رجل عركته الشدائد. ثم إن الأول يعمل بمفرده بينما الثاني عرف كيف يحيط نفسه بجماعة كانت رأس حربة ومن أفرادها البارزين الطاهر بن حمدة بوغزالة وعلي بن محمود الشملي قبل أن ينضم إليهما آخرون.
وما لبث حتى أصبح الناصر الشملي في موضع سالم عياد بل أشد سوءا !
كان يحسب الجامع حصنا منيعا يقول فيه ما يشاء ويتصرف كما يحلو له حتى دخله بوزويته وقال فيه ما قال.
وقد كانت تلك العملية منطلقا جديدا لمعركة تجاوزت حدود قصر هلال لتأخذ أبعادا جهوية ووطنية على الصعيد الإداري والقضائي والصحفي.
ثم كان للفشل القضائي أثر بالغ على الناصر الشملي إذ ازداد به تعنتا والتحاما بالسلطة الحامية فإذا راح الناصر الشملي يوم 9 ماي 1928 يبلغ عن مناهضة بوزويته لقانون التجنيس وأنه وجماعته "مهيجون ويعملون ضد فرنسا ولهم أعمال سرية خطرة" راح بوزويته ورفاقه يهتفون بالجامع وخارجه مرددين عبارات "وشاية" و "جواسيس" و"خونة".
ولقد جاءت استقالة محمد بن علي بوراس من مشيخة زاوية سيدي بنعيسى بسبب تقدمه في السن وثقل أعباء الزاوية حسب قوله يوم 2 فيفري 1929 لتعلن عن بداية النهاية للزاوية وطقوسها.
وتحول النزاع إلى مواجهة سياسية في وضح النهار حتى إذا عاد الناصر الشملي إلى التذمر من "التشويش" يوم 24 سبتمبر 1933 وسانده كاهية المكنين تجاوزت الردود صاحب الشكوى لتشمل أقاربه حتى لجأ أخوه عبد الرزاق وصهره محمد الشارف إلى طلب الحماية من اعتداءات الدستوريين أو السماح لهما بالانخراط في الحزب .
ولم يقتصر عمل بوزويته على تطهير الجامع من الممارسات الطرقية بل تعداه إلى سلوكيات الناس أثناء مراسم الدفن حيث كان رجال الزاوية يرافقون النعوش "بأصوات تكاد تبلغ عنان السماء" كما عبرت عن ذلك جريدة "النديم" يوم 17 أكتوبر 1925 وقد كان لقائد المجموعة ومقدم الزاوية ابراهيم بن محمد كوزانة صوت جهوري نال به لقب "بوق قصر هلال" وقد نجح بوزويته في محو تلك البدعة نجاحا باهرا.
فقد توفي الحاج قارة بن محمد هلال يوم 11 ديسمبر 1925 عن سن 75 عاما موصيا بأن تشيع جنازته "طبق ما جاء في الشريعة وتم له ذلك"
وتوفى محمد بن الحاج محمد فنينة الكعلي يوم 31 أوت 1927 عن سن 75 عاما موصيا بأن يؤم صلاة جنازته الحاج سالم عياد وأنه "لا يسامحهم إذا تركوا الناصر الشملي يصلي عليه" .
وقد أثارت تلك التحولات الاجتماعية مخاوف رجال الزاوية – وهي مخاوف لها ما يبررها – فردوا الفعل:
1- برفض الانصياع لتوصيات المتوفين : إذا أوصى علي بن الحاج محمد الزراد عند وفاته يوم 2 ديسمبر 1927 بأن تكون جنازته في صمت وخشوع فرفضت جماعة الطرق بقولها: "لابد من إجراء العادة حب من حب وكره من كره" ودفن الرجل رغم أنفه بالصياح والصخب .
2- بتهديد محمد بوزويته بلعنة الزاوية وسوء المصير فراحوا يرددون في إحدى شطحاتهم :
من غير علم ولا قرآن يا معترض لأهل الحضرة
أنت بقيت كي الشيطان جاهل تعاند في الفقرة
هذى طريقة ناس زمان لا فيك لا خير ولا جعرة
خمر معانا بالكيسان دخلها النبي سمح البشرة
والله شفتو بالأعيان دخلها وجاكم من مرة
سيدي محمد بن عدنان حاضر ينشد ع الفقرة
وأضافوا:
وتعبت نفسك يا مغرور يا مدعي راك تغريت
يرميك في قاع التنور إن كان ما تبت ووليت
حتى إذا جاءت سنة 1931 اعترض الفتى أحمد بن قاسم قعليش – وعمره أربعة عشر عاما – على دفن والدته حسبما تريد لها البدع فنزل والده عند رغبته وشيعت الجنازة بصمت وسكون ويزداد وزن الحدث حين نعلم أن والد الفتى كان سنة 1911 من الأتباع النشيطين لزاوية سيدي عبد السلام .
ولم يتوقف عمل بوزويته عند تطهير الجامع والجنائز بل امتد إلى الزواج وما يثقله من التكاليف فدعا إلى التيسير وطرح ما علق بحفلات الزواج من مظاهر الإسراف وقد أثار تدخله حفيظة المعنية الأولى وهي الماشطة (أو الحنانة حسب تعبير العاصمة) رقية بنت عبد الرحمان سويسي (المعروفة محليا باسم رقية بنت حفصة) فراحت تغني حين ألقي القبض على محمد بوزويته يوم 19 نوفمبر 1935 وأبعد إلى برج القصيرة (برج البوف):
تهنى يا رقية ولا تخاف بوزويته في برج الباف
وقد علقت شرطة منطقة سوسة على ذلك يوم 28 نوفمبر 1935 بأن الجزء "السليم" من المجتمع الهلالي قد ابتهج بإبعاده فالجزء السليم (Population saine) كانت تمثله – ميدانيا- الماشطة، أما بوزويته فهو يمثل الجزء الموبوء !
ونحن نرى أن موقف الماشطة من محمد بوزويته له ما "يبرره" إذ هي كانت تحس بأن أرض قصر هلال بدأت ترتج تحت قدميها. فهذه الأعراس تتحول إلى أعراس وطنية وإن نظرة على الوصف الصحفي لحفل زفاف الأخوين محمد وعبد الله ابني الحاج علي صوة يوم 26 أكتوبر 1930 أو صيحات الفزع التي أطلقها كاهية المكنين يوم 20 أكتوبر 1931 ثم المراقب المدني بسوسة إثر حفل زفاف أحمد بن حسن جمور تبرز أن حفلات الزفاف أصبحت اجتماعات دستورية مقنعة بقناع الزفاف! فهي الأناشيد الوطنية وهي تلاوة قصيد "من أجلك يا وطني أضحي بالنفس والمال" وقصيد "حب الوطن مقدس فاحفظوه" وهي الأعلام ترفع على رأس العريس. ولم تكتف جماعة بوزويته بذلك بل راحت تنظم أعراسا مماثلة بصيادة .
هكذا بدأ التحول قبل أن تتبنى الفرق الموسيقية النحاسية العمل وتصبح معزوفاتها في الأعراس ألحانا وطنية.
تـأسيس المدرسة القرآنية "الهلال" بقصر هلال
أفردنا لتأسيس المدرسة القرآنية العصرية "الهلال" بقصر هلال – وذلك هو اسمها الرسمي –المدرسة الابتدائية بشارع صوة حاليا – فصلا خاصا لأن إنشاء تلك المدرسة يمثل بالنسبة إلى تاريخ مدينة قصر هلال محطة لا يمكن طرقه دون التوقف عندها.
فقد كانت المدرسة الحكومية – الفرنكوعربية- تمثل في نظر السكان مكانا لرفع الأمية بدون شك لكنها كانت ترمز أيضا إلى الحضور الأجنبي وقد التحق بها سنة 1928 مركز البريد ناهيك أن احتفالات نهاية الحرب العالمية الأولى جرت يومي 11 و 12 نوفمبر 1918 قبالة المدرسة الحكومية وفي ذلك أكثر من مغزى وإذا كان ابتهاج السكان عظيما سنة 1909 عند إنشاء "مكتب الشوك" وهي التسمية التي أطلقوها على المدرسة الحكومية لأنها كانت محاطة بسياج شائك فإن ابتهاجهم قد تضاءل بعد مرور السنين حين تبين لهم أنها كانت سما داخل الدسم فاستقر عدد تلاميذها حتى خشيت السلطة من تقلصها إلى حد الذوبان.
أما السكان فقد اختلفت مواقفهم بين مقدم ومحجم. فمنهم من فضل لأبنائه التعلم بما فيه وفيهم من فضل لهم الأمية وفيهم من أدخلهم أحد الكتاتيب مع ما كان يسودها من ظروف قاسية. ويدل اختلاف المواقف على أن التعليم بقصر هلال كان يمثل أحد مشاغل الناس وهمومهم. وقد كان محمد بوزويته يرى ويصغي !
لقد أجمعت المصادر الشعبية والرسمية على أن محمد بوزويته كان له دور كبير في توجيه صديقه الحاج علي صوة إلى العمل الاجتماعي بعد أن كان يكرس جهوده في خدمة زاويتي سيدي عبد السلام إلى درجة أنه أثار غضب أتباع الزاويتين بسبب إهماله لهما ثم استقال من المشيخة في حركة لا تخلو من العنف إذ أنه أصر على الاستقالة بدون ذكر سبب. كان ذلك في 15 ديسمبر 1919 أي بعد عام واحد من احتفال نهاية الحرب العالمية الأولى التي ساهمت فيها الزوايا يومي 11 و12 نوفمبر 1918 بإعلامها ودفوفها.
وإذا كان محمد بوزويته رجلا أميا كالحاج علي صوة فقد كان وراءهما – كما رأينا- الحاج سالم عياد. وبين فكي ملزمة متكونة من العلم الذي يمثله عياد والعمل الذي يمثله بوزويته اهتدى الحاج علي صوة إلى طريق قال عنها – هو نفسه حين سأله صاحب جريدة الوزير عن سبب بنائه للمدرسة ومشاركته الشخصية في البناء- إنه "جره سعيه في الخير وكفى" .
الحاج علي صوة كان رجلا خيرا بالقوة – حسب تعبير الفلاسفة – فحوله محمد بوزويته إلى رجل خيّر بالفعل .
لماذا سعى بوزويته إلى تأسيس المدرسة القرآنية ؟ لماذا سعى إلى إنشاء مدرسة مغايرة للمدرسة الفرنكوعربية التي كانت موجودة بقصر هلال منذ سنة 1909؟ كيف أمكن له أن يحكم على تعليم لم تتح له فرصة تلقيه ؟
إن الإجابة المقنعة الوحيدة تكمن حسب رأينا في:
1- سكوت الإدارة على الطلب الذي قدمه العدل علي بن حسن ابراهم أمام المقيم العام Alapetite يوم 21 ماي 1911 عند زيارته للمدرسة بتعيين معلم لتعليم العربية والدين الإسلامي .
2-نوعية الرجال الذين تمكن من الاحتكاك بهم بهيئة الشعبة الأولى (1921-1924). فقد أيقن أن للمصنع دورا جوهريا في تحديد نوعية الإنتاج. لذلك عمل على إنشاء المدرسة المناسبة لتكوين النشء المطلوب. وقد جاء في تقرير بإمضاء مدير الأمن العمومي مؤرخ في 18 نوفمبر 1929 أن "الناس ينتظرون تكوين رجال متعلمين قادرين على الدفاع عن مصالح البلاد والتونسيين" إنها نظرة محمد عبده إلى الإصلاح! ولا نظن أنه قد خاب ظنه.
تقول الأوساط الشعبية أن بوزويته وجد صعوبة في جمع الأموال لهذا الغرض وأنه عرض الأمر على الحاج على صوة الذي اشترط على عادته شرطا وحيدا وهو أن يقوم بالعمل بمفرده وأن تعاد الأموال إلى أصحابها. فتم ذلك واتصلا بالطاهر صفر الطالب العائد من فرنسا صيف 1928 والذي وصف بأنه صديق لبوزويته لأنه كان قد أدار المدرسة القرآنية العرفانية بالعاصمة من سنة 1922 إلى 1926 في سبيل الحصول على الرخصة التي يفرضها فتح مدرسة تعتبر من الوجهة القانونية مدرسة حرة. وقد تكفل امحمد شنيق – رئيس القسم التونسي من المجلس الكبير – بتقديم مطلب الرخصة إلى إدارة التعليم العمومي وقد قبل الطلب رغم المعارضة الشديدة لمدير المدرسة الحكومية وتحذيراته.
لعل الغاية من إنشاء مدرسة "الهلال" تبرزها الأبيات التي وشحت واجهة المدرسة وهي من نظم الشاعر الهلالي امحمد بن عمر بوشارب وقد جاء فيها:
معاهد يمن لا يرحن أواهلا يصان كتاب الله فيها دواما
أقمن على مجد الجدود أدلة وقلن لأبناء البلاد الأماما
وهو كلام نعبر عنه اليوم بالتجذر مع التفتح.
وإذا كنا لا ننوي الإطناب في الحديث عن مسيرة المدرسة التي كنا أوفيناها حظها في غير هذا المكان فإنه من الضروري أن نتعرض إلى من اعتبرته التقارير الرسمية متسببا في إنشائها أي محمد بوزويته:
فقد أشار تقرير أمني – سري- يوم 12 نوفمبر 1929 – أي بعد عشرة أيام من افتتاح المدرسة إلى أن بوزويته "اقترح" على الحاج علي صوة بناءها وأن الرجلين يفكران في إنشاء مستوصف بقصر هلال مع مجانية العلاج والدواء وأنه –أي بوزويته- يخوض مع معلمي المدرسة في مسائل سياسية وأن اللقاء كان يتم بمنزل بوزويته ليلا صحبة بعض الدستوريين وليس خافيا أن هذا الكلام يوحي ببعض الوشايات ...
كتب مدير الأمن يوم 13 جانفي 1930 متحدثا عن المدرسة والأصداء الأولية لتأسيسها بأن الحزب الدستوري ينسب لنفسه فضل إنشائها
عاد مدير الأمن يوم 18 جانفي 1930 إلى الحديث عن المدرسة فكتب: "المسمى محمد بوزويته الملقب "بالمعيرش" رئيس الشعبة الدستورية بقصر هلال عدو فرنسا اللدود Anti-français acharné et notoire والذي يواصل الدعاية المعادية لفرنسا بدون أن يزعجه أحد يطمح إلى أن يمسك بزمام هذه المدرسة. هذا المشوش الذي لو تعلق الأمر بحكومة أكثر حزما لوقع طرده منذ زمان يمقته غير الدستوريين بسبب ما ألحقه بهم من الأذى وهم يسحبون أبناءهم من تلك المدرسة شيئا فشيئا" .
ولعل مدير الأمن كان يحلم عند كتابة هذا الكلام، فالعكس هو الصحيح، وقد أجبر محمد بن الحاج علي صوة – مدير المدرسة- على إرجاع حوالي خمسين تلميذا نزحوا من المدرسة الحكومية وأرغم على التعهد بعدم قبول الراغبين في الانتقال إليه مع شروط أخرى كثيرة !
وقد لاحظنا أثناء درسنا لأصداء ذلك الانجاز تباينا بين المصادر التونسية والمصادر الفرنسية. فإذا رأت الأوساط التونسية في المدرسة مجرد مؤسسة تعليمية فإن الأوساط الفرنسية رأت فيها خطرا داهما، فأجمع كل من مدير المدرسة الحكومية F. Ricard ومتفقد اللغة الفرنسية M.Martin ومدير الأمن على اعتبارها خطرا على الحضور الفرنسي ونعتوها بالمنبت Pépinière للدستوريين أتباعا وزعماء .
العمل النقابي والتعاضدي
جاء في بلاغ صادر بجريدة النهضة يوم 12 نوفمبر 1936 بمناسبة تأسيس "نقابة قلفات (عملة) النسيج اليدوي": يتقدم مجلس الإدارة إلى الشيخ بوزويته بالشكر الجزيل حيث أنه أجهد نفسه في إفهام الناس منافع النقابات".
هذا الشكر نفسه كاف ليكشف الدور التوعوي الذي قام به محمد بوزويته في إحدى واجهات العمل الوطني وهي واجهة التضامن الحرفي.
لقد وجدناه عضوا بالشركة التي تأسست بقصر هلال يوم 7 جوان 1914 لتكون فرعا من الشركة الأهلية وضمت 107 من أصحاب معامل الحياكة بقصر هلال (الأنوال).
ثم وجدناه عضوا عند تأسيس شركة تعاونية باسم "الهلالية" لمحترفي الحياكة بقصر هلال يوم 22 نوفمبر 1921 من بين 121 منخرطا
ثم وجدناه عضوا بهيئة "نقابة النسيج الهلالية" عند نشأتها برئاسة عثمان بن محمود الشملي في نوفمبر 1933 وهو أمين مال الشعبة.
ثم اكتفى بالتوعية والتحريض عند تأسيس نقابة العملة برئاسة محمد بن إبراهيم حريق (ابن الحاج خليفة) في أوائل نوفمبر 1936.
ووجدناه عضوا بالتعاضدية التي تأسسست يوم 29 أفريل 1937 لتضم 374 عضوا .
وإن نظرة إلى هذه المحطات توضح حضور الرجل بالقول والفعل في كل عمل جماعي يدعو إلى توحيد الجهود ويؤدي إلى تكوين ما دعاه "بالجيش" ! وتطور الأرقام يشير إلى ثمار تلك الجهود !
ولقد نشأت بعد تلك المحطات محطات عديدة أخرى كان محمد بوزويته في منطلقها بل كان واضع السكك في طريقها.
العمل السياسي
قبل تأسيس الشعبة الدستورية
ما نستطيع أن نستشفه من حياة محمد بوزويته ومواقفه قبل تأسيس الشعبة الدستورية بقصر هلال يوم 23 سبتمبر 1921 – وهو ضئيل جدا- يشير إلى أن الرجل لم تتبين ملامحه بشكل يسمح بالاستنتاج ويشهد على ذلك موقفه من الواقعة التالية :
عند شغور خطة "أمين الحياكة بقصر هلال" إثر استقالة محمد بن عبد الرحمان القفصي في 12 فيفري 1888 ترشح لها كل من امحمد بن حسين بوزويته (1894-1978) وصالح بن حمودة بن علي حمودة (1874-1944) وقد اختلف رجال الصناعة في اختيار الرجل المناسب. فاستكتب كل منهما عدلين حسب التقاليد المعروفة وقد صوت لفائدة الأول 150 وصوّت لفائدة الثاني 85 ووقع الاختيار على الثاني لأنه استكتب عقده قبل الأول بستة أيام ! وما يهمنا هنا هو أن محمد بن عمر بوزويته رشح صالح حمودة دون محمد بوزويته. وهو موقف يثير فينا ملاحظتين :
1- أن محمد بوزويته لم يكن يحمل نعرة التعصب العائلي التي كانت ومازالت تطبع سلوكيات الكثيرين. لقد كنا أشرنا إلى أن شجرة آل بوزويته مترامية الأطراف لكننا لا نعرف – ولم نجد من يعرف – عن أبيه أو عميه حسن ومحمد شيئا ولو ضئيلا. يجب أن نقولها : محمد بوزويته ينتمي إلى آل بوزويته لكنه نشأ مستقلا. وقد تأملنا في الشجرة العائلية فلاحظنا أن فرع الرجل يكاد يكون شجرة قائمة بذاتها. فهو ابن وحيد عاش معزولا وسط الجموع ! كذلك نشأ وكذلك عاش وكذلك انتهى. وقد شاء القدر أن لا ينجب ابنه عمر أبناء وبه توقف الفرع عن النمو.
ويبدو أن اللامبالاة كانت متبادلة بين محمد بوزويته وآل بوزويته ! فقد سعيت جاهدا –منذ سنين- أن أحرك بعضهم لانجاز هذا العمل لكني لم أجد منهم إلا آذانا تصغي وشفاها تؤيد... وكفى !
2- أن اللون السياسي لم يكن يطبع مواقف محمد بوزويته على عكس ما أصبحت عليه منذ بداية العشرينات. وسوف يتحول صالح حمودة الذي سوف يصبح يوم 3 ديسمبر 1917 على رأس المشيخة الجنوبية بقصر هلال من ألد أعداء محمد بوزويته يترصد تحركاته ويبلغ عنها السلطة بحكم وظيفته من جهة وبشيء من ذاته من جهة أخرى. ونستشف بعد هاتين الملاحظتين أن التوجه السياسي لمحمد بوزويته ارتسمت ملامحه خلال السنوات الأخيرة من العشرية الثانية أي خلال الحرب العالمية الأولى وما فتحته نهايتها من آمال لدى الشعوب المضطهدة. ولاشك أن أصداء نهاية الحرب كانت بالعاصمة مغايرة لأصدائها بقصر هلال. فإذا كان من تداعياتها بالعاصمة إنشاء الحزب الحر الدستوري التونسي الذي أعلن عن تأسيسه يوم 17 رمضان 1336هـ. فقد احتفل شيخ الجنوبية بقصر هلال صالح حمودة يومي 11 و 12 نوفمبر 1918 برفع أعلام الزوايا قبالة المدرسة الفرنكوعربية وهي آنذاك الرمز الوحيد للحضور الفرنسي بقصر هلال.
ميلاد الشعبة
سألني أحدهم عن محمد بوزويته وأحمد عياد : أيهما أرفع منزلة بالنظر إلى الحركة الوطنية بقصر هلال فرفضت الإجابة لأني لا أحب الموازنة بين الناس كما لا أحب المفاضلة بين جندي المشاة وجندي الطيران. لكن المقارنة بين الرجلين بدون تفضيل أحدهما على الآخر ممكنة.
في عمرهما بعض التقارب وإن كان محمد بوزويته يكبر أحمد عياد بعشرة أعوام وكلاهما يعمل في تجارة الخيط ومواد الصباغة وكلاهما يقوم بحركة مكوكية بين قصر هلال والعاصمة وكلاهما وطني حتى النخاع.
إلى هنا يتوقف التشابه إذ هما يختلفان في كل ما عدا ذلك !
بوزويته رجل نظامي يحترم الناس ويريد أن يحترمه الناس. يحب النور والعمل الواضح يؤمن بتوزيع المسؤوليات وتدرجها. يكره الارتجال والفوضى ويتشبث بأخلاقيات النضال ويعتبر نفسه ضابطا في جيش.
وعياد رأى والده وهو يعزل بسبب أفكاره الوطنية ورأى الشعبة الدستورية بقصر هلال لا ترد فعلا ولا تصدر حتى احتجاجا فثار على المحتل وكان أول من لفت إليه نظر السلطة بقصر هلال وثار على الشعبة ولم يدخل قط هيئتها. وثار على كل شيء ! فهو لا يعترف بالهياكل والرتب بل إنه جيش به كافة الرتب. وإذا راح بوزويته يلاحق ما يجري بالجوامع والجنائز والأعراس فقد راح عياد يخالط جماعة "تحت السور" حتى أنه توفى بمطبعة زين العابدين السنوسي سنة 1949.
وإذا كان أحمد عياد قد أخذ من ميول والده الوطنية كثيرا أو قليلا فإن بدايات محمد بوزويته في الوعي السياسي محجبة بالغموض. بمن تأثر قبل دخوله الشعبة عند نشأتها في 23 ديسمبر 1921 ؟
لقد كان عمره آنذاك واحدا وأربعين عاما. وإذا كنا نعرف أو يخيل إلينا أننا نعرف –بوزويته بداية من ذلك التاريخ فمعنى ذلك أننا لن نعرف إلا ثلاثة وعشرين عاما. وكم من شجرة جذورها ضربت في الأرض فتجاوز طولها الأغصان ! لكن تلك هي ضريبة الشهرة والظهور. فمن كان يخطر بباله أن يسأل بوزويته عمن لقنه أبجدية الوطنية والعمل الوطني ؟
إننا لا نملك في هذا المضمار إلا طاقة التخمين.
ما لا نشك فيه هو أن بوزويته تطور عبر السنين، فبوزويته الذي صوت لفائدة صالح حمودة سنة 1913 ليس ذلك الذي حوكم من أجل عقده اجتماعا بمنزله سنة 1924 ولا هو بوزويته الذي حير السلطة في كل مستوياتها سنة 1933 وإذا كان استعراض مسيرته السياسية يكشف ذلك التطور فإنه يمكن من الصعود إلى منابع الوعي في خط هو ذاته الوعي التونسي عموما.
قالوا إن اتصالاته بأسواق العاصمة مكنته من الاحتكاك بالرجال الذين تمت على أيديهم ولادة الحزب الحر الدستوري التونسي وعلى رأسهم عبد العزيز الثعالبي لكننا لا نملك دليلا على ذلك. ولو وجدنا دليلا لأدركنا سر هذا التشابه الغريب بين مسيرة عبد العزيز الثعالبي الإصلاحية ثم السياسية ثم انهياره ومسيرة بوزويته الإصلاحية ثم السياسية ثم انهياره ! ولم تفصل وفاتهما سنة 1944 إلا تسعة وأربعون يوما !
لا شك أن أحمد توفيق المدني – العضو النشيط باللجنة التنفيذية للحزب الحر الدستوري التونسي – وهو رجل من أصل جزائري شأنه شأن عبد العزيز الثعالبي- حل بقصر هلال يوم 23 سبتمبر 1921 وهو على بينة من الوضع السائد بها.
فمن قام باستقباله ؟ وكيف كان استقباله ؟ ومن كان يعرف من السكان؟ لا ندري ! لكننا نعرف أن الاجتماع الذي تشكلت فيه أول شعبة دستورية بقصر هلال بل أول شعبة خارج العاصمة على الإطلاق وقع ذلك اليوم بدار الحاج سالم عياد لأن الرجل – كما رأينا- كان معروفا بكامل المنطقة بمواقفه الإصلاحية.
وإذا كنا لا نعجب من عدم ترؤسه للهيئة لتقدمه في السن – فالرجل كان عمره آنذاك 73 عاما – فإننا ما نزال نتساءل عن أسرار الترشح والانتخاب.
يقيننا أن أغلب أعضاء الهيئة لم يكونوا يدركون أبعاد انخراطهم في الحزب فضلا عن دخولهم هيئة الشعبة. وقد قال الحبيب بورقيبة في إحدى خطبه إن الناس لم يكونوا يفرقون بين الحزب السياسي وحزب العيساوية !
وإن المقارنة بين تركيب الهيئة سنة 1921 و 1924 توضح ما كان يكتنف أفكار أعضاء الهيئة الأولى من الغموض. فلم يمر على توليهم سوى ثلاثة أعوام حتى تخلى أغلبهم لأنهم كانوا يحسبون أنها هيئة أعيان. ولما انكشفت لهم الحقيقة انسحبوا. وبقي محمد بوزويته رفقة عبد الله بن محمد البهلول الذي لم يلبث حتى توفي سنة 1930.
لقد حدثت أثناء تلك الفترة حادثتان لا تبعثان على الاطمئنان وليس من شأنهما أن يرضيا الأعيان !
أوائل ديسمبر 1921 استقبل المقيم العام وفدا من الحزب الاصلاحي الذي أسسه حسن قلاتي يوم 16 أفريل 1921 وانظم إليه حسونة العياشي من مدينة سوسة والشاذلي القسطلي صاحب جريدة النهضة. وقد راح محمد بوزويته يحتج على تلك المقابلة معلنا أن الحزب الحر الدستوري هو الحزب الوحيد المؤهل لأن ينطق باسم الأمة التونسية وهو موقف يكشف أن بوزويته كان يأخذ دوره الجديد مأخذ الجد. وإذا كان المقيم العام قد أصدر بعد ذلك بلاغا يعلن فيه أن المقابلة تمت بصفة شخصية فأن رفاق بوزويته بالشعبة لا يمكن أن يكونوا راضين عن فعلة زميلهم.
يوم 5 أفريل 1922 زحفت الجماهير التونسية صوب قصر الباي محمد الناصر بالمرسى لتعرب له عن مساندتها إثر تهديده بالاستقالة بسبب خلافات تتعلق بصلاحياته. وقد مثل قصر هلال وفد متركب من:
- خليفة بن علي المعلال (1903-1948) شيخ الحي الشمالي من 20-2-1941 إلى وفاته
- الناصر بن عمر نوار (1888-1966) : خياط
- محمد بن عمر بوزويته (1880-1944) : تاجر
- صالح بن محمد مامة (1854-1929) : فلاح
- أحمد بن ابراهيم بورخيص (1883-1959) : تاجر
- منصور بن الحاج عمر بن الحاج سليمان (1899-1964): عدل ثم خليفة إلى 1956.
وهو وفد يمثل المجتمع الهلالي بكل أطيافه ويمثل الرأي العام بكل اتجاهاته ولا سبيل إلى أن يبحث له المرء عن قاسم مشترك ! وحتى الأعمار فقد تراوحت بين 19 و68 عاما. أما الشعبة فلم يكن يمثلها فيه إلا محمد بوزويته.
ويكشف هذان الحدثان أن الرجل لم يكن ينتمي إلى هيئة الشعبة إلا قليلا.
وعلى كل حال فقد احتجت الشعبة يوم 8 أفريل 1922 على توقيف جريدة "الصواب" التي نشرت خبر التهديد بالاستقالة مع العلم أن صاحب الجريدة امحمد الجعايبي كان قد صحب أحمد توفيق المدني عند تأسيس شعبة قصر هلال سنة 1921.
حتى إذا جاء يوم 23 جانفي 1924 وأمضى مع الممضين في عريضة المطالبة بإرجاع مركز الخلافة إلى قصر هلال فإن ذلك الإمضاء لم يكن إلا استجابة إلى رغبة محلية ناجمة عن تنافس قديم بين قصر هلال والمكنين. والله نحمد أنه لم تقع الاستجابة إلى تلك العريضة ولا إلى ما لحقها من العرائض. فلو أعيد المركز إلى قصر هلال لكان لتاريخها منعرج آخر. فقصر هلال كانت مستقلة – عمليا- منذ ألغي منها مركز الخلافة وهو أمر نرى ضرورة تأكيده لكل من رام درس تاريخ قصر هلال. والعريضة كان من دعاتها الناصر الشملي والصادق الديماسي لرغبتهما في تولي ذلك المنصب.
أما هيئة الشعبة فقد كان وجودها آنذاك شكليا يذكرنا بهيئة اللجنة التنفيذية الأولى التي كان يحرك سواكنها العضو الشاب أحمد توفيق المدني. حتى أن المراقب المدني بسوسة كتب يوم 8 أفريل 1922 بأن الناطق باسم الحزب الحر الدستوري بقصر هلال والداعي إلى الانخراط فيه هو أحمد بن سالم عياد وهو ليس عضوا بالهيئة. وحتى يوم 11 جويلية 1923 فإنه هو الذي يجمع الأموال لفائدة الحزب بقصر هلال وما احتجاج الشعبة يوم 8 أفريل 1922 على توقيف جريدة "الصواب" إلا لأن صاحبها امحمد الجعايبي كان قد رافق احمد توفيق المدني عند تأسيس شعبة قصر هلال .
أما تلك الهيئة فقد كانت تتركب من :
- الصادق بن علي الديماسي (1884-1959) : رجل أعمال، عضو مجلس العمل بالمنستبر
- علي بن العامري الكعلي (1898-1940): مالك فلاحي وتاجر، وكيل جمعية الأوقاف من 1930.
- الحاج سالم بن امحمد عياد (1852-1928) : عدل وإمام أول
- احمد بن خليفة القصاب (1879-1954) : عدل
- محمد بن حسين بوزويته (1881-1974) : صناعي وتاجر
- محمد بن عمر بوزويته (1880-1944) : تاجر في مواد النسج
- عبد الله بن محمد البهلول (1875-1930) : حياكة
- محمد بن حمودة الممي (1876-1956) : حياكة
- محمد شوشان بايع راسه (1877-1940) : حياكة
وهي كما نرى هيئة يعوزها الانسجام وحتى تناسب الأعمار وإن كان معدلها 43 عاما فإنها كانت تتراوح بين 23 و 69 عاما.
نسخة من بطاقة الانخراط بالحزب الحر التونسي
الانطلاقة
حتى إذا جاءت أيام 16 و 17 و 18 من شهر نوفمبر 1924 وعاد أحمد توفيق المدني – صحبة راجح ابراهيم ليشرفا على تجديد هيئة الشعبة من جهة وجمع الأموال لفائدة الوفد الدستوري المسافر إلى باريس من جهة ثانية ولا جانفي 1924 كما ذكر أحمد بكير محمود وجدا وجوها جديدة لم يتعرفا منها إلا على محمد بوزويته وعبد الله البهلول أما الآخرون فقد فضلوا النجاة بأنفسهم.
جددت الهيئة أثناء تلك الأيام الثلاثة وتولى محمد بوزويته رئاستها إلى يوم 29 أوت 1937.
وقد سعيت جاهدا أن أعيد تركيب ما جرى في تلك الأيام الأولى من رئاسته للشعبة لأنها أيام طبعت مسيرة الرجل بطابع لا يمحى. فهو رجل صنع الأحداث لكن صنعته الأحداث أيضا.
أما التركيبة التي أفرزها ذلك الاجتماع فقد تكون على النحو التالي:
- محمد بن عمر بوزويته (1880-1944) : رئيس
- صالح بن محمد مامة (1854-1929) : فلاح
- محمد بن علي ابراهم (1897-1945) : حياكة
- عبد الله بن محمد البهلول (1875-1930)
- عمر بن عبد الحميد بطيخ (1860- ؟)
- الحاج وناس بن امحمد شبيل (1890-1967).
- ساسي بن امحمد الديماسي (1895-1975)
- أحمد بن محمود البهلول (1904-1978) : حياكة
- محمد صالح بن سالم قفصية (1899- ؟): مؤدب
- صالح بن محمد سعيدان (1902-1964).
وهي هيئة تتراوح أعمار أفرادها بين 22 و 70 عاما ومعدلها 40 عاما وينتمون جميعا إلى مهن حرة.
تلقى محمد بوزويته عقب الانتخاب مباشرة تعليمات حزبية بالتعريف بزيارة سوف يؤديها الوفد الدستوري الثالث إلى باريس يوم 29 نوفمبر 1924 .
ويوم 18 ديسمبر 1924 اقتحم رئيس مركز الشرطة بالمكنين منزل محمد بوزويته في العاشرة ليلا فوجد به قاعة اجتماعات وقبل الاقتحام تنصت لبوزويته وهو يلقي خطابا على ثلاثين شخصا فيه دعوة إلى التضامن وإلى مساندة الوفد الذي قصد باريس للتفاوض مع الحكومة الفرنسية وختم كلمته بأن عدد منخرطي قصر هلال في الحزب بلغ الخمسمائة وأن معلوم الانخراط 12 فرنكا. وقع الاقتحام بعد نهاية الخطاب ووجهت تهمة مخالفة الأمر العلي المؤرخ في 13 مارس 1905 المانع للاجتماعات بدون ترخيص مسبق، قالت جريدة Le libéral –خطأ- إنه من حسن الحظ أنه لم يسجل في القضية محضر فقد سجل وأحيل بوزويته على المحكمة الجهوية بسوسة حيث صرح بأنه شرح الأهداف التي ذهب من أجلها "وفدنا المبارك إلى كعبة التمدن والحرية مدينة باريس" وأن محله كان مغلقا (مشقق) وقد نشرت جريدة "افريقيا" – وصاحبها أحمد توفيق المدني- نص مرافعة المحامي محمد بن مصطفى المعتمري العضو باللجنة التنفيذية للحزب (أنظر الملحق عدد2) وقضت يوم 5 فيفري 1925 بتغريم محمد بوزويته بواحد وعشرين فرنكا .
وقد نجم عن تلك الأحداث أمران:
1- سافر الوفد الدستوري الثالث إلى باريس يوم 29 نوفمبر 1924 وأرسلت ست برقيات مساندة من قصر هلال يوم 19 ديسمبر 1924 –أي غداة الاجتماع- لإثبات أن "الوفد يمثل الشعب التونسي" حسب نص البرقيات. ولم تشاركها في ولاية المنستير إلا المكنين ببرقية واحدة بإمضاء ابراهيم بن ضيا قال المراقب المدني بسوسة إنها بإيعاز من محمد بوزويته .
ثم أرسلت الشعبة إلى الوفد يوم 16 جانفي 1925 رسالة ترحيب عند عودته من فرنسا وقد اتضح أثناء مؤتمر 2 مارس 1934 بقصر هلال أن الوفد الذي كان يرأسه أحمد الصافي قدم إلى الحكومة الفرنسية عريضة جاء فيها "إننا لسنا بوطنيين" وهي عريضة أخفيت عن الشعب التونسي وكشف عنها المنشقون سنة 1934 .
2- تسببت القضية التي تعلقت ببوزويته في أول "بطاقة إرشادات" توجه إلى المقيم العام بشأنه يوم 13 جانفي 1925. وهذا يدل في حد ذاته على أن الرجل لم تتضح ملامحه السياسية –كما ذكرنا- إلا عند توليه رئاسة الشعبة بينما لاحظ المراقب المدني يوم 26 جوان 1925 أن أحمد عياد يعتبر آنذاك "أحد القادة الدستوريين بقصر هلال" ولنا أن نؤكد أن بوزويته لم ينتزع القيادة الوطنية بقصر هلال إلا خلال سنة 1925 ويشهد على ذلك النشاط المكثف الذي أبدته الشعبة على الصعيدين المحلي والوطني.
إثر مقررات ما دعي "بلجنة الإصلاحات" شنت قصر هلال إضرابا عاما قد يكون الأول من نوعه يوم 21 مارس 1925 وأرسلت يوم 24 مارس 1925 أربع برقيات احتجاج على "الإصلاحات التي تمحو الذاتية التونسية" حسب نص البرقيات .
يوم 8 جوان 1925 صدرت عن قصر هلال برقية احتجاج على تصريحات أدلى بها النائب بالبرلمان الفرنسي Morinaud وهو ممثل مقاطعة قسنطينة الجزائرية وواحد من غلاة الاستعماريين وتهجمه على الجنسية التونسية ومطالبة بردع ذلك السباب البرقية كانت من تحرير أحمد عياد وبإمضاء مجموعة من الهلاليين تبينا منهم :
التومي بن خلف الله الغوالي (1900-1966) أحمد بن سالم عياد (1890-1949)
حامد بن سالم عياد (1897-1961) محمد بن محمود الشملي (1897-1974)
خليفة بن علي الزياتي (1871-1941) محمد بن عمر بوزويته (1880-1944)
أحمد بن ابراهيم بورخيص (1883-1941) عبد الله بن ابراهيم بائع راسه (1888-1933)
فرج بن قاسم قاسم (1894-1953) عبد الله بن محمد الدهماني (1875-1940)
أحمد بن خليفة القصاب (1879-1954) صالح بن محمد سعيدان (1902-1964)1
أحمد بن احمد شرشير (1901-1941) الطاهر بن علي الديماسي (1905-1963)
علي بن أحمد بوسلامة (1884-1944) عبد الله بن صالح الممي (1908-1976)
محمد بن علي ابراهم (1897-1945)1 محمد بن صالح الممي (1880-1950)
أحمد بن محمد الدوس (1895-1953) سالم بن محمد الدوس (1897-1968)
عبد الله بن عبد السيد الشنباح (1887-1968) علي بن حسين القصاب (1901-1970)
عبد السلام بن الحاج يوسف محمود (1884-1949) امحمد بن احمد طيطش (1875-1945)
محمد بن العامري الكعلي (1894-1971) محمد صالح بن سالم قفصية (1899-..)
علي بن محمد العامري الكعلي (1898-1940) وناس بن صالح الحساني (1897-1961)
خليفة بن علي الزراد (1897-1942) يوسف بن احمد الهاني (1894-1971)
سالم بن ابراهيم بن الحاج خليفة (1897-1931) عمر بن أحمد الهاني (1908-...)
ساسي بن امحمد الديماسي (1895-1975)1 الحاج احمد بن خليفة سعيدان (1875-1966)
عبد القادر بن حسن بوزويته (1882-1946) أحمد بن صالح الصغير (1890-1944)
الحاج محمد بن مفتاح ساسي (1889-1940).
هم أربعون تعرفنا منهم على 37 ذكرناهم حسب ترتيبهم بنص البرقية ومعدل أعمارهم آنذاك 32 عاما. وتعمدنا ذكرهم لأنهم يمثلون في نظرنا طلائع الوعي القومي بقصر هلال رغم ما طرأ على بعضهم من تحولات.
صدر قرار بإبعاد أحمد توفيق المدني عضو اللجنة التنفيذية للحزب والمشرف على تأسيس شعبة قصر هلال وتجديد هيئتها إلى الجزائر بذريعة أنه من أصل جزائري. فأرسلت شعبة قصر هلال بإمضاء محمد بوزويته يوم 10 جوان 1925 برقية احتجاج على ذلك الإبعاد الذي صحبه توقيف جريدته "إفريقيا" وهي الجريدة التي وقفت إلى جانب بوزويته في قضية الاجتماع غير المرخص فيه. وقد اعتبر بوزويته ذلك القرار "خطرا على الحرية الفردية وحرية الصحافة" حسب نص البرقية .
وبعد هذه البرقية وما قبلها وقع تسليط أضواء السلطة على الرجلين: محمد بوزويته وأحمد عياد حسب تقرير حرره المراقب المدني بسوسة إلى المقيم العام لوسيان سان بتاريخ 26 جوان 1925.
يوم 24 أكتوبر 1929 كتبت جريدة "الوزير" تحت عنوان "حول حوادث فلسطين: احتجاجات قصر هلال": إن حوادث بيت المقدس الدامية قد أدخلت على الهلاليين حزنا عميقا وأخذت مأخذها من نفوسهم. ولذلك فقد بعثوا احتجاجاتهم إلى كل من وزير الخارجية الفرنسية بباريس ووزير الخارجية الأنكليزية بلندرة ورئيس جمعية الأمم بجنيف وكلها مختومة بإمضاء أحمد ساسي بالنيابة عن 94 من إمضاءات أعيان قصر هلال الموجودة أسفل العرائض". وإذا كان لتلك العرائض من نتيجة فهي البحث الذي انطلق حول كاتبها أحمد ساسي. فقد جاء في تقرير المراقب المدني Fortier ردا عن سؤال المقيم العام Manceron أن أحمد بن محمد ساسي "عطار" بقصر هلال من أنشط الدستوريين لا يتمتع بأي نفوذ أو احترام. هو شاب عمره 25 عاما درس بالمدرسة الفرنكوعربية وله الشهادة الابتدائية ويكتب عرائض الشعبة. ذلك أن أعضاء الشعبة أميون لا يتمتعون بأي مودة من السكان ولا يخشى من تصرفاتهم والأعيان متعلقون بالحكومة الحامية". هكذا كتب Fortier في 2 ديسمبر 1929 في محاولة يائسة لإنكار الحقائق. ولن يطول بقاؤه إذ وقع تعويضه بـ Graignic وأقيم لتوديعه حفل يوم 30 جانفي 1933 تناول فيه الناصر الشملي – أحد الأعيان الذين أشار إليهم – الكلمة .
تلك العرائض – التي سوف تتبعها أخريات – تشير إلى العمل الكبير الذي قامت به الشعبة وعلى رأسها بوزويته لربط الإنسان الهلالي بالقضايا القومية بمفهومها الواسع فغدا متجاوبا مع محيطه الخارجي بعد أن تم ربطه بالمحيط الداخلي وأصبح عضوا بعد أن كان فردا.
يوم 27 نوفمبر 1929 أصدرت شعبة قصر هلال عريضة "استنكار لأعمال بريطانيا واضطهادها لعرب فلسطين". هذه العريضة التي أمضى بها 60 شخصا وجهت نسخة منها إلى جمعية الأمم بجينيف وأخرى إلى رئاسة الحكومة الفرنسية. وقد حررت بعد أن سافر محمد بوزويته صحبة الطاهر بن حمدة بوغزالة وأستاذنا صالح فرحات ومحي الدين القليبي وأضاف التقرير الأمني المؤرخ في 29 نوفمبر 1929 أن الأعيان غير راضين عن هذا العمل .
وهي معلومة لها أهميتها لأنها تكشف أن العريضة لم تكن مملاة من الحزب بل إنها على العكس مملاة على الحزب لأن المبادرة كانت من بوزويته وصحبه !
والحقيقة هي أن إبعاد أحمد توفيق المدني في جوان 1925 كان له تأثير بالغ على اللجنة التنفيذية التي أصبحت تحتاج إلى من يحرك سواكنها.
ويوم 30 جوان 1930 نشرت جريدة "الشورى" المصرية التي كان يصدرها المجاهد العربي محمد علي طاهر نص برقية صادرة عن شعبة قصر هلال بها "تعزية للأمة الفلسطينية" وتنديد بإقدام الاستعمار البريطاني على إعدام ثلاثة فلسطينيين.
ويدل نشر البرقية على أن رجال الشعبة كانوا يطالعون الجريدة – أو تطالع لهم- ويعرفون اهتمامها بقضايا التحرر بالعالم العربي وتدل بالتالي على تعدد مصادر "الوحي" لديهم.
ومما يزيدنا اقتناعا أنه صدرت بالجريدة نفسها والغرض نفسه برقية ثانية من "شباب مدينة قصر هلال بتونس" بإمضاء خلف الله بن يونس الحمروني (1904-1971) ويوسف بن صالح الغزالي (1900-1971) وسالم بن سعد بن الحاج خليفة (1914-1991) والطاهر بن حمدة بوغزالة (1900-1978) ومحمد بن الحاج فرج حريق (بن الحاج خليفة (1908-1989) وعبد الله بن علي بن حسين (...-...)
يوم 6 أوت 1930 اعتزم أربعة من "الدستوريين الذين يفسدون كل مكان "حسب تعبير كاهية المكنين وهم : محمد بن علي ابراهم – ومحمود بن أحمد سعيدان – والطاهر بن حمدة بوغزالة ويوسف بن صالح الغزالي- تقديم مسرحية "فتح الأندلس" بمناسبة المولد النبوي. وحاول الشيخان منعهم وتطورت الأمور حتى تحولت إلى قضية عدلية فقدم صالح فرحات عضو اللجنة التنفيذية للحزب" الذي قابل عددا من الدستوريين ومن بينهم محمد بوزويته المدعو "المعيرش". وإذا كان المجال يضيق عن ذكر أطوار القضية فإن ما كتبه الكاهية يدل على أن بوزويته كان يشرف عليها من بعيد .
وقد لاحظ رئيس شرطة المكنين يوم 5 أوت 1930 أن محمد بوزويته والحاج محمد بن الحاج سالم سعيدان يعقدان اجتماعات للدعاية الحزبية الأول بدكانه والثاني بمعمله ولاحظ أنها اجتماعات سرية .
وأضاف تقرير آخر يوم 23 أوت 1930 أن بوزويته كان بصدد ترويج بطاقات الانخراط في الحزب وأنه كان يتلقى عن كل انخراط سنوي اثني عشر فرنكا ونصفا .
ونشرت جريدة الشورى يوم 27 ماي 1931 عريضة ممضاة في 18 ذي الحجة 1349 من طرف 705 من قصر هلال للاحتجاج على "الأعمال الوحشية التي ارتكبتها الفاشية الإيطالية بطرابلس وبرقة من التراب الليبي" والعريضة موجهة إلى جمعية الأمم بجينيف رغم تقاعسها عن الواجب الذي وجدت لأجله "حسب تعبير العريضة. وذلك بالإضافة إلى أربع برقيات من جملة 19 برقية من كامل الإيالة . وإثر توقيف جريدتي "النهضة والوزير" أرسلت الشعبة برقية احتجاج يوم 2 جوان 1931.
يوم 28 جانفي 1932 صدر أمر علي بتعيين محمد بن العامري الكعلي شيخا للحي الشمالي بقصر هلال. وقد لاحظت عيون السلطة أنه لا يبلغ عن أسماء المضربين ولاعن تحركات الدستوريين – كما يفعل زميله بالحي الجنوبي – وأنه يقبل بمكتبه محمد بوزويته وجماعته. فصاحبنا موجود حتى بمكتب الشيخ !.
وانعقد مؤتمر الحزب الحر الدستوري أيام 2 و 3 و 4 ديسمبر 1932 حضره محمد بوزويته وخطب فيه أحمد الصافي والطاهر صفر ومحي الدين القليبي وصالح فرحات وسمي بالمؤتمر التحضيري .
ويومي 12 و 13 ماي 1933 انعقد مؤتمر الحزب الدستوري بنهج الجبل بالعاصمة وشاركت فيه قصر هلال مشاركة فاعلة بوفد ضم محمود بن يوسف سعيدان وعلي بن محمد منصور وفرج بن خليفة الإميم وترأسه محمد بوزويته.
وتم في ذلك المؤتمر إقحام جماعة "العمل التونسي" في اللجنة التنفيذية للحزب .
ولم يمض على ذلك المؤتمر سوى شهرين حتى حلّ البحري قيقة وهو أحد الأعضاء الجدد باللجنة التنفيذية بقصر هلال. وبينما كان مقيما بها أرسلت منها يومي 26 و 27 جويلية 1933 برقيات شكر لبعض النواب بالبرلمان الفرنسي نشرت لهم تصريحات بها تحرر إزاء القضية التونسية.
• برقية أولى يوم 26 جويلية حررها محمد بن سالم سعيدان إلى النائب Dominique وأمضى بها 124 شخصا.
• برقية ثانية يوم 26 جويلية حررها فرج الإميم إلى النائب Georges Monnet وأمضى بها 130 شخصا.
• برقية ثالثة يوم 26 جويلية حررها علي بن الدهماني الميلادي إلى النائب Guernut وأمضى بها 125 شخصا.
وقد أبلغ عن تلك البرقيات رئيس شرطة سوسة يوم 17 أوت 1933 .
وكان وراء كل ذلك محمد بوزويته.
قضية التجنيس
تعوّد الدارسون أن يربطوا قضية التجنيس بسنتي 1932 و1933 ربطا نعتبره بترا للحقيقة. فالقضية أقدم من ذلك، إذ هي تعود إلى شهر ديسمبر سنة 1923 حين صدر قانون فرنسي لتيسير اعتناق الجنسية الفرنسية ثم تبناه المقيم العام بتونس بقرار مؤرخ في جانفي 1924 ولا تمثل سنتا 1932 و 1933 إلا بروز القضية على مسرح الأحداث. ولا يعني ذلك أن الناس كانوا في غفلة من الأمر. وقد ورد بإحدى وشايات الناصر الشملي وهي مؤرخة في 9 ماي 1928 بأن محمد بوزويته يناهض التجنس وهذا يشير إلى أن إمام الجامع لا يناهضه ! – ولاشك أنه قد لاحظ موقف بوزويته حين تجنس صالح بن الحاج محمد الممي (1900-1969) بالجنسية الفرنسية في شهر ماي 1927 .
وقد طغت على سنة 1933 أحداث ناجمة عن اعتناق بعضهم للجنسية الفرنسية وطرح السؤال: هل يدفن المتجنس بالمقابر الإسلامية أم بمقابر النصارى ؟ وإذا رفضت الدوائر المسيحية باعتبار أن المتجنس ليس نصرانيا فقد اختلفت مواقف المسلمين واصطبغت باعتبارات سياسية. فقد أفتى الشيخ إدريس الشريف- مفتى بنزرت يوم 31 ديسمبر 1932 بجواز دفن الصبي بالمقابر الإسلامية وأن المتجنس مرتد تجب مقاطعته .
وفي أوائل 1933 قامت حكومة الحماية بواسطة الوزارة الكبرى باستفتاء المجلس الشرعي الأعلى بتونس فأفتت الأغلبية بأن التجنس لا يخرج المسلم عن دينه. فثارت في البلاد موجة من الاحتجاج وأضرب تلاميذ الزيتونة وكان من نتائج ذلك إحداث مقابر خاصة بالمتجنسين بأمر علي مؤرخ في 27 ماي 1933وإعفاء الشيخ محمد الطاهر بن عاشور – رئيس القسم المالكي من المجلس الشرعي – من إدارة الجامع الأعظم.
وما أن صدرت فتوى المجلس الشرعي حتى شنت قصر هلال إضرابا عاما وانتظمت يوم 21 أفريل 1933 -منذ الثامنة صباحا- مظاهرة نادى فيها المتظاهرون بسقوط التجنيس. وفي التاسعة التقى متظاهرو قصر هلال والمكنين وتحول الحشد – حسب تقدير شرطة المكنين- إلى ألفي متظاهر خطب فيهم يوسف بن صالح الغزالي والطاهر بن ميمون فضلون والطاهر بن علي ابراهم ورافقت الخطب أناشيد وطنية .
وإزاء تفاقم الاحتجاجات في الموضوع صدر أمر علي مؤرخ في 6 ماي 1933 يقضي بإنشاء المراقبة الإدارية على الأشخاص ردت عليه قصر هلال بثلاث برقيات احتجاج أمضى إحداها محمد بن عبد الرزاق الحجري ويحمل 29 إمضاء وأمضى الثانية محمد بن عمر القنوني وتحمل 34 إمضاء وأمضى الثالثة أحمد بن سالم عياد وتحمل 25 إمضاء .
وهي برقيات تحمل نصا واحدا وتثبت أنها من مصدر واحد : محمد بوزويته.
وإزاء سكوت سلطة الحماية عن تطبيق الأمر العلي المتعلق بأحداث مقابر خاصة بالمتجنسين بالبلدان التي يوجدون بها أصدرت قصر هلال يوم 18 ماي 1933 مجموعة من العرائض والبرقيات :
عريضة موجهة إلى الباي للاحتجاج على فتوى التجنيس تحمل 213 إمضاء
عريضة إلى إدارة الحزب الحر الدستوري لتأييده في دفاعه عن الجنسية والدين .
برقية عاجلة إلى إدارة الحزب بالمعنى نفسه
وقد بلغ عدد البرقيات الصادرة عن قصر هلال للاحتجاج على دفن المتجنسين بالمقابر الإسلامية أربعة .
ولم تجد سلطة الحماية من حل سوى حلّ الحزب الدستوري وإغلاق نواديه يوم 31 ماي 1933 وقد استمر مفعول هذا القرار إلى ديسمبر 1933.
وقد حدث بالمنستير ما كان متوقعا إذ توفي صبي ابن متجنس وأصر أبوه على دفنه بالمقبرة الإسلامية يوم 7 أوت 1933 واعترضت الجماهير على ذلك واستعملت الشرطة أسلحتها فسقط شعبان البحوري.
وعند دفن الشهيد يوم 8 أوت 1933 في الساعة الثانية والنصف بعد الزوال انتظم بالمنستير موكب شاركت فيه قصر هلال بوفد شعبي ترأسه محمد بوزويته وأحمد عياد حسب تقرير لمدير الأمن مؤرخ في اليوم نفسه .
وإزاء تصاعد الأحداث وتحول الاحتجاج إلى الصدام الدامي تلقى المراقب المدني بسوسة يوم 18 أوت 1933 برقية من المقيم العام لتخصيص أماكن بالمقابر الإسلامية لدفن المتجنسين بالبلدان التي يوجدون بها. فكلف عامل المنستير حسن السقا بتنفيذ الأمر بالنسبة إلى قصر هلال التي يوجد بها متجنس واحد. حل العامل يوم السبت 19 أوت 1933 صحبة خليفة المكنين محمد الحداد وشيخ الحي الجنوبي بقصر هلال صالح حمودة وعلي العامري الكعلي وكيل الأوقاف بقصر هلال وإمام الجامع الناصر الشملي واتفقوا على قطعة ملاصقة للمقبرة الإسلامية. لكن الدستوريين رفضوا طالبين أن تكون القطعة مستقلة تماما.
ورغم أن الحزب منحل بصفة رسمية ونواديه مغلقة فإن محمد بوزويته – حين علم بالأمر- جند جماعته – ومنهم إسماعيل بن إبراهيم سعيدان واحمد بن ابراهيم بورخيص وسعد بن أحمد الشرفي واتصلوا بالخليفة مساء وأقنعوه بضرورة تغيير الموقع عارضين موقعا آخر يفصله عن المقبرة الإسلامية طريق عام.
لكن المراقب المدني أصر على تنفيذ ما قرره العامل وجماعته.
ولم يدم الأمر طويلا، فقد حدث ما كان متوقعا. إذ لم يكن ذلك النساج الهلالي المتجنس يدرك تداعيات فعلته. فقد رزق الرجل طفلا توفي يوم 31 أوت 1933 وعمره شهر واحد.
اتصل كاهية المكنين بالمراقب المدني ليستشيره في الأمر فأمره بدفن الطفل بالمكان الذي حدده عامل المنستير. لكن الكاهية عاد ليعلمه أن الدستوريين احتلوا الموقع رافضين مغادرته والسماح بالدفن فاضطر المراقب المدني – صاغرا- إلى الموافقة على الموقع الذي اختاروه.
وفعلا فقد انتظمت مظاهرة ضمت 600 شخص احتلت المقبرة الاسلامية وبدأت في التضخم وأعلن أحمد عياد وسعد الشرفي أنهما يعترضان على الموقع الذي اختارته السلطة لأنه جزء لا يتجزأ من أوقاف المقبرة الإسلامية. قال الكاهية إنه حاول إقناع الناس طيلة ساعتين بدون جدوى. وأن الطفل دفن بالمكان الذي رغبوا فيه بعد استئذان المراقب المدني بحضور شرطة المكنين. وراح الكاهية يتذمر من أحمد عياد والطاهر بن حمدة بوغزالة اللذين يكونان رأس الحربة لكل عمل جماعي مناهض بقصر هلال .
وقد كتب رئيس شرطة المكنين يوم أول سبتمبر 1933 وكتب بعده مدير الأمن يوم 2 سبتمبر 1933 أن الطاهر بوغزالة – وهو كاهية رئيس الشعبة الدستورية بقصر هلال – هو الدافع والمنظم للمظاهرة .
هذا الحدث الذي حرّك كل أجهزة الدولة الحامية في كل مستوياتها كان وراءه – كما أوضحت مراسلة أحمد ساسي – محمد بوزويته الذي كان حريصا على عدم الظهور شخصيا لتجنيب الحزب المنحل من تداعيات الأحداث.
وإذا كان كاهيته بهيئة الشعبة الطاهر بوغزالة قد جازف بخوض غمارها فقد دفع ثمن ذلك ضربا مبرحا غداة الواقعة وعشرين يوما من السجن بالمنستير مما تحدثنا عنه في غير هذا المكان ويضيق عن ذكر تفاصيله هذا المجال.
وما يهمنا هنا هو تأكيد عامل المنستير الجديد محمد الزواري المعروف بلقب "بودبوس" الذي استهل نشاطه بقضية قصر هلال أن محمد بوزويته دائم الاتصال بمحي الدين القليبي وأن بالمنستير خمس شعب دستورية أخبثها وأشدها عصيانا هي شعبة قصر هلال التي يرأسها بوزويته صحبة كاهيته الطاهر بوغزالة. كتب ذلك في تقرير ذي ثماني صفحات بالخط الرقيق يوم 10 سبتمبر 1933 .
ورد محمد بوزويته وجماعته الفعل بتوسيع الجبهة إذ حررت يوم 23 سبتمبر 1933 عريضة مشتركة من قصر هلال وقصيبة المديوني والمنستير وبنان للتشهير بسعي عامل المنستير إلى استكتاب عريضة لفائدته .
فحرر عامل المنستير يوم 30 سبتمبر 1933 تقريرا يزعم فيه أن محمد بوزويته وعلي بن محمود الشملي – وهو عضو بهيئة الشعبة – يحرضان الناس على الامتناع عن دفع الضرائب وأضاف أن بقصر هلال 1828 يدفعون الأداءات وأن 75% منهم دستوريون وختم كاتبا: "وخلاصة القول فإن الوضع يبدو خطيرا بعمالة المنستير حيث يكون الدستوريون – وخاصة بقصر هلال – خطرا على الأمن العام".
وانتقل العامل من القول إلى الفعل فاعتقل الرجلين يوم 3 أكتوبر 1933 صحبة إبراهيم بن ضيا رئيس الشعبة الدستورية بالمكنين وحكم عليهم جميعا حكما شخصيا بخمسة عشر يوما من السجن مع تغريمهم بعشرين فرنكا .
وقد تساءلت جريدة "الوزير" عن سبب ذلك الاعتقال ووجهت "لسان الشعب" أصبع الاتهام إلى الإمام الناصر الشملي الذي عاد يتظلم من المشوشين وشهد معه الشيخ صالح حمودة "الذي كثيرا ما يشهد في مثل هذه المواقف" وأضافت الصحيفة : "كان نزول خبر إيقافهم على أهالي الساحل جميعا شديدا ولا حديث في المجتمعات والنوادي إلا عنهم وعما حاق بهم .
وقد أصدرت جريدة "لسان الشعب" التي تصدر عادة يوم الأربعاء عددا خاصا يوم السبت 7 أكتوبر 1933 "يحمل صورة محمد بوزويته للحديث عن القضية وتصرفات عامل المنستير وكاهية المكنين.
كما نشرت جريدة "الزهرة" يوم 9 أكتوبر 1933 نص عريضة طويلة الذيل تحت عنوان "شكوى من المنستير" لخصت فيها مواقف الناصر الشملي إزاء محمد بوزويته ورفاقه .
ومن الطريف أن محمد بوزويته وعلي الشملي وابراهيم بن ضيا وأحمد الشطي (من مساكن وكان قد سبق الجماعة إلى السجن) حرروا في سجنهم بالمنستير يوم 10 أكتوبر 1933 رسالة طويلة موجهة إلى "جمعية الرفق بالحيوان" ليصفوا سجن المنستير وظروف الإقامة فيه ويعبروا عن سرورهم بمشاركة إخوانهم في الإنسانية في آلامهم وأشجانهم بلهجة لا تخلو من السخرية ولم يلبث المراقب المدني Graignic الحاقد على قصر هلال حسب تعبير جريدة الزهرة حتى عين بالعاصمة مراقبا مدنيا مساعدا يوم 12 أكتوبر 1933 أي بعد أسبوع من اعتقال المجموعة وسوف لن يلبث عامل المنستير بدوره مدة طويلة إذ نقل إلى مدنين يوم 31 مارس 1934 .
وندرك منزلة تلك المجموعة لدى الناس حين نعلم أنهم احتفلوا بنقلة المراقب المدني واعتبروه عزلا. وقد جلب عثمان بن محمود الشملي - أمين مال الشعبة- جريدة الدبيش وبشّر الأهالي بالخبر وكلف مناديا (براح) ينادي: "يا من وجد زربية ثمنها 500 فرنك" وهو يقصد زربية أهداها الناصر الشملي إلى المراقب المدني وضاعت بذهابه . وقد أنكر المراقب المدني وكتب في هامش التقرير الذي اشترك في تحريره الناصر الشملي والشيخ صالح حمودة يوم 16 أكتوبر 1933 أنه لا يعرف إمام قصر هلال .
وقد بلغت القضية أعلى هرم السلطة حين تدخل أحمد الصافي مدير الحزب لدى المقيم العام الفرنسي يوم 13 أكتوبر 1933 فصدر الأمر إلى وكالة الدولة بسوسة بإطلاق سراح المجموعة بكاملها. وقد نفذ عامل المنستير الأمر على مضض ولم يكن المسكين يعلم أن الأمر صادر عن المقيم العام نفسه !
ويوم 16 أكتوبر 1933 أطلق سراح المجموعة على دفعتين. وكان يوما مشهودا. وما يثير التساؤل وحتى الدهشة هو كيف بلغ الناس خبر الإفراج حتى يقع إعداد ذلك الاستقبال ! فهم حوالي 600 شخص ينتظرون تحت الزياتين في مدخل قصر هلال على طريق المنستير وبأيديهم خمسون علما تونسيا حتى وصل الثلاثي: محمد بوزويته وعلي الشملي وإبراهيم بن ضيا في الثانية بعد الزوال. وبعد الطواف بقصر هلال والهتاف بحياة الحزب وسقوط العامل شيعوا إبراهيم بن ضيا إلى المكنين وعادوا إلى قصر هلال .
ولم تنس الجماعة أن تمر على الجامع الكبير عند إقامة الصلاة بإمامة الناصر الشملي وبأيديها عدة رايات لتهتف بحياة الحزب وسقوط الخونة وقد لوحظ من بينها :
محمد بن عمر بوزويته
علي بن محمود الشملي
محمد بن علي بوزويته
خليفة بن سالم الميلادي
عبد الله بن خليفة حفصة
محمد بن سالم الجخراب
سالم بن محمد بوغزالة
وقد غادروا الجامع ورافقوا بوزويته والشملي إلى منزليهما
وأطلق سراح بقية المجموعة مساء ذلك اليوم
ومما يشير إلى وقع القضية ووزن أطرافها جهويا أن وفدا يتركب من سبعين شخصا حل بقصر هلال قادما من جمال مساء يوم 17 أكتوبر 1933 على متن خمس سيارات وشاحنة ليكون اللقاء بمخبزة محمد سويسي احتفاء بمحمد بوزويته وعلي الشملي
لقد كانت ملحمة وكان محمد بوزويته قطب رحاها !
لكنه لم يركن إلى الراحة بعد إطلاق سراحه. وقد رأينا أنه تولى العضوية بأول نقابة هلالية للنسج عند تأسيسها أواسط شهر نوفمبر 1933 كما أبلغ تقرير أمني مؤرخ في 16 نوفمبر 1933 عن انخراط 16 شخصا من بنان في الحزب بإيعاز من دستوريي قصر هلال والمنستير .
الانشقاق
وقبل أن نتقدم في مسيرة بوزويته نرى ضروريا أن نتوقف عند أربعة أحداث جدت على الساحة الوطنية ولا يمكن أن نسلك طريقنا بدون أن نأخذها بعين الاعتبار. ونكتفي بتلخيصها في أربعة اسطر.
يوم 7 سبتمبر 1933: استقالة الحبيب بورقيبة من اللجنة التنفيذية احتجاجا على ما اعتبره تدخلا في شؤونه الخاصة.
في شهر نوفمبر 1933: رفت البحري قيقة من اللجنة التنفيذية لإفشائه سرا حزبيا.
يوم 18 نوفمبر 1933: اصدر أحمد الصافي منشورا يحذر الشعب الدستورية من الاستماع إلى الحبيب بورقيبة لزوال الصفة الحزبية عنه.
يوم 7 دسيمبر 1933 : استقالة محمود الماطري والطاهر صفر وامحمد بورقيبة من اللجنة تضامنا مع زميليهم.
وإذا كان بوزويته قد واصل تحركه بعد استقالة الحبيب بورقيبة – كما رأينا- وكأنها لم تكن فان بقية الأحداث حملته على التوقف
وفي مقدمة تلك الأحداث ذلك المنشور:
جاءه المنشور فتوقف. أدرك أن زلزالا ضرب القيادة الحزبية- والحزب منحل رسميا- فتوقف لينظر حتى ينقشع السحاب عسى أن تتضح الأمور. كأن يحسب أن استقالة الحبيب بورقيبة أمر عابر يمكن معالجته حتى جاء المنشور ليكرس القطيعة ويقطع كل أمل في رأب الصدع. فأصابه ما يشبه الذهول.
تجاوزت الأحداث كل توقعاته وهو الذي كان يحسب أن اللجنة التنفيذية للحزب قد دبت فيها الحياة بفضل العناصر الجديدة التي لم يمض على إقحامها إلا أربعة أشهر وكان يحسب أن قطار الحركة الوطنية قد انطلق وإذا به يرى فشل عملية التطعيم برمتها.
ثم جاءت يوم 9 ديسمبر 1933 وفاة راجح إبراهيم عضو اللجنة التنفيذية والمحامي الذي قام بالدفاع عنه أمام المحكمة يوم 4 فيفري 1926 لتشعره بقتامة الوضع. لقد حدث ما لم يكن في الحسبان. ولا نشك في أن الرجل قد أصيب بما يشبه الدوار. وها هو لا يبدي حراكا.
حتى إذا جاء المنشقان الحبيب بورقيبة والطاهر صفر صحبة الشاذلي قلالة يوم 3 جانفي 1934 يطلبان تمكينهما من عقد اجتماع بنادي الشعبة بقصر هلال رفض .
كان عليهما أن يدركا أن محمد بوزويته ليس من صنف الرجال الذين يمضون الصكوك على بياض. فماذا قدما للقضية الوطنية حتى يقدما ذلك الطلب ؟ لقد كان يعرف الطاهر صفر من خلال تعامله مع إحداث مدرسة الهلال سنة 1929 لكنه لم يكن يعرف عن الحبيب بورقيبة إلا ما استطاع أن يطلع عليه من المقالات. وقد صرح الحبيب بورقيبة نفسه أنه لم يكن يعرف آنذاك أحدا بقصر هلال بما في ذلك بوزويته فهل كل هذا يسمح له – ولأي عاقل- بأن يفتح لهما نادي الشعبة؟ وهل ذلك يكفي لكي يعصي أمر لجنة هي- على علاّتها- تمثل الحزب في أعلى الهرم؟ أليس نادي الشعبة من ممتلكات الحزب الذي استقالا من لجنته التنفيذية ؟ ألا يعتبر تسليمه لهما خيانة لمؤتمن؟ ماذا كان يفعل الرئيس الحبيب بورقيبة لو سلم أحد رؤساء شعب الحزب الحاكم -بعد ذلك- نادي الشعبة إلى المعارضين؟
لا نظن أن سبب الرفض كان – كما زعم أحمد بكير محمود- شخصانيا وأن عدم التوجه إليه مباشرة قد حز في نفسه بل لا نتصور أنهما لم يكونا يعرفان منزلة بوزويته بالبلاد. ومعهما الشاذلي قلالة الذي كان يشتغل بقصر هلال. وقد أقر الحبيب بورقيبة بذلك لاحقا. كلاّ فالرجل كان مقتنعا بموقفه أشد الاقتناع مؤمنا بأنه لا يجوز له أن يضع النادي تحت تصرف المنشقين بعد أن صدر المنع الواضح وتعذر الاجتهاد.
وقد طبع ذلك الرفض علاقات الرجلين إلى درجة أن الحبيب بورقيبة بقي يردده بعد وفاة بوزويته بعقود وإذا كانت الاعتبارات الشخصية قد تحكمت في أحدهما فإنها بدون شك تحكمت في الحبيب بورقيبة !
وقد راح الحبيب بورقيبة – غفر الله له- يتندر كعادته "بشربة الماء" التي لم تقدم إليه ذلك اليوم من شهر رمضان ! ألم يكن من الأجدر لو رتب الظروف لذلك الاجتماع المزمع انعقاده؟ أليست قصر هلال على مرمى حجر من المنستير؟ أهكذا يقع إعداد الاجتماعات العمومية؟ وهل تعد النوادي والمنصات والكراسي والأطعمة والمشروبات ووو بعصا سحرية ؟ أما كان على الجماعة المنشقة أن تحاسب نفسها قبل أن تنسب أسباب الرفض إلى الآخرين؟
لقد رأينا من خلال مسيرة بوزويته رجلين أحدهما منضبط اشد الانضباط حين يتعلق الأمر بالقضايا الوطنية وثانيهما مناضل حر حين يتعلق بالإصلاح الداخلي بقصر هلال. هذان الرجلان تعايشا في نفس بوزويته في تناغم كامل. وما بدا للحبيب بورقيبة انكماشا" يوم 3 جانفي 1934 كان انضباطا يتطلبه كل عمل حزبي بدونه تكون الفوضى وتزول مصداقية الأحزاب. أنه ميثاق الشرف لكل متحزب و لم يكن بورقيبة يعرف فصول ذلك الميثاق. ولما عرفها أصبح حريصا عليها إلى حد الاختناق.
وعلى كل حال فقد انعقد الاجتماع ذلك اليوم 3 جانفي 1934 ليلا بدار أحمد عياد وقيل إن محمد بوزويته حضره متنكرا. وهي معلومة نسجلها باحتراز إذ لم نجد ما يؤكدها أو ينفيها غير أننا نلاحظ أن ملامح محمد بوزويته يصعب إخفاؤها ثم إن الرجل لم يكن قط ميالا إلى التمثيل !
يوم 16 جانفي 1934 حضر محمد بوزويته اجتماعا عقده الحبيب بورقيبة على قبر شعبان البحوري بالمنستير بمناسبة عيد الفطر و ربما تعرف الرجلان على بعضهما في تلك المناسبة .
مؤتمر 2 مارس 1934
نعرف جميعا نص ما سمي باستقالة الشعبة الدستورية بقصر هلال وقد نشر ذلك النص أكثر من مرة واعتبر أمرا واضحا كل الوضوح. والأمر على عكس ذلك تماما. أما نصها فهو التالي:
"حضرة الأستاذ الفاضل السيد الحبيب بورقيبة
أما بعد فليكن في علمكم أن لجنة الشعبة الدستورية بقصر هلال قد استقالت مؤقتا احتجاجا على قبول استقالتكم ورفت الأخ البحري قيقة وتقول في استقالتها أنه إذا لم يقع تسوية الخلاف وإرجاع المياه إلى مجاريها أو عقد مؤتمر عام في القريب العاجل فإن شعبة الحزب الدستوري بقصر هلال تستمر على استقالتها إلى أن تقرر الأمة مصيرها دمتم في حفظ الله والسلام.
من أحمد ساسي وأحمد عياد"
هذه الفقرة مليئة بالفخاخ والألغام
1- إنها ليست استقالة بل هي إعلام بالاستقالة. أو هي تهديد بالاستقالة. ثم إنه إعلام غير مؤرخ و إن كان يتضمن تحديدا لفترة أدناها شهر نوفمبر 1934- تاريخ رفت البحري قيقة وأقصاها 7 ديسمبر 1934 تاريخ استقالة بقية المجموعة.
2- فأين هي الاستقالة؟ ومن أمضى بها؟ إذ ما يجب أن لا ننساه أنه لم يكن أحمد ساسي ولا احمد عياد عضوا بهيئة الشعبة فضلا عن أن يكون أحدهما رئيسا لها.
3- ألا تكون تلك الرسالة التي كان اتصل بها الحبيب بورقيبة قبل حلوله بقصر هلال يوم 3 جانفي 1934 سببا في عدم توجهه إلى محمد بوزويته مباشرة؟ وإذا أفادنا ذلك النص بشيء فهو يفيدنا بأن رئيس الشعبة محمد بوزويته لم يقدم استقالة الهيئة وأن "الاحمدين" سبقا الأحداث و وضعاه أمام الأمر المقضي. وهو لم يكن يعتبر نفسه مستقيلا في أي وقت من الأوقات. وحتى يوم 3 جانفي 1934- أي بعد تلك الرسالة بشهر- اعتبر أنه مؤتمن على نادي الشعبة بقصر هلال. فهل هذا موقف مستقيل؟
أما تعلة أن محمد بوزويته رجل أمي فإنها مردودة لأنه أصبح منذ بضعة أعوام قادرا على القراءة والكتابة أي أنه أصبح قادرا على تقديم استقالة كتابية. فأين هي ؟ يقيننا أنها لم تكتب إطلاقا !
رسالة فريدة من نوعها بخط محمد بوزويته إلى صديقه الحاج الطيب بنبلة بمناسبة عيد الفطر الذي كان يقضيه ببرج البوف سلمنا إياها الصديق صابر البنبلي.
ثم إننا لم نسجل لأحمد ساسي سوى نص واحد حرره باسم الشعبة بجريدة "العمل" يوم 10 جويلية 1934 للحديث عن حفل أقيم بمناسبة المولد النبوي وأمضاه باسم "أحمد ساسي: مقرر الشعبة". ألا يكون محمد بوزويته قد قطع تكليفه بالكتابة باسم الشعبة منذ ذلك الحين؟ وإذا كان أحمد ساسي قد توفي سنة 1978 لماذا سكت عن كامل الفترة التي لحقت ذلك والتي امتدت أكثر من أربعين عاما؟
هيئة الشعبة ليلة انعقاد المؤتمر
اللجنة التنفيذية لشعبة قصر هلال ويرى في الوسط رئيسها المفضال السيد محمد بوزويته
من كتاب: مؤتمر البعث، الحزب الحر الدستوري، 1962.
الرئيس: محمد بن عمر بوزويته (1880-1944): تاجر في الخيط ومواد الصباغة
كاهيته: الطاهر بن حمدة بوغزالة (1900-1978): حياكة
الكاتب العام: محمد بن علي إبراهم (1897-1945 ) : حياكة
كاهيته ؟
أمين المال: عثمان بن محمود الشملي (1900- 1994 ): تاجر منسوجات
كاهيته ؟
الأعضاء: سالم بن حسن جمور (1903-1983) : تاجر مواد غذائية
علي بن الدهماني الميلادي (1903 - ؟) : حياكة
الطاهر بن خليفة رورو (1906- ؟) : اسكافي
محمد بن فرج بن الحاج خليفة (1908-1989) : حياكة
علي بن محمود الشملي (1903-1986) : تجارة
محمد بن عبد الرزاق الحجري (1905-1995) : تجارة
الهذيلي بن علي رضوان (1904-1984) : تجارة
ملاحظات:
1- تركيبة توصلنا إليها اعتمادا على وثائق عديدة
2- ذكرت مجلة "المؤتمر" التي صدرت بقصر هلال في مارس 1969 أن أحمد ساسي عضو بالهيئة وذلك خطأ. وأغفلت علي الشملي وذلك خطأ أيضا.
3- معدل أعمار الهيئة 32 عاما سنة 1933 و قد كان المعدل سنة 1921: 43 عاما
4- كافة الأعضاء ينتمون إلى مهن حرة
محمد بوزويته كان يرغب في انعقاد مؤتمر يضم كافة الدستوريين لا بعضهم. كان يرغب في الاستماع إلى الطرفين ويترك الحكم للدستوريين. على هذا الأساس رفض المشاركة في اجتماع 3 جانفي 1934 وعلى هذا الأساس حاول استحضار اللجنة التنفيذية لمؤتمر 2 مارس.
كتبت جريدة "الأخبار" يوم 2 جوان 1955 أن بوزويته حاول يوم أول مارس 1934 إقناع محي الدين القليبي مدير الحزب بحضور المؤتمر وأن محاولته باءت بالفشل وقال أحمد ساسي في شهادة أدلى بها إلى مجلة "المؤتمر" الصادرة بقصر هلال في مارس 1969 إنه توجه رفقة محمد بوزويته إلى مدينة سوسة يوم أول مارس 1934 وقابلا محي الدين القليبي والمنصف المستيري فأجاب القليبي: "كنت أود أن آتي إلى قصر هلال لا لحضور اجتماعكم بل لتأبينك".
سعى بوزويته إلى التوفيق بين الطرفين فأغضب الطرفين
ولما يئس من حضور اللجنة التنفيذية انظم إلى المؤتمر وسوف نستشف أثر المرارة في الكلمة التي ألقاها عند الافتتاح.
قال الحبيب بورقيبة – وهو الداعي إلى عقد المؤتمر بقصر هلال – يوم 3 جويلية 1955 إن لوجود محمد بوزويته وأحمد عياد بقصر هلال دورا في ذلك الاختيار وأيده في ذلك الطيب بن عيسى صاحب جريدة الوزير يوم 3 ماي 1934 وقال في خطاب 6 مارس 1959 بعد أن طرح السؤال: لماذا عقدنا المؤتمر الأول بقصر هلال؟ "كان لشعبة قصر هلال الدستورية وزنها في الحزب. ولعل السر في ذلك راجع إلى نشاط ومقدرة قادتها الأولين أمثال المرحوم محمد بوزويته ..." وأضاف : "كاد الوضع يؤول إلى انتقال اللجنة التنفيذية إلى قصر هلال إذ لم يبق نشاط في غيرها" وختم: "خلاصة القول إننا كنا نود الظفر بمناصرة الأحرار بقصر هلال وجلبهم إلى شد أزرنا".
إنه اعتراف عظيم الأهمية لأنه صادر عن رجل يقع مع محمد بوزويته على طرفي نقيض وإن كانا في خندق وطني واحد. فهو اعتراف بريادة قصر هلال في النضال الوطني واعتراف بدور محمد بوزويته وصحبه.
انعقد المؤتمر يوم الجمعة 2 مارس 1934 الموافق لـ 17 ذي القعدة 1352 من الساعة التاسعة صباحا إلى الواحدة بعد الزوال ثم من الخامسة مساء إلى التاسعة ليلا.
وقع تسخير القرية بكاملها لاستقبال الضيوف: المنازل للطبخ والحمامات للمبيت.
واللافت للنظر أن الوفود وقع اقتبالها بنادي الشعبة وهذا يدل على أن بوزويته أعطى للمؤتمر الشرعية التي كان يحتاج إليها. فقد كانت اللجنة التنفيذية تتهم البحري قيقة بأنه يريد تأسيس حزب آخر وإن فتح نادي الشعبة الدستورية للمؤتمرين يثبت أن المؤتمر ليس مؤتمرا لتأسيس حزب آخر بل هو مؤتمر للحزب الحر الدستوري.
نقل الأديب الصحفي سعيد بن محمد بن الحاج محمد بن بوبكر أصيل المكنين والمعروف باسم "سعيد أبو بكر" فعاليات المؤتمر من ساعته الأولى إلى ساعته الأخيرة. نقلها وهو سعيد ليتمتع بسقوط اللجنة التنفيذية التي وقع رفته منها منذ ستة أعوام باقتراح من محي الدين القليبي ونشرت جريدة النهضة مقالاته لعداوة قديمة بينها وبين تلك القيادة فالنهضة – كما قالت في إحدى افتتاحيتها- أنشئت لتكون لسان "الحزب الإصلاحي" المنشق- هو الآخر- عن الحزب الحر الدستوري. فنشرت المقالات باثني عشر عددا من الجريدة بداية من 10 مارس 1934. ثم جمعها سعيد أبو بكر وأصدرها في كتيب بمطبعة "الإتحاد" تحت "عنوان المؤتمر العام" في السنة نفسها قبل أن يعيد الحزب نشرها في 2 مارس 1967 ولولا ذلك الغضب المزدوج لما أتيحت لنا فرصة الاطلاع على فعاليات المؤتمر مثلما حصل بمؤتمرات أخرى.
من الأخطاء التي ارتكبت في خصوص المؤتمر:
1- قول جريدة الوطن " يوم 8 أوت 1937 أن امحمد الجعايبي رأس مؤتمر قصر هلال.
2- قول محمود الماطري: المناضل الشيخ بشعبة قصر هلال محمد بوزويته الذي مازال مترددا لم يشارك في المؤتمر لكنه بقي في اتصال غير مباشر بالمؤتمرين فأين كان حضرة الدكتور حين تولى محمد بوزويته كلمة افتتاح المؤتمر؟
مشهد من المدعوين لمؤتمر 2 مارس 1934 يتوسطهم محمد بوزويتة
"دخل المؤتمرون بذلك المحل (دار عياد) الذي أسست فيه أول شعبة دستورية بالقطر التونسي" .
كان من المفروض أن يصطحب كل نائب وثيقة تثبت هويته وتؤكد تفويضه من طرف شعبته حسبما جاء في نص الدعوة غير أن خمسة أشخاص لم تكن بأيديهم نيابات كتابية. وقد اعترض بوزويته على قبولهم ثم قرر المؤتمر قبولهم بأغلبية الأصوات. ولم يعترض إلا محمد بوزويته وبلحسن بن جراد نائب شعبة ترنجة بالعاصمة ويشير هذا الموقف إلى أن بوزويته لا يبني مواقفه على المجاملات.
وإذا كانت فعاليات المؤتمر تخرج عن نطاق بحثنا فإننا سنتوقف عند ما يتعلق منها بمحمد بوزويته:
كتب سعيد أبو بكر بجريدة النهضة يوم 10 مارس 1934 بإمضاء "دستوري على الحياد": "... وبعد ذلك صعد السيد محمد بوزويته رئيس شعبة قصر هلال وارتجل خطابا رحب فيه بالحاضرين واعتذر لهم عن التقصير في القيام بواجبات القبول لأن بلدتهم ليست (بلاد سوق) وأنها لم تكن تترقب وقوع مثل هذا المؤتمر فيها وطلب أن يكون مرماهم خدمة الوطن المقدس وتطهير الإسلام مما ألصقه به أعداؤه وقد قوبل خطابه بالتصفيق الحاد...".
وأدخل سعيد أبو بكر تغييرا عند طبع الكتاب في شهر ماي من العام نفسه: "... بعد الترسيم والنظر في النيابات أسندت رئاسة المؤتمر للوطني الغيور السيد محمد بوزويته رئيس الشعبة الدستورية. بمدينة قصر هلال ووقع التصويت عليه بالإجماع فافتتح المؤتمر بخطاب وجيز اثر في النفوس أجمل تأثير إذ قال إن بلدة قصر هلال تحتفل بالزائرين وتعتذر لهم عن عدم وجود المرافق الكافية للمبالغة في إكرامهم فصاح الوافدون جميعهم بأن مدينة قصر هلال قد أكرمتهم غاية الإكرام وبأنهم ممنونون لها ويطلبون من الله تعالى أن يسعد أهلها
لقد طرح سعيد أبو بكر دعوة بوزويته إلى الإخلاص في خدمة الوطن وتطهير الإسلام مما علق به من الشوائب و ذلك – في نظرنا- أهم ما ورد بالخطاب.
وعلى كل حال فقد كتبت جريدة الصواب يوم 9 مارس 1934 ما نصه: "قام الوطني الحر السيد محمد بوزويته رئيس شعبة قصر هلال وألقى خطابا بصفة كونه رئيس المؤتمر حث فيه الحاضرين على الوفاق والوئام ودعاهم إلى خدمة القضية التونسية بإخلاص وانقطاع وترجى منهم مقاومة البدع وما أدخل في الدين من خزعبلات وخرافات التي ليست منه في شيء فقوبل خطابه بالتصفيق الحاد" .
يقيننا أن ما طرحه سعيد أبو بكر من كلمة بوزويته هو أهم ما فيه: الوفاق والإخلاص والإصلاح. وهي كلمات طبعت مسيرة محمد بوزويته من المنطلق حتى النهاية أما ما أبقاه من الخطاب فهو تبادل مجاملات تقتضيها المناسبة وظروفها.
وقد أسفرت انتخابات المجلس الملي للحزب عن فوز محمد بوزويته ضمن 20 عضوا .
يوم 26 افريل 1934 أوفد الديوان السياسي محمد بوزويته وعبد الكريم الواد رئيس الشعبة الجديدة بالمكنين إلى أحمد الصافي قصد تمكينهما من حضور المؤتمر الذي أعلنت اللجنة التنفيذية عن انعقاده بنهج غرنوطة بالعاصمة. وإذا كان قبول القليبي بتمني الموت لبوزويته فان الصافي طرد الرجلين من مكتبه مهددا إياهما بدعوة الشرطة .
وانعقد المؤتمر يومي 26 و 27 أفريل 1934.
وأطلق سعيد أبو بكر صفة "غرنوطي" على المشاركين فيه ثم انتقلت الصفة لتشمل أنصار الحزب القديم.
هذا الدكان كان مقرا للشعبة الدستورية سنة 1934 رفض بوزويته تسليم مفتاحه للمنشقين ليعقدوا فيه اجتماعا. فأي اجتماع يمكن أن يسعه دكان؟
(دكان العاتي حاليا بنهج الجمهورية).
استئناف العمل
واستأنف محمد بوزويته نشاطه مع القيادة الجديدة فانعقد يوم أول ماي 1934 اجتماع بمكتب الحبيب بورقيبة بالعاصمة ضم أحد عشر من أعضاء المجلس الملي- من بينهم محمد بوزويته لدرس النشاط المستقبلي للحزب .
ونشر بجريدة العمل يوم 15 جوان 1934 مرحبا بميلادها وقد كان إنشاؤها أحد مقررات مؤتمر البعث. كما ساهم في جمع التبرعات لفائدة اقتناء مطبعة لها (أنظر نص الرسالة بالملحق عدد 6) .
وجاءت أحداث 5 سبتمبر 1934 لتشعل المنطقة من جديد. وهي أحداث نجمت عن اعتقال الحبيب بورقيبة ورفاقه يوم 03 سبتمبر.
كانت المظاهرة منعرجا هاما في تاريخ الحركة الوطنية. فقد تكون المرة الأولى التي تنظم لمساندة القيادة عند الشدائد ولم يستعمل من قبل سلاح الضغط الجماهيري ولم يتجاوز تجاوب الناس مع القيادة- كما رأينا عند مضايقة عبد العزيز الثعالبي أو إبعاد أحمد توفيق المدني- حدود العرائض وبرقيات الاحتجاج وقد تعودنا أن نرى القيادة تسعى- أحيانا- إلى حماية الدستوريين كما رأينا عند تدخل أحمد الصافي لفائدة بوزويته سنة 1933 . وهي المرة الأولى –على حد علمنا- التي تهب فيها الجماهير لحماية قادتها. وقد تكرر الأمر بعد ذلك في حوادث أفريل 1938 وفي جانفي 1952. كما وقع في النطاق المحلي عند اعتقال بعض الوجوه الوطنية البارزة.
وسوف يكون لذلك التحول دور له شأن في الكفاح الوطني إذ لم يعد إيقاف القيادة يؤدي إلى إخماد الثورة بل أصبح يؤججها وأصبحت سلطة الاحتلال تختار أحد أمرين أحلاهما مر: إيقاف أم لا إيقاف؟
والحقيقة هي أن دور محمد بوزويته في أحداث يوم الأربعاء 5 سبتمبر 1934 غامض إلى أبعد الحدود. فقد تتبعنا أخبار "المظاهرة الأولى" التي وقعت يوم الاثنين 3 سبتمبر لتسليم كاهية المكنين وقصر هلال مذكرة تطالب بإطلاق سراح المعتقلين فورا ثم مظاهرة يوم الثلاثاء التي ضمت ألفي شخص من المكنين و قصر هلال لتسليم عريضة ثانية ثم تفحصنا ما جرى يوم الأربعاء و هو يوم السوق الأسبوعية بالمكنين. مع العلم أن سوق المكنين تمثل أكبر سوق أسبوعية بالساحل تتجمع فيها آلاف الخلائق. لذلك اختيرت من طرف منظمي المظاهرة. فهناك كانت السلطة وهناك كانت وسيلة الضغط عليها.
درسنا ما جرى ولم نر لمحمد بوزويته غير دور واحد يتمثل في محاولة التهدئة بعد اشتباك الأمور.
قال محمد الطاهر عقير إن محمد بوزويته التقى يوم 3 سبتمبر 1934 بمحمد زخامة وهو أحد القادة الدستوريين بالمكنين وكان يعمل آنذاك معلما بمدرسة "الهلال" بقصر هلال. ولا شك أن اجتماع الرجلين كان يهدف إلى تنسيق العمل المحلي فماذا تقرر؟ لا ندري.
ما نعلمه على وجه اليقين هو ما جرى:
جاء في كتاب أصدره الحزب الحر الدستوري أن الشعبة المحلية بالمكنين كانت عازمة على المحافظة على الهدوء وأن قدوم 400 شخص من قصر هلال رافعين الأعلام غير المعطيات فاضطر عبد الكريم الواد – رئيس الشعبة الجديدة بالمكنين – إلى تسليم عريضة إلى الكاهية . ثم كان الاشتباك مع الشرطة وكان سقوط القتلى والجرحى مما يضيق عن تفصيله هذا المجال .
أما بوزويته فقد شوهد وهو يسعى إلى تهدئة الوضع وقد ذكر أحد الشهود أثناء محاكمة الموقوفين يوم 18 ماي 1937 أنه رأى محمد بوزويته يدخل الكهاية ثم يخرج ويقول للمتظاهرين: اذهبوا .
وقد أدلى بوزويته صحبة رفيقه بالشعبة محمد بن علي ابراهم بحديث إلى جريدة الوزير يوم أول جويلية 1937 حملا فيه مسؤولية الأحداث لخليفة المكنين محمد الحداد الذي استفز الجماهير.
فمن الواضح أن بوزويته لم يكن يتوقع أن يتحول تجمع الاحتجاج السلمي إلى اصطدام تسيل فيه الدماء.
لكن ذلك الموقف وإن تسبب في عدم إيقافه الفوري فإنه لم يحل دون وضعه تحت المراقبة. فاضطر إلى التخفي. قال لنا الطاهر بن عبد القادر بوزويته الذي كان وما يزال يملك نزلا شعبيا بالعاصمة إنه تخفى بدار الرصاع بنهج الوصفان وقال غيره إنه تخفى بحي ترنجة بالعاصمة. وراحت السلطة تبحث عنه ضمن القوافل المتوجهة إلى طرابلس بعد أن صدر قرار باعتقاله .
ويستوقفنا هنا بلاغ نشره محمد بوزويته بجريدة "الوزير" يوم 15 نوفمير 1934- وهو في مخبئه – يتبرأ فيه مما يمكن أن ينسبه إليه الناصر الشملي إمام الجامع الكبير وعلي بن العامري الكعلي وكيل الأوقاف بقصر هلال وهو بلاغ يحملنا على التساؤل عما يمكن أن ينسبه إليه الرجلان !
ولم يغادر محمد بوزويته مخبأه إلا يوم 28 ديسمبر 1934 ليشرف على انتخاب هيئة شعبة المكنين بعد وفاة عبد الكريم الواد وهو انتخاب علقت عليه شرطة المكنين زاعمة أن الهيئة الجديدة يرأسها العجمي سليم ويسيرها بوزويته الذي سمي رئيسا جهويا .
وأعتقل بوزويته يوم 15 جانفي 1935 أي بعد أسبوع واحد وأودع سجن سوسة بدون محاكمة وقد طلب وكيله السراح المؤقت فلم تكتف محكمة سوسة بالرفض يوم 22 فيفري 1935 بل "قررت زيادة سجنه على ذمة التحقيق شهرين آخرين" .
وفي اليوم الذي أبلغت فيه جريدة الوزير عن اعتقال بوزويته - أي يوم 17 جانفي 1935- أبلغت جريدة "الزهرة" عن إقتبال المقيم العام لوفود من أعيان المملكة جاءت تقدم "شواهد الإخلاص" ولاحظنا من بينهم الصادق الديماسي رئيس أول شعبة دستورية بقصر هلال ورفيق بوزويته بهيئتها. فيا لسخرية الزمان !
وبالسجن تلقى محمد بوزويته يوم 3 مارس 1935 بطاقة بريدية من الحبيب بورقيبة المبعد ببرج القصيرة (الاسم الأصلي لبرج البوف) أجاب عنها برسالة مؤرخة في 4 مارس 1935 بها تعبير عن الود والإخلاص (أنظر نص الرسالة بالمحلق عدد 7).
ونحن نشتم من تاريخ البطاقة رائحة التذكير بمؤتمر 2 مارس 1934. فهو تلميح لسنا ندري إن كانت إدارة السجن قد أدركته.
وقضى بوزويته سبعين يوما بالسجن بدون محاكمة وبدون تهمة محددة ثم أطلق سراحه بمناسبة عيد الأضحى يوم 14 مارس 1934 بشرط أن لا يذهب إلى قصر هلال. لكنه ذهب إليها فقضى بها ساعة ثم عاد إلى سوسة.
ويوم 18 مارس ذهب إلى العاصمة بدعوة من إدارة الحزب ثم عاد يوم 19 مارس إلى قصر هلال حيث زاره الكثيرون- ولسنا ندري إن كان يعلم أنه محل مراقبة تحصي عليه خطواته .
وقد كان لإطلاق سراحه على رجال السلطة وقع الصاعقة
فقال خليفة المكنين يوم 20 مارس 1935 إن بوزويته وراء كل المظاهرات بكهاية المكنين وأنه لا يملك شيئا يخشى عليه وأنه رجل أمي يعيش للحزب وبالحزب وإن إطلاق سراحه سوف يعيد اللحمة الدستورية التي انحلت منذ اعتقاله وطالب بإبعاد بوزويته عن المنطقة كي يعود إليها الهدوء.
وعدد رئيس شرطة المكنين يوم 20 مارس 1935 مخالفات بوزويته وطالب بإبعاده .
واحتج مراقب سوسة المدني يوم 22 مارس 1935 على إطلاق سراح بوزويته "القائد الدستوري الخطر على الأمن العمومي" وقال إن بوزويته أفسد كل أعمال التهدئة التي قامت بها السلطة في زمن قصير وطالب بمزيد التنسيق بين الإدارة والسلطة القضائية وساند مطلب الإبعاد .
وبينما كانت مصالح الشرطة بالعاصمة يوم 14 أفريل 1935 ترجح أن بوزويته غادر العاصمة اتقاء للمشاكل (pour éviter des histoires) كان الرجل يوم 15 أفريل 1935 بمكتب الحبيب بورقيبة المبعد لحضور اجتماع كان من المزمع انعقاده غير أنه تأجل لحضور ستة فقط من أعضاء المجلس الملّي العشرين فقد نجح الرجل في مراوغة المراقبة المسلطة عليه.
وغداة ذلك اليوم -16 أفريل 1935 قام محمود الماطري بتحرير رسالة إلى الجنرال أزان Azan قائد قوات الاحتلال بتونس أمضاها المبعدون الستة عشر بعد التهديد الذي تلقوه يوم 10 أفريل 1935. وهي رسالة كتب عنها الجنرال أزان إلى قائد الجيوش الفرنسية: "وضعت بين يدي السيد بيروطون (المقيم العام) مطلب الخضوع الذي أرسله المبعدون كسلاح. وهي وإن أنقصت من قدرهم في نظر أتباعهم فإنه يجب أن لا تعتبر صادقة" .
فمن الواضح أن الغاية الأولى من دفع المبعدين إلى الاستعطاف كانت إحداث الشقوق بالواجهة الوطنية. وقد حصل ذلك فعلا سواء بين المبعدين أنفسهم أو بينهم وبين الجمهور المتعلق بهم. وقد بقي الحبيب بورقيبة يردد في أكثر من مناسبة أنه أرغم على الإمضاء تحت ضغط رفاقه .
وأما محمد بوزويته فقد واصل تحركه حتى أصاب سلطة الحماية ما يشبه الهوس إذ راحت تراه في كل مكان. فراحت تنسب كل تحرك وطني أو "حرارة سياسية" بالعاصمة إلى وجود أمثال محمد بوزويته بها .
وقد أعطت جهود السلطة المحلية والجهوية ثمارها فأنتجت يوم 17 نوفمبر 1935 قرارا من المقيم العام بإبعاد محمد بوزويته (تاجر وصباغ عمره 57 عاما) إلى التراب العسكري وهو قرار كان اتخذه منذ يوم 3 نوفمبر 1935.
فأعتقل يوم 19 نوفمبر 1935 وأخذ إلى مدينة سوسة حيث امتطى القطار صحبة عونين من الشرطة إلى مدينة قابس .
فوصل إلى برج القصيرة (البوف) يوم 20 نوفمبر. وهناك أصيب بصدمة موجعة حين أطلعه الحبيب بورقيبة عن طريق وريقة مدسوسة بموقد بترولي للطبخ على الرسالة التي أمضاها المبعدون يوم 16 أفريل 1935 وأعتبر بوزويته ذلك الإمضاء خيانة .
وقد علقت شرطة سوسة يوم 28 نوفمبر 1935 على ذلك الإبعاد فكتبت أن الجزء السليم (Sain) من السكان تقبله بارتياح وأن الدستوريين كفوا عن الدعاية ولجئوا إلى الهدوء وقد رأينا أن الجزء المنعوت بالسليم كانت تمثله الماشطة رقية التي راحت تغني:
تهنى يا رقية ولا تخاف بوزويته في برج الباف
وبعد مرور عام كامل على إمضاء مطلب الاستعطاف أي يوم 22 أفريل 1936 أصدر المقيم العام بلاغا جاء فيه: "...بمقتضى تغيير صادر عن حسن الالتفات في القرارات الصادرة ضدّ محمود الماطري والحبيب بورقيبة والطاهر صفر والبحري قيقة وصالح بن يوسف ومحي الدين القليبي ومحمد بوزويته ومحمد بن علي إبراهم فإن هؤلاء يرخص لهم الرجوع للتراب المدني، ولكن يجب عليهم أن يقيموا وقتيا في تراب المراقبات المدنية التي ستعيّن لهم (جربة أو قابس) حتى تتحقق استعداداتهم السلمية واحترام العهود التي التزم البعض منهم سابقا في هذا الشأن".
يوم 23 أفريل 1936 ركب محمد بوزويته حافلة من برج القصيرة على الساعة الثانية بعد الظهر مصحوبا بالحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف والطاهر صفر ليحملوا إلى الجرف ثم إلى أجيم بجربة بينما حمل الآخرون أي محمد إبراهم ومحمود الماطري والبحري قيقة ومحي الدين القليبي إلى قابس. وقد أقام محمد بوزويته مع الطاهر صفر بزاوية سيدي عبد القادر في حومة السوق بجربة .
ويوم 13 ماي 1936 أجرى المقيم العام قيون Guillon محادثات منفصلة مع المجموعتين بقابس ثم جربة .
حتى صدر يوم 22 ماي 1936 قرار من الإقامة العامة بالسماح للمبعدين الثمانية بالعودة إلى ديارهم فغادر محمد بوزويته جزيرة جربة على الساعة السابعة صباحا من يوم 23 ما ي 1936 للإقامة بقصر هلال. وكذلك فعل محمد إبراهم . وعند وصوله إلى منزله وجد له ابنة ولدت يوم 15 جانفي 1936 فسماها حبيبة وتدل هذه التسمية على أن الرجل لم يكن يحمل حقدا على الحبيب بورقيبة !
وبينما كانت الوفود تتهاطل على المنستير بمناسبة عودة الحبيب بورقيبة إليها لاحظت شرطة المنستير يوم 3 جوان 1936 غياب محمد بوزويته .
ثم أبلغت شرطة المنستير يوم 4 جوان 1936 عن اتصالات مكثفة ووساطات بين محمد بوزويته والحبيب بورقيبة قام بها الشاذلي قلالة وسالم بشير وعبد السلام عقير والطاهر صفر بينما راح بوزويته يأمر أصحاب المقاهي بقصر هلال بالرفع في ثمن المشروبات ودفع الإضافة لصندوق الحزب .
وتحدثت شرطة المكنين يوم 14 جويلية 1936 عن أموال جمعها محمد بوزويته بواسطة مقتطعات ذات فرنك واحد وزع منها مائة فرنك على الفقراء ثم قصد العاصمة صحبة أحمد عياد، ويوم 27 جويلية عاد أحمد عياد بمفرده، وتدل هذه المراسلة على المراقبة اللصيقة التي كان يتعرض لها الرجلان .
يوم 20 أوت 1936 انتظمت بقصر هلال مظاهرة قام بها النساجون الغاضبون من مماطلة الإدارة بشان قروض وعدوا بها ثم احتجزوا خليفة المكنين ورئيس شرطة المنستير اللذين كانا بقصر هلال ولم يقع الإفراج عنهما إلا بتدخل من محمد بوزويته الذي كان عائدا من جمال حسب قوله. وقد شكك التقرير الأمني الذي حرره الشرطي نفسه ذلك اليوم في قول بوزويته ورجح أن تكون المظاهرة بإيعاز منه .
يوم 13 سبتمبر 1936 حضر محمد بوزويته اجتماعا عاما بالمنستير لاحظت شرطة المكنين حلوله بها صحبة الحبيب بورقيبة وابنه وعقيلته. استهل بوزويته الاجتماع بخطاب نوه فيه ببورقيبة. وأضافت شرطة المنستير أن نشيدا تلاه بعض أهالي قصر هلال . قالت جريدة النهضة إنه شعر ملحون ألفته امرأة من قصر هلال تحدثت فيه عن آلام المبعدين ببرج البوف وسكان قصر هلال حين أقام بها الفيلق الخامس السينيغالي من جهة أخرى . قالت مجلة "المؤتمر إنها فائزة الحمامي . وقال محمد علي بلحولة إنها فائزة بنت الحساني ، ومطلع ذلك القصيد:
الله ينصرك يا حبيب يا بورقيبة إن شاء الله في المنفى ما تطول غيبة
والنشيد كما ذكر لنا الفقيد محمد (حمدة) رضوان من تأليف الحاج بشير بن عبد الله بن أحمد الحمروني بوزقرة الذي كان معلما وتوفي سنة 1952 ولعل حضور بوزويته في ذلك الاجتماع كان نتيجة للمساعي التوفيقية التي بذلت فقد سعى الشاذلي قلالة إلى إصلاح ذات البين فجمعهما بالمنستير .
يوم 14 سبتمبر 1936 عقد الحبيب بورقيبة اجتماعا عاما بقصر هلال فاغتنمت شرطة المكنين الفرصة لتصب على بوزويته في اليوم نفسه جام غضبها. فهو لديها شيطان المنطقة le mauvais génie de la région يدعو الناس إلى الثورة ويفرض على الموظفين آداءات حزبية بشكل إرهابي . أما شرطة المنستير فقد ذكرت أن بورقيبة حل بقصر هلال صحبة بوزويته وأحمد عياد وأنهم زاروا مدرسة "الهلال" وأن طعام الغداء كان بدار عياد صحبة عشرين شخصا .
وغداة ذلك اليوم أي 15 سبتمبر 1936 عقد الحبيب بورقيبة اجتماعا عاما بالمكنين ألقى فيه محمد بوزويته خطابا وحاول أثناءه بورقيبة الإصلاح بين امحمد بعيزيق ومحمد زخامة بدون جدوى لكن جلسة أخرى انعقدت يوم 2 أكتوبر 1936 شاركت فيها وجوه دستورية من المكنين وقصر هلال نجحت في ما أخفق فيه بورقيبة. وقد شارك في رأب الصدع محمد بوزويته ومحمد إبراهم واحمد بورخيص والحاج محمد ساسي .
وانتظم بقصر هلال يوم 9 أكتوبر 1936 اجتماع عام بمناسبة جولة قام بها الداعية الديني عبد العزيز الباوندي بالمنطقة فألقى عليه محمد بوزويته أمام مرأى ومسمع من الجميع السؤال التالي:"هل يجوز لإمام الجامع أن يقبل يد المراقب المدني الفرنسي" ؟ وقد أجاب الداعية بالنفي. كما سأله: "هل تصلح الصلاة بإمامة الخونة الذين يتجسسون على المصلين و يوشون بهم لدى الحكومة؟ وأجاب الداعية باحتراز بأنه يجب التثبت من ذلك .
يوم 13 أكتوبر 1936 انعقد اجتماع عام ببنان حضره محمد بوزويته وصرح الحبيب بورقيبة بأن المقيم العام أبلغه أن محمد بوزويته هتف أثناء ذلك الاجتماع : "يعيش هتلر و"تسقط فرنسا" وأن البحث نفى الجزء الأول واثبت الجزء الثاني. وأضاف بورقيبة أن ذلك "من رابع المستحيلات لأنه يعرف الرجل معرفة جيدة ولا يمكن أن يصدر ذلك منه" .
وقد نشر محمد بوزويته يوم 29 أكتوبر 1936 مقالا طويلا يفند فيه التهمة وينكر أن يكون قد تفوه بعبارة "تسقط فرنسا" ويستشهد بمحمود بورقيبة الذي كان حاضرا معه في اجتماع بنان ويهاجم مصادر الشائعات الخبيثة . صحيح أن المقيم العام تلقى من المراقب المدني بسوسة تقريرا مؤرخا في 13 أكتوبر يدعي فيه أن محمد بن الدهماني زخامة رئيس شعبة بنان -وهو غير محمد زخامة المكني- قال: " تسقط فرنسا" وأن محمد بوزويته كررها بصوت منخفض. هكذا قال المراقب المدني .
ليس غريبا إذن أن يثير ذلك غضب المقيم العام لكن ما يستوجب التعليق هو: لماذا نشر الحبيب بورقيبة الخبر على أعمدة الصحف بينما يتعلق الأمر بشخص محمد بوزويته؟ ما دور وسائل الإعلام في ذلك؟ أما كان أقرب إلى الصواب نقل الأمر إلى بوزويته مباشرة؟ ماذا كان يقصد من وراء نشر ذلك الخبر؟ أسئلة تحملنا على الاعتقاد بأن الحبيب بورقيبة كان يبحث عن "الشعرة في العجين" لجعل بوزويته مدينا له بشيء ما ولو كانت تهمة باطلة. لكن بوزويته ردّ. وردّ بقوة. وندرك من هذا أن التصالح لم يكن إلا ظاهريا.
يوم 12 نوفمبر 1936 نشرت جريدة "النهضة" بلاغا يعلن عن تأسيس "نقابة قلفات (عملة) النسخ اليدوي" برئاسة محمد بن إبراهيم حريق (بن الحاج خليفة) و ذكرت تركيبة الهيئة بكاملها وهي لا تضم محمد بوزويته ولا أحدا من هيئة الشعبة الدستورية غير أن ما لفت نظرنا هو جملة ختم بها البلاغ جاء فيها: "يتقدم مجلس الإدارة إلى الشيخ بوزويته بالشكر الجزيل حيث أنه أجهد نفسه في إفهام الناس منافع النقابات" وهي شهادة تحمل في طياتها اعترافا بالدور الذي تقوم به التنظيمات المهنية في البناء الاجتماعي من جهة ودور بوزويته في إرساء دعائمها من جهة أخرى.
كما أبلغت جريدة النهضة يوم 27 نوفمبر 1936 عن عقد الشعبة الدستورية بقصر هلال اجتماعا برئاسة محمد بوزويته لدرس ميزانية سنة 1937 وأصدرت بيانا يطالب:
1- بإلغاء الثلث الاستعماري الذي يقصد منه التشجيع على الاستيطان
2- بتوفير القروض التجارية و الصناعية
3- بتوفير ميزان التعليم
4- بإعطاء التونسيين ضمانات تشريعية ودستورية
وقد لاحظنا أن البلاغ كان بإمضاء محمد بوزويته وهي إحدى المرات القلائل- إن لم تكن الوحيدة- التي يمضي فيها نصا صادرا عن هيئة الشعبة. وهذا ما يؤكد زعمنا بأن بوزويته قد سحب من أحمد ساسي إمكانية النطق باسمه وبالإضافة إلى ذلك فإن إشرافه ذلك اليوم على اجتماع الهيئة كان- على حد علمنا- الأخير. فماذا حدث أثناء تلك الجلسة؟ يقيننا أن شرخا داخليا حدث بها. فقد أضرب محمد بوزويته عن حضور اجتماعات الهيئة بعد ذلك اليوم.
الانسحاب
فقد أشرف نائبه فرج بن خليفة الإميم على اجتماع الهيئة يوم 15 ديسمبر 1936 .
وحضر اجتماعا عقدته هيئة الشعبة الدستورية بمدينة مساكن بدكان الخياط صالح بن سيك علي بمساكن يوم 22 جانفي 1937 حسب تقرير لشرطة سوسة المؤرخ في 4 فيفري 1937 .
لم يحضر الاجتماع الدستوري الكبير بساحة قمبطا بارك يوم 31 جانفي 1937 بالعاصمة بينما حضره محمد ابراهم الكاتب العام للشعبة .
قام حسب إعلام مؤرخ في 3 فيفري 1937 صحبة احمد عياد واحمد بورخيص – أمين مال الشعبة- بتوزيع ثياب للمعوزين بمنطقة جلاص .
بقي هوس محمد بوزويته يخامر شرطة المكنين فكتبت يوم 5 فيفري 1937 في نطاق تهجمها على امحمد بعيزيق من المكنين أن هذا الرجل جرأته متصاعدة إذ هو يقلد محمد بوزويته الهلالي Il singe Mohamed Bouzouita de Ksar. Hellal. .
تولى نائبه بالشعبة فرج الإميم يوم 27 مارس 1937 إبلاغ احتجاج الشعبة على حوادث المتلوي والمضيلة وأم العرايس كما تولى في غياب بوزويته الإشراف على اجتماع تأسيسي للشبيبة الدستورية يوم 28 مارس 1937.
وبقيت ظلال حوادث سبتمبر 1934 تلاحق محمد بوزويته. فقد عبر عميد المحامين de keyser أثناء دفاعه عن ثمانية من المتهمين يوم 18 ماي 1937 عن استغرابه لعدم وجود محمد بوزويته بقفص الاتهام بينما هو المتسبب فيما حدث L’instigateur .
وحضر يوم 25 ماي 1937 صحبة الحبيب بورقيبة والحبيب بوقطفة حفلا لافتتاح مدرسة قرآنية بمدينة القيروان. هل كان اللقاء صدفة؟ .
غاب عن الاجتماع الدستوري الذي نظمته شعبة قصر هلال يوم 8 جويلية 1937 احتفاء بعودة عبد العزيز الثعالبي في اليوم نفسه .
وأبلغت شرطة المكنين عن زيارة أداها وفد دستوري برئاسة محمد ابراهم إلى المنستير يوم 24 جويلية 1937 لمقابلة الحبيب بورقيبة وأنه لم يتمكن من ذلك لوجود بورقيبة بسوسة ولاشك أن لتلك الزيارة هدفين: مساندة بورقيبة من جهة وعرض الوضع الشاذ الذي كانت تعيشه الشعبة آنذاك من جهة أخرى وخاصة بعد عودة الثعالبي وهي العودة التي كان يرى فيها بوزويته فرصة لإعادة اللحمة إلى الدستوريين.
وواصل محمد بوزويته مقاطعته لأعمال الشعبة فلم يمض باللائحة التي حررتها هيئة الشعبة بقصر هلال يوم 5 أوت 1937 لمساندة الحبيب بورقيبة أثناء تعرضه لتتبع عدلي من أجل "ثلب الجيش" ولا ببرقية التضامن مع الشعب الفلسطيني التي نشرت يوم 9 أوت 1937.
ثم انعقد اجتماع عام يوم 10 أوت 1937 حضره 800 شخص -حسب تقدير المراقب المدني بسوسة- واشرف عليه الهادي نويرة نيابة عن الحبيب بورقيبة. قال التقرير الأمني إن الغاية من الاجتماع كانت إصلاح الخلاف بين محمد بوزويته وزميله بالشعبة محمد ابراهم وأن التهريج حال دون أن يسمع كل طرف صوته وأن بوزويته اضطر إلى الانسحاب. وانفض الاجتماع عند منتصف الليل بدون أن يسفر عن نتيجة. وقد حضر رؤساء شعب صيادة ولمطة وبنان وبوحجر وهو حضور يكشف تأثر المنطقة بكل تصدع يحدث في الجبهة الهلالية.
وقد كان ذلك الاجتماع فرصة أقنعت القيادة الحزبية أن وضع الشعبة بقصر هلال لا يمكن أن يدوم بعد أن أصبحت الهيئة عمليا بلا رئيس. وتقرر اثر ذلك إجراء انتخابات لتجديدها.
وقد كان يوم تجديد هيئة الشعبة بقصر هلال- الأحد 29 أوت 1937 شبيها بمؤتمر 2 مارس 1934 أو هكذا أراده المنظمون نقل فعالياته محمد الحبيب بوقطفة الذي لاحظ حضور الدستوريين من "جميع الجهات" كالمكنين والمنستير وطبلبة وصفاقس وبنزرت ولمطة وطوزة وبوحجر ومعتمر وسيدي عمر بوحجلة وبومرداس وغيرها .
قالت شرطة المكنين يوم 31 أوت 1937 إن الهدف الأول من الاجتماع كان عقد المصالحة بين "أنصار الحزبين" وأن الانتخاب جرى من طرف 350 منخرطا وأن الحبيب بورقيبة دعا إلى الوحدة و الهدوء وطاف بطربوش ملأه الدستوريون نقودا.
ودعي الزائرون إلى طعام العشاء واسفرت الانتخابات عن تولي فرج بن خليفة الاميم رئاسة الشعبة خلفا لمحمد بوزويته.
وكان أول بلاغ أصدرته الهيئة الجديدة يوم 12 سبتمبر 1937 يتضمن معارضة شديدة "لإنشاء قيادة حزبية موحدة مكونة من الديوان السياسي (الحزب الجديد) واللجنة التنفيذية" (الحزب القديم) وهو الاقتراح الذي كان تقدم به عبد العزيز الثعالبي.
وقد حمل البلاغ إمضاء فرج الاميم و محمد ابراهم .
وإنا نستشف من هذا أن موقف بوزويته كان مساندا لما رفضته الشعبة بهيئتها الجديدة وأن الرفض كان موجها إليه بقدر ما كان موجها إلى العموم.
ولم يمض شهر على انسحابه الرسمي من هيئة الشعبة حتى بدأت "تصفية الحسابات" إذ حاول منصور بن صالح الجبالي الملقب "بزميط" يوم 24 سبتمبر 1937 الاعتداء عليه فأصابه بجرح وقد خلصه الناس وراموا الاقتصاص من الجاني الذي كان يحمل خنجرا لكن بوزويته حال دون ذلك. وقد نقل الخبر الوجه الدستوري المعروف والعدل بالمكنين امحمد بعيزيق الذي دعا الدستوريين بقصر هلال إلى "تطهير حركتهم من عناصر الفساد .
وقد رد منصور الجبالي بأن أنصار بوزويته هم الذين اعتدوا عليه وجاءوا بالخنجر قصد توريطه .
وعلقت جريدة La charte Tunisienne الناطقة باسم اللجنة التنفيذية يوم 02 أكتوبر 1937 بأن "قصر هلال- مهد الدستور الجديد- تسودها طعنات الخناجر".
وما يمكن ذكره هنا أن منصور الجبالي- سواء كان معتديا أو معتدى عليه- لم يعرف في الأوساط الدستورية ولن تتعجب إن علمنا أنه كان "مكلفا". وعلى كل حال فإن الحادث يثبت أن القضية لم تعد شخصية بقدر ما هي قضية اختلاف في الرأي. وسوف توضح الأحداث ذلك.
لا نشك في أن المؤتمر الثاني للحزب الدستوري الجديد المنعقد أيام 30 و 31 أكتوبر و1 و2 نوفمبر 1937 كان له دور كبير في تعميق الخلاف بين الجماعة الجديدة بشعبة قصر هلال وجماعة محمد بوزويته من جهة كما كان له دور في ترجيح الكفة لفائدة الجيل الجديد. ولقد كان لانتخاب رجلين من الشعبة بالمجلس الملّي للحزب وهما فرج بن خليفة الاميم ومحمد بن علي ابراهم وقع معنوي هام عمل على تهدئة بعض الغاضبين من إزاحة محمد بوزويته من المجلس الملي السابق. وإنا لنلمس في ذلك رغبة بورقيبة وجماعته في ترميم ما حصل من العطب.
فقد نشرت جريدة "الإرادة" يوم 26 نوفمبر 1937 عريضة في شكل رسالة موجهة إلى عبد العزيز الثعالبي أمضى بها 421 شخصا من قصر هلال بها تأييد لمساعيه التوفيقية وختمت به "و آخر كلمة هي الاتحاد الاتحاد الوفاق الوفاق" (انظر نص العريضة بالملحق).
وقد جعلت جريدة "الإرادة" لهذه العريضة الداعية إلى الوفاق عنوانا مغايرا لمحتواها فإذا هي "تأييد واستنكار وتبري قصر هلال" وورد بالصفحة نفسها من الجريدة تأييد واضح من المنستير "للزعيم الأوحد" عبد العزيز الثعالبي "ورفاقه المحترمين".
جاء في تقرير أمني مؤرخ في 08 ديسمبر 1937 أن الحبيب بورقيبة قدم إلى قصر هلال يوم 6 ديسمبر 1937 صحبة أخيه محمود والشاذلي قلالة لملاقاة محمد بوزويته لكنه استقبل بهتاف "يحي الثعالبي" وقذفت حجارة على سيارته حتى تدخل بوزويته لتهدئة الوضع .
ثم انعقد اجتماع طلب بوزويته أثناءه إنشاء لجنة بحث حزبية لتقديم ما أعوج وتوحيد الصف .
ومما يجدر التوقف عنده هو أن بورقيبة اعتمد -مرة أخرى- على طريقة التشهير العلني للإطاحة بخصمه. والشارع -كما نعلم- غير قادر على تمييز المواقف بتفاصيلها. كان بوزويته ينظر إلى ما يوحد الصفوف وكان بورقيبه يسعى إلى إبراز ما يفرق المواقف قصد إقصاء ما لا يروقه منها.
وإذا كتبت جريدة العمل يوم 16 ديسمبر بأن بوزويته "تبرأ من الرسالة التي نشرت بجريدة القدماء "فانه كان كلاما من عندها يقصد به نزع المصداقية عن الرجل. فالممضون على العريضة يعرفون أن وراءها بوزويته وهو بالتالي لا يمكن أن "يتبرأ" منها. و الحقيقة هي أن بوزويته كان يتبرأ من المقاصد التي نسبت إلى تلك العريضة ولا من العريضة نفسها. تلك العريضة تلاعب بها الطرفان. فهي لدى القدماء تأييد لهم وهي لدى الجدد نشاز يجب ردعه.
وقد شهدت الساحة الداخلية بقصر هلال انشقاقا واضحا يختلف حدة باختلاف أطرافه. فقد عثرنا بدفتر يضم محاضر الجلسات لجمعية "هلال الساحل" التمثيلية بقصر هلال على ملاحظة سجلت يوم 10 ديسمبر 1937 بها اتفاق على عدم الخوض في الخلاف الناشب بين الطرفين.
كما اشتكى محمد صالح بن سالم قفصية من "أوباش الديوان السياسي" بقصر هلال الذين افتكوا من دكانه جريدة "الإرادة" المعروضة للبيع و مزقوها .
واغتنم المراقب المدني بسوسة ذلك الوضع ليتحدث يوم 18 ديسمبر 1937 عن شعبتين بقصر هلال: إحداهما قديمة تضم 50 منخرطا ورئيسها محمد بوزويته "الذي سجن مؤخرا لمشادة مع الجدد" والثانية جديدة يرأسها فرج الإميم تضم 1500 منخرط .
وإذا كنا ننفي بلوغ الخلاف درجة إحداث شعبة ثانية فإننا لا نملك ما يفيد اعتقال محمد بوزويته ولا الطرف الثاني المشارك في المشادة المشار إليها ولعله عبد الله بن علي بايع رأسه الذي ذكرت جريدة "الإرادة" عداءه لبوزويته .
ثم جاء يوم 19 ديسمبر 1937 ليعلن عن بداية النهاية:
كان محمد بوزويته قد طلب يوم 6 من الشهر نفسه – كما رأينا – إجراءات بحث لدرس ملابسات العريضة الداعية إلى توحيد الكلمة فاستجيب إلى طلبه وجاء الهادي شاكر والبشير بن فضل عضوا المجلس الملّي إلى قصر هلال حيث اجتمعا بالناس وسمعا ما لم يكونا يرغبان في سماعه. قال لهما إن بورقيبة يظهر غير ما يظهر وأنه يتآمر على رفاقه بالديوان السياسي ويحتقرهم ويبدي أمام الجمهور سياسة المعارضة وأمام السلطة سياسة المشاركة.
دعاه الرجلان إلى حضور اجتماع للمجلس الملي فأجاب: لقد انعقد المجلس سابقا بدون أن تقع دعوتي فما حاجتكم إلى حضوري؟ وقال عن العريضة الزوبعة أنه "أمضاها دستوريون مخلصون دفعهم لكتابتها حبهم لاتحاد صفوف الأمة "وتحدث الناس إلى الرجلين عن ضحايا أحداث سبتمبر 1934 وعما قاسته قصر هلال عند احتلالها من طرف الجيش وعن النتيجة المتمثلة في وثيقة الاستسلام التي أمضاها المبعدون.
وعاد الباحثان إلى العاصمة وتألف مجلس تأديب وصدر الحكم ونشر بجريدتي العمل والإرادة... كل ذلك في عشرة أيام !
وهي سرعة قياسية تدل على أن العملية كانت شكلية تهدف إلى التخلص من عبء بوزويته الثقيل.
وصدر الحكم بالنص التالي:
"بعد تشكيل مجلس الحكم وانتصابها (كذا) إثر ما قرره المجلس الملّي في قضية الدستوري محمد بوزويته من سكان قصر هلال وبعد الاطلاع على قرار لجنة البحث والمداولة فيه اصدرت (كذا) مجلس التحكيم بما (كذا) يأتي:
"حيث نسبت إلى الدستوري محمد بوزويته الهلالي عدة تهم من فريق من بلاده وحيث وقع تشكيل لجنة بحث متركبة من السيدين الهادي شاكر والحاج البشير بن فضل لاستقصاء هاته التهم والبحث فيها وتلقي الشهادات التي من شانها تأييد التهم أو تفنيدها".
"وحيث جاء بتقرير اللجنة المشار إليها ثبوت ارتكابه لما من شأنه أن يلحق الضرر بالحزب".
"وحيث وقع استدعاء المتهم لدى المجلس الملي ولم يحضر".
"حكم المجلس المتركب من رئيسه الأستاذ الطاهر صفر وأعضائه الأستاذ البحري قيقة والأستاذ الطاهر دبية والسادة علي درغوث والطاهر دعيب ويوسف الرويسي غيابيا بتوجيه اللوم والتعنيف إلى المتهم طبق الفصل 42 والفقرة الثانية من فصل 43 من القانون الداخلي للحزب نظرا لكبر سنه وسابق خدماته".
(الإمضاءات 6)
وإذا أشار الدكتور الهادي التيمومي إلى أن أول حزب سياسي تونسي استعمل سلاح التكفير (الطاهر الحداد) ولجأ إلى حجة القوة لا قوة الحجة فإن قضية بوزويته تقوم دليلا إضافيا لعهد الدستور الجديد. (http://www.tunisia-cafe.com/vb/showthread.php?t=6735) وهو إقصاء شبيه بإقصاء البحري قيقة من اللجنة التنفيذية في نوفمبر 1933.
يتبع منتديات تونيزيا كافيه
http://img691.imageshack.us/img691/3259/image12mi.jpg (http://www.tunisia-cafe.com)
المناضل القدير محمد بن عمر بوزويتة رائد النضال الوطني بقصرهلال والوطن بقلم الحبيب ابراهم
إهداء إلى روح المرحوم المناضل الشريف الهلالي محمد بوزويتة الذي الذي ناضل من اجل استقلال تونس .
كنت أود أن يخرج هذا العمل – على تواضعه - إلى الوجود يوم 20 مارس 2006 بمناسبة الذكرى الخمسين لاستقلال البلاد التونسية الذي لم يكتب لمحمد بوزويته أن يرى فجره.
وعلى كل حال فإن نية الانجاز نشأت بالمناسبة نفسها "وإنما الأعمال بالنيات". طرحت الفكرة على السيد كمال بن الهادي الشرفي الكاتب العام للتجمع الدستوري الديمقراطي بقصر هلال يوم الأحد 5 مارس 2006 فقبلها بدون تردد وأضاف: افعل
وها أنا أفعل
فإليه أهدي هذا العمل ومن خلاله إلى روح رجل لولاه ما أشرق هلال قصر هلال ولولاه لكان للتاريخ منعرج آخر.
ومن الجحود أن يفوتني التنويه بما ساهم به صابر البنبلي في مستوى البحث والاتصال والتصوير.
الحبيب ابراهم
تبرير
جاء في قاموس "لسان العرب" لابن منظور أن الرائد هو الطالب ومن هذا المعنى جاءت الإرادة. وقد قصدنا هذا المعنى لأننا رأينا في مسيرة محمد بوزويته إرادة ما انفكت تطلب النهضة.
وجاء في القاموس الألفبائي التونسي أن الرائد هو الرسول الذي يرسله القوم ليختار لهم مكانا ينزلون فيه. وقد قصدنا هذا المعنى إذ رأينا في محمد بوزويته رسولا حدد لقصر هلال وأهلها حقلا من قطوفه العلم والحرية.
وجاء في المنجد الأبجدي أن رائد الضحى هو وقت ارتفاع الشمس وانبساط الضوء. وقد قصدنا هذا المعنى إذ رأينا في محمد بوزويته رائد الضحى في قصر هلال بعد أن كانت تعيش في ظل الزوايا.
وجاء في القاموس المحيط أن رائد الرحى هو يدها وأن رائد البكرة هو محورها وقد رأينا في محمد بوزويته اليد التي حركت قصر هلال في اتجاه النهضة وأنه جعل بكرة الحياة فيها تدور. لذلك كله جعلنا لكتابنا هذا العنوان : محمد بوزويته رائد النهضة بقصر هلال
توطئة
حالما أمسكت بالقلم لأشرع في الكتابة عن محمد بوزويته اعترضتني العقبة الكأداء الأولى: كيف أكتب؟
وهو سؤال لا يعترض من رام الحديث عن شاعر أو مؤرخ أو سياسي لأن الشخص المدروس يصطبغ إنتاجه بصبغة واحدة. كذلك الحديث عن لوحة ذات لون واحد. وكيف الحديث عن لوحة تعددت ألوانها وتشابكت خطوطها وتداخلت لمساتها حتى أصبح التعرض إلى بعضها تعسفا على بعضها الآخر ؟
كيف يمكن الحديث عن رجل تناولت تدخلاته كل مجالات الحياة أو أغلبها. ثم كيف يمكن تبويب تلك المجالات إذا كانت بطبيعتها متداخلة كالإصلاح الاجتماعي والنشاط السياسي مثلا ؟
فكرت في انتهاج طريقة التسلسل الزمني – الكرونولوجي حسب تعبير بعضهم – فوجدتني أتحدث عن "الديك طورا وعن الحمار طورا آخر" ثم قررت أن أمزج بين التبويب من جهة والترتيب الزمني من جهة ثانية ولو أدى ذلك إلى تذكير قد يرى فيه القارئ ضربا من التكرار.
محمد بوزويته نعتته جريدة "الإرادة" بأنه أب الحركة الوطنية بقصر هلال وقالت ذلك لأنها لم تكن تعرف دوره في مقاومة البدع ومكافحة الممارسات التي يفرضها رجال الطرق الصوفية على الناس في أفراحهم وأتراحهم ولا دوره في نشر التعليم أو حتى في العمل النقابي.
وكيف يمكن التعليق على لوحة ضمت كل هذه الألوان ؟
ولقد وجدنا الإجابة بتقارير السلطة الفرنسية وأعوانها: فهي قد تذمرت منها جميعا. لقد توحدت لديها كل الألوان فأصبح محمد بوزويته رمزا لها جميعا. تحسرت حين تأسست المدرسة القرآنية وساندت رجال الزوايا الذين استظلوا بظلها وتباكت على هوان أعوانها ثم صبت عليه جام غضبها حين راح يمس الأداءات ويطالب بالسيادة بشكل كان يشبه العصيان المدني. لذلك كله دعوت محمد بوزويته برائد النهضة بقصر هلال وسوف يرى القارئ أنه قد تجاوز حدودها.
من هو محمد بوزويته ؟
هو محمد بن عمر بن محمد بن الحاج أحمد بن علي بن حسن بوزويته ينتمي إلى شجرة آل بوزويته وهي إحدى أكبر الأشجار العائلية بقصر هلال وقد سميت باسمها إحدى المشيخات الأربع التي أحدثت بقصر هلال في القرن الثامن عشر باسم "مشيخة الزويتات" وبقيت تحمل ذلك الاسم حتى سنة 1900 حين أصبح تقسيم المشيخات تقسيما جغرافيا .. وقد تفرعت عن تلك الشجرة الأم عائلات : قرن وحسن والشنباح وزهرة.
كان جده محمد بن الحاج أحمد بوزويته ضابطا بجيش الباي (يوزباشي) وقد وقع تغريمه بمائة مطر من الزيت (حوالي 250 ديقة) سنة 1864 عقب ثورة علي بن غذاهم من طرف أحمد زروق.
لا نعرف عن أبيه –عمر- شيئا، فقد أنشئت دفاتر الحالة المدنية سنة 1909 بقانون صادر في 28 ديسمبر 1908 ولم نعثر فيها على أثر لوفاة عمر بوزويته الأب أو أمه خليفة بنت محمد برغل (بطيخ). فقد توفيا قبل ذلك التاريخ. وقد يفسر ذلك عدم دخوله المدرسة رغم أنه ينتمي إلى أسرة جل ذكورها متعلمون. فقد أضطر إلى خوض معترك الحياة مبكرا.
ويمثل تاريخ ولادته – هو الآخر- إشكالا، فالتاريخ المعتمد إلى حد اليوم هو 1884 استنادا إلى تصريح ابنه عمر عند تسجيل وفاته بدفتر الحالة المدنية سنة 1944 إذ صرح بأن عمره 60 عاما. وقد لاحظنا أن ذلك يختلف عما صرح به محمد بوزويته نفسه في مناسبتين أولاهما يوم 22 فيفري 1933 حين صرح بأن عمره 53 عاما وثانيتهما يوم 29 أفريل 1937 حين قال أمام عدلين بأن عمره 57 عاما وهما تصريحان يثبتان أن سنة الولادة كانت 1880 وهو التاريخ الذي نرجحه رغم أن وثيقة أخرى مؤرخة في 17 نوفمبر 1935 تفيد بأن عمره آنذاك 57 عاما.
لم يكتب لمحمد بوزويته أن يدخل المدرسة خاصة وأن أول مدرسة أنشئت بقصر هلال فتحت أبوابها سنة 1909 أي بعد أن بلغ من العمر 29 عاما. ولم يدخل حتى إحدى الكتاتيب. لكن هذه الحقيقة لها أهمية خاصة إذ هي تلقي على سعيه لاحقا لتأسيس المدرسة القرآنية ضوءا لم نكن نراه لو كان متعلما. فالرجل كان متشوقا إلى التعلم كما سنرى بل أنه راح يتعلم القراءة والكتابة بطريقة عصامية. وهذا ما لا يعرفه عنه الكثيرون. وإذا كنا اكتشفنا تحريره من خلال رسالة حررها سنة 1935 سوف نقرأ نصها لاحقا فقد اطلعنا كذلك على خطه من خلال وثيقة سوف نطلع عليها القارئ الكريم.
متى تعلم القراءة والكتابة ؟
لا ندري، فالرجل كان كتوما .. لكننا نعرف أنه كان -حسب التقارير الأمنية- يجتمع بمعلمي المدرسة القرآنية منذ افتتاحها سنة 1929. فهو إذن تعلم القراءة والكتابة بين سنتي 1929 و 1934.
لكن مراسلات الشعبة التي كان يرأسها والتي كانت تستوجب مقدرة أكبر كان يحررها أحمد بن محمد ساسي الذي لم يكن عضوا بهيئتها والذي كان يعمل تاجرا في المواد الغذائية ثم متوظفا بشركة السكك الحديدية. وقد أعطى لنفسه مرة صفة "مقرر الشعبة" واستمر في القيام بتلك المهمة إلى يوم 20 أوت 1933 حين وقعت رسالته إلى محي الدين القليبي بيد السلطة. ويبدو أنه تلقى تهديدا توقف بعده عن تلك المهمة.
واجهة الدكان الذي بدأ فيه بوزويته حياته نساجا (بنهج محمد بوزويته حاليا)
البيئة الاقتصادية والاجتماعية
لقد شهدت قصر هلال في نهاية القرن التاسع عشر تحولا كاملا في النشاط الاقتصادي لسكانها إذ كان لثورة علي بن غذاهم سنة 1864 التي ساهمت فيها مساهمة كبيرة وما تبعها من اضطهاد أتى على الأخضر واليابس -وقد رأينا ما حل بجد محمد بوزويته – دور في تحويل نشاطها من الفلاحة إلى الحياكة اعتمادا على مواد محلية أول الأمر ثم المواد المستوردة بعد ذلك كانت الحياكة حرفة تكميلية تمارسها النسوة بالمنازل فتحولت إلى حرفة أساسية تمارسها الأسرة بكافة أفرادها.
حدث ذلك في غضون أربعين عاما
وبدأ الحديث عن قصر هلال باعتبارها مركزا هاما للحياكة سنة 1905 حتى إذا جاءت سنة 1909 تحدثت التقارير عنها باعتبارها مركزا "هاما جدا" مما دعا إلى تعليم النسج بالمدرسة الفرنكوعربية سنة 1911.
ولاشك أن لذلك التحول أهمية بالغة : فحياة الفلاح مغايرة تماما لحياة "الحوكي". ذلك يعيش بين الأرض والسماء علاقته بهما حيوية في الرخاء والشدة وهذا يعيش بين الناس.
قيل أن الدارس الذي يغفل أن أنكلترا جزيرة لا سبيل إلى أن يفهم كيف يفكر الأنكليز. وقيل إن دارس القطر المصري يجب أن لا ينسى نهر النيل وكذلك نقول إن من تحدث عن قصر هلال يجب أن يضع الحياكة نصب عينيه. ونقول الحياكة ولا النسج أي الصناعة التقليدية. منها كانت بداية قصر هلال في العصر الحديث وبانقراضها اليوم تتعرض ملامح قصر هلال إلى الانقراض.
فقد سيطرت الحياكة على حياة الهلاليين سيطرة مطلقة منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى عاش منها وعاش بها وعاش لها تسعة أعشار السكان صبغت اقتصادهم ونشاطهم واهتمامهم وحتى لغتهم حتى نعت بعضهم قصر هلال بأنها "بلاد الخبابل" (الخبالة : كبة مشوشة من الخيط).
ومن خصائص الحياكة أنها حرفة مركبة تركيبا عضويا يجعل من عناصرها وحدة لا سبيل إلى تجزئتها بل أن انفصالها يجر موت كل عناصرها :
يشتري الحائك الخيوط المغزولة ومواد الصباغة من البائع الذي يجلبها من العاصمة بوسائله الخاصة.
يقوم الصباغ أو الزوجة بصبغها
تقوم النسوة بتنشيتها بالمنازل
يكون "التقنيط" و"التدوير" أي اللف على القصب (قنانط وجعاب) من طرف النسوة بالمنازل أو الصبية المترشحين للمهنة (صانع تدوير)
تحال كمية السدى (القيام) على المختص بالتسدية (سداي)
تحال المطواة المعمرة على المناولة لتثبيت المشط (الشفرة) والنير
تنصب المطواة الجاهزة في موضعها من طرف صاحب المحل أو معاونه
يقوم الحائك بعمله
يكون البيع يوميا في أغلب الأحيان بسوق البلدة أو يتلقاه وسطاء يبيعون المنسوجات بالعاصمة أو الدخلة (الوطن القبلي) أو الجنوب أو حتى بالجزائر وليبيا.
فالخلالة الواحدة (أو التخليلة أو الملية) تمر من ثمانية إلى عشرة أشخاص. إنها سلسلة متماسكة إذا فسدت إحدى حلقاتها فسدت كلها واختل توازن القرية بأكملها:
فحين اضطرب التزويد بالخيط أو ارتفع ثمنه أثناء الحربين وبعدهما اهتزت البلاد بأسرها
وحين طرد تسعة من الباعة الهلاليين من الجنوب بسبب نشاطهم السياسي ثارت القرية بأكملها
وحين رفع أمين المعاش في معلوم الأداء بسوق الخلالة كتبت العرائض حتى أقيل من مهامه.
فإذا قال أحمد بكير محمود إن قصر هلال رضعت من ضرعين: الحياكة والسياسة قلنا إن السياسة – بقصر هلال على الأقل- بنت الحياكة. لذلك "تسيست" أكثر من جيرانها الذين لهم شواغل مهنية أخرى كالفلاحة والملاحة وإذا انتقلت "العدوى السياسية" إلى القرى المجاورة فبحكم اشتغال بعض سكانها بالحياكة دائما.
وقد لاحظ تقرير أمني مؤرخ في 13 سبتمبر 1949 أن "الشعب الدستورية الجديدة يقع انتدابها من بين أوساط النساجين بقصر هلال وبوحجر" وإذا كتب أحمد بكير محمود متحدثا عن قيادة محمد بوزويته للحركة الوطنية بقصر هلال: "صار الجميع هيكلا واحدا يعمل بمجموعه" وكأن بيد الرجل عصا سحرية يسوق بها قطيعا فقد كان من الأنسب الحديث عن طبيعة المجتمع الهلالي الذي كان في حياته اليومية هيكلا واحدا. وكان يكفي أن يقع التحكم في أحد أطرافه لكي يتم التحكم في الهيكل كله. لذلك قيل إن صناعة الحياكة صناعة مسيّسة.
العمل الإصلاحي
الحاج سالم عياد
هو سالم بن أحمد بن عياد بن الحاج مبارك بطيخ. ولد بقصر هلال سنة 1852 وتولى خطة عدل بقصر هلال في 31 أكتوبر 1882 ثم الإمامة الأولى بالجامع الكبير يوم أول مارس 1916 بعد وفاة سلفه خليفة بن حسن القصاب يوم 6 ديسمبر 1915.
وكان له من الأبناء: محمد واحمد وحامد
ولعل أسماء الذرية تشير إلى تجذر الأب في تربية إسلامية خالصة.
هو الزارع الأول لبذور الإصلاح على المستوى الديني والاجتماعي والسياسي في التربة الهلالية.
أما عن المستوى الديني والاجتماعي فقد نشرت جريدة "الوزير" إثر وفاته يوم 5 جوان 1928 مقالا مؤرخا في 9 أوت 1928 تحت عنوان "فقيد الإصلاح" جاء فيه : قليل من علماء الخلف من يسير على منوال السلف متبعا الكتاب والسنة وشروح الأئمة. ومن النادرين فضيلة العالم النحرير والقدوة الشهير الحاج سالم عياد عمدة قصر هلال في مراجعة أصول الدين وفروعه وتطبيق القواعد على صحتها مع مقاومة البدع والضلالات الملصقة بالدين والمنسوبة إليه اعتباطا بل افتراء. فكان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ولا تغره في الحق لومة لائم ... أوصى الفقيد بأن لا ترفع عليه نائحة صوتا ولا تلطم عليه نادبة خدا وأن تسير جنازته طبق الكتاب والسنة بلا أصوات مرتفعة ولا قراءة قرآن في الطرقات فتمم أنجاله وصيته برا بوالدهم المرحوم" .
ويوم 6 جويلية 1928 كتبت جريدة "الصواب" مقالا احتل نصف صفحة من صفحاتها تحت عنوان "ما مات من لم يمت ذكره" مضيفة إلى ما سبق عظمة الجنازة التي أقيمت للفقيد إذ صلى عليه أكثر من أربعمائة رجل من سائر جهات الساحل أمهم محمد بن حسين الورداني ونشرت عن مآثره ما لم نر مثيلا له بتلك الصحيفة أو بغيرها.
وإن هذين المقالين – وحدهما- كافيان لإبراز الدور الإصلاحي الذي لعبه الحاج سالم عياد في الساحة الهلالية وخارجها.
وأما في المستوى السياسي فقد فتح الرجل داره لينعقد فيها أول اجتماع سياسي بقصر هلال تأسست خلاله شعبتها الدستورية يوم 23 سبتمبر 1921 وشغل بتلك الهيئة الأولى خطة مساعد للكاتب العام . كما فتح دكانه – حسب شهادة خصومه- ليطالع فيه الراغبون ما يرد عليه من الصحف والمجلات وقد جاء بإحدى الوشايات أنه يفتح (للدستوريين) دكانه ويقرأ لهم جرائدهم" ولا شك أن خطبة أيام الجمعة بالجامع الكبير كانت من جنس ذلك التصرف.
وقد وقع استغلال كل ذلك من طرف خصومه – وعلى رأسهم الإمام الثاني (إمام الصلوات الخمس) الناصر الشملي لينتهي الأمر بعزله من الإمامة الأولى يوم 29 نوفمبر 1926. وحتى ابنه العدل محمد رفض ترشحه لخلافة أبيه لأنه "ابن لرجل مواقفه معادية لفرنسا" .
كتب كاهية المكنين يوم 28 سبتمبر 1926 – أي قبل شهرين من العزل أن سالم عياد" متعصب مع أفراد ينتمون للحزب الدستوري" وقد كان محمد بوزويته آنذاك رئيسا للشعبة الدستورية بقصر هلال. فالرجل كما نرى قام في نطاق خطتية –العدالة والإمامة- بنشاط توعوي هام. وحتى داره فإنها بقيت دارا دستورية إذا ما لبثت حتى آوت اجتماع يوم 3 جانفي 1934 ومؤتمر 2 مارس 1934 على يد ابنه أحمد.
وقد عايش محمد بوزويته ماحيك لسالم عياد من دسائس وما تعرض له من العزل وشهد الموجة الرجعية التي تمثلت في إطلاق يد الزاوية العيساوية في شتى مجالات الحياة حتى احتل رجالها رحاب الجامع الكبير بعد قيام مشجعهم الأكبر الناصر الشملي بالإمامة الأولى منذ سنة 1925 عند مرض سالم عياد وبعد ذلك بدون تعيين رسمي – إذ بقي الجامع بلا إمام أول حتى الاستقلال ! ... وبذلك تحكمت الزاوية في أفراح الناس واتراحهم.
عايش محمد بوزويته كل ذلك وهو رئيس لشعبة المكان وشهد الإطاحة بسالم عياد فدخل المعركة مدركا جيد الإدراك ما كان ينتظره من المصاعب والعقبات. لكنه كان يدرك أيضا أن المعركة الإصلاحية لا محيد عنها لمن رام بناء جبهة داخلية لها من المتانة ما يمكنها من مواجهة غيرها من المعارك. فقد كان الرجل يرمي إلى بناء ما سوف يدعوه سنة 1934 "بالجيش" .
بدأ من حيث كان يجب أن يبدأ : بدأ بإصلاح النفوس والعقول. أيقن أن لا سبيل إلى أن يطلب الحرية فضلا عن أن يضحي في سبيلها من كان داخله مغلولا. وقد رأى في رواد الزوايا طاقات مهدورة. فراح يقومها ثم يقاومها. بدأ بزاوية سيدي عبد السلام فأقنع شيخها الحاج على صوة بالتخلي عنها والتوجه صوب ما ينفع الناس فاستقال من مشيختها سنة 1919 بعد أن قضى بها ثمانية أعوام. وبقيت زاوية سيدي بنعيسى وهي زاوية ذات ماض عتيد ويسيرها رجال اعترف بهم مؤسس الدولة الحسينية نفسه !
وقد استفحل أمر الزاوية حين أفسح زوال عقبة الحاج سالم عياد المجال لممارسة النشاط الطرقي داخل الجامع الكبير نفسه.
وكانت جماعة العيساوية تحسب أنها قد كسبت باقتحامها رحاب الجامع بمباركة من الإمام الناصر الشملي الحصانة وتحسب أنها في مأمن من رجال الإصلاح حتى كان يوم الجمعة 31 جويلية 1925 حين دخل محمد بوزويته الجامع صحبة ثلة من شبان الشعبة قبل صلاة الجمعة واتباع العيساوية يرددون أناشيدهم فتوجه إلى المصلين قائلا: "أتعجبكم وغوغة دلائل الخيرات؟" ورد رجال الزاوية الفعل أمام الخطر الداهم بتحرير عريضة يوم أول أوت 1925 – أي غداة الواقعة – يحتجون فيها على بوزويته و"حزبه الدستوري" .
وحرر الطرف المقابل عريضة يوم 2 أوت 1925 للتنديد بممارسة "جماعة دلائل الخيرات" لنشاطها بالجامع وتشييعها للجنائز .
ولم تكن للعريضتين نتيجة تذكر. فكتب عبد الله بن محمد البهلول – وهو عضو بالشعبة الدستورية يوم 18 ديسمبر 1925 يبلغ عن تمرد الناصر الشملي على توصيات الوزير الأكبر بخفض الصوت عند القراءة يوم الجمعة .
دخل بوزويته المعركة بأسلحة غير متكافئة. فخصومه يملكون المقر ويملكون منبر الجامع وتقف وراءهم السلطة الحاكمة في كل مستوياتها ثم إنهم يملكون في رصيدهم انتصارا.
هل كان ينوي مواجهة جماعة الزاوية منذ البداية أم جرفته الأحداث؟
لا ندري فقد عثرنا على عريضة مؤرخة في 23 جانفي 1924 تطالب بإعادة مركز الخلافة إلى قصر هلال وهو المركز الذي حذف منذ سنة 1897 حين ارتأت السلطة ضم قصر هلال إلى مركز المكنين نظرا إلى قصر المسافة بين القريتين. وقد كان من بين الممضين كل من محمد بوزويته والناصر الشملي وفرج الإميم والصادق الديماسي ومحمد العامري الكعلي وعثمان الشملي وهي وجوه متنافرة أشد التنافر .
وسرعان ما تغيرت العلاقات :
فقد توجه أصبع الاتهام إلى الناصر الشملي حين وقعت الوشاية بمحمد بوزويته الذي فوجئ وهو يعقد اجتماعا يضم حوالي ثلاثين شخصا بمنزله يوم 18 ديسمبر 1924. فمن الواضح أن الأمر يتعلق بوشاية موصوفة حيث أن الاجتماع كان بمنزل وفي فصل الشتاء وفي العاشرة ليلا وحيث أن رجال الجندرمة قدموا من المكنين. لكن لماذا نسبت تلك الوشاية إلى الناصر الشملي دون سواه ؟
لقد قال الناصر الشملي – أكثر من مرة- أن العداوة نشبت منذ رفض الانضمام إلى الحركة الدستورية وردد قوله قصد تأليب السلطة بدون شك لكن قد تكون هي الحقيقة. فالرجل لم يشارك في أي حركة قد يشتم منها رائحة نقد أو معارضة أو حتى امتعاض. أما مطالبته – صحبة الآخرين – بإرجاع مركز الخلافة فقد تكون من باب الطموح الشخصي الذي كان عظيما. ألم يطح بسالم عياد من أجل الحصول على الإمامة الأولى ؟
تلك الوشاية كانت – في رأينا – منطلق المعركة التي دارت رحاها على مدى تسعة أعوام لكنها لا تفسر الأسباب السابقة.
لقد كان الناصر الشملي يعتبر محمد بوزويته – عن حق – نصير الحاج سالم عياد ثم وريثه في الاتجاه الإصلاحي لكنه أخطأ إذ حسب أن معطيات المعركة قد بقيت على حالها. فلم يحسب للشعب – وللشباب منه خاصة – حسابا.
كان سالم عياد فردا، أما بوزويته فقد كان أخطبوطا. وسرعان ما شددت أصابع بوزويته الخناق على الناصر الشملي فراح يشكو أمره إلى الكاهية الذي نصحه بأن يرفع أمره إلى العدالة. ففعل موجها إلى بوزويته تهمة "التشويش على الإمام". لكن المحكمة قضت يوم 4 فيفري 1926 بعدم سماع الدعوى وقد دافع عن بوزويته راجح ابراهيم. مع العلم أن المدعي العام طالب بتسليط 6 أشهر سجنا .
وذاق الناصر الشملي طعم الهزيمة لأول مرة وذاقها معه كاهية المكنين الذي تبنى قضية الناصر الشملي بصفة شخصية فجاء إلى قصر هلال في أواخر نوفمبر 1926 ودخل الجامع وأعلم المصلين بتوقيف الحاج سالم عياد وأمرهم بانتخاب الناصر الشملي بدلا عنه. وكان رد الفعل عكسيا فامتنعوا. وعند الخروج من الصلاة قاموا بمظاهرة احتجاج على ذلك التدخل وكتبوا عريضة إلى الوزير الأكبر فدعا المراقب المدني بسوسة محمد بوزويته في أوائل ديسمبر 1926 وهدده معتبرا إياه مسؤولا عما جرى وقد علقت جريدة "الوزير" بأن سكان قصر هلال أصبحوا يؤدون صلاة الجمعة بالمكنين.
لقد كانت السلطة الحاكمة منحازة إلى الناصر الشملي كامل الانحياز وساندته بكل قواها وكان يرد لها الجميل بالدعاء للكاهية عقب الصلوات والمواظبة النشيطة على حضور كل المناسبات الرسمية وعند تنصيب كل من يقع تعيينه في المستوى المحلي والجهوي باعتباره "إمام الجامع الكبير".
أصدرت الوزارة الكبرى أمرا بانتخاب إمام أول لكن الأمر لم يقع تنفيذه. "ثم كتبت عريضة تحمل 150 إمضاء تطالب بتعيين أحمد بن محمد الشرفي إماما أول ولم تنفذ هي الأخرى وأكدت "لسان الشعب" ما كتبته "الوزير" من أن المصلين بقصر هلال يؤدون صلاة الجمعة بالمكنين رافضين الصلاة وراء الناصر الشملي حتى وصفته "لسان الشعب" بأنه إمام بالدبوس" .
كان الناصر الشملي هو الذي اختار السلاح السياسي وهو السلاح الذي جرب نجاعته مع سالم عياد، لكنه كان سلاحا ذا حدين إذ كان السلاح الذي أطاح به هو شخصيا. فمحمد بوزويته ليس سالم عياد وإذا كانا يؤمنان بهدف واحد فإن الوسائل التي استخدمها الرجلان كانت شديدة الاختلاف. سالم عياد رجل علم ودين ومحمد بوزويته رجل أمي ونساج. للأول مبادئ وقيم لا يرضى أن يتجاوزها أو ينزل دونها والثاني رجل عركته الشدائد. ثم إن الأول يعمل بمفرده بينما الثاني عرف كيف يحيط نفسه بجماعة كانت رأس حربة ومن أفرادها البارزين الطاهر بن حمدة بوغزالة وعلي بن محمود الشملي قبل أن ينضم إليهما آخرون.
وما لبث حتى أصبح الناصر الشملي في موضع سالم عياد بل أشد سوءا !
كان يحسب الجامع حصنا منيعا يقول فيه ما يشاء ويتصرف كما يحلو له حتى دخله بوزويته وقال فيه ما قال.
وقد كانت تلك العملية منطلقا جديدا لمعركة تجاوزت حدود قصر هلال لتأخذ أبعادا جهوية ووطنية على الصعيد الإداري والقضائي والصحفي.
ثم كان للفشل القضائي أثر بالغ على الناصر الشملي إذ ازداد به تعنتا والتحاما بالسلطة الحامية فإذا راح الناصر الشملي يوم 9 ماي 1928 يبلغ عن مناهضة بوزويته لقانون التجنيس وأنه وجماعته "مهيجون ويعملون ضد فرنسا ولهم أعمال سرية خطرة" راح بوزويته ورفاقه يهتفون بالجامع وخارجه مرددين عبارات "وشاية" و "جواسيس" و"خونة".
ولقد جاءت استقالة محمد بن علي بوراس من مشيخة زاوية سيدي بنعيسى بسبب تقدمه في السن وثقل أعباء الزاوية حسب قوله يوم 2 فيفري 1929 لتعلن عن بداية النهاية للزاوية وطقوسها.
وتحول النزاع إلى مواجهة سياسية في وضح النهار حتى إذا عاد الناصر الشملي إلى التذمر من "التشويش" يوم 24 سبتمبر 1933 وسانده كاهية المكنين تجاوزت الردود صاحب الشكوى لتشمل أقاربه حتى لجأ أخوه عبد الرزاق وصهره محمد الشارف إلى طلب الحماية من اعتداءات الدستوريين أو السماح لهما بالانخراط في الحزب .
ولم يقتصر عمل بوزويته على تطهير الجامع من الممارسات الطرقية بل تعداه إلى سلوكيات الناس أثناء مراسم الدفن حيث كان رجال الزاوية يرافقون النعوش "بأصوات تكاد تبلغ عنان السماء" كما عبرت عن ذلك جريدة "النديم" يوم 17 أكتوبر 1925 وقد كان لقائد المجموعة ومقدم الزاوية ابراهيم بن محمد كوزانة صوت جهوري نال به لقب "بوق قصر هلال" وقد نجح بوزويته في محو تلك البدعة نجاحا باهرا.
فقد توفي الحاج قارة بن محمد هلال يوم 11 ديسمبر 1925 عن سن 75 عاما موصيا بأن تشيع جنازته "طبق ما جاء في الشريعة وتم له ذلك"
وتوفى محمد بن الحاج محمد فنينة الكعلي يوم 31 أوت 1927 عن سن 75 عاما موصيا بأن يؤم صلاة جنازته الحاج سالم عياد وأنه "لا يسامحهم إذا تركوا الناصر الشملي يصلي عليه" .
وقد أثارت تلك التحولات الاجتماعية مخاوف رجال الزاوية – وهي مخاوف لها ما يبررها – فردوا الفعل:
1- برفض الانصياع لتوصيات المتوفين : إذا أوصى علي بن الحاج محمد الزراد عند وفاته يوم 2 ديسمبر 1927 بأن تكون جنازته في صمت وخشوع فرفضت جماعة الطرق بقولها: "لابد من إجراء العادة حب من حب وكره من كره" ودفن الرجل رغم أنفه بالصياح والصخب .
2- بتهديد محمد بوزويته بلعنة الزاوية وسوء المصير فراحوا يرددون في إحدى شطحاتهم :
من غير علم ولا قرآن يا معترض لأهل الحضرة
أنت بقيت كي الشيطان جاهل تعاند في الفقرة
هذى طريقة ناس زمان لا فيك لا خير ولا جعرة
خمر معانا بالكيسان دخلها النبي سمح البشرة
والله شفتو بالأعيان دخلها وجاكم من مرة
سيدي محمد بن عدنان حاضر ينشد ع الفقرة
وأضافوا:
وتعبت نفسك يا مغرور يا مدعي راك تغريت
يرميك في قاع التنور إن كان ما تبت ووليت
حتى إذا جاءت سنة 1931 اعترض الفتى أحمد بن قاسم قعليش – وعمره أربعة عشر عاما – على دفن والدته حسبما تريد لها البدع فنزل والده عند رغبته وشيعت الجنازة بصمت وسكون ويزداد وزن الحدث حين نعلم أن والد الفتى كان سنة 1911 من الأتباع النشيطين لزاوية سيدي عبد السلام .
ولم يتوقف عمل بوزويته عند تطهير الجامع والجنائز بل امتد إلى الزواج وما يثقله من التكاليف فدعا إلى التيسير وطرح ما علق بحفلات الزواج من مظاهر الإسراف وقد أثار تدخله حفيظة المعنية الأولى وهي الماشطة (أو الحنانة حسب تعبير العاصمة) رقية بنت عبد الرحمان سويسي (المعروفة محليا باسم رقية بنت حفصة) فراحت تغني حين ألقي القبض على محمد بوزويته يوم 19 نوفمبر 1935 وأبعد إلى برج القصيرة (برج البوف):
تهنى يا رقية ولا تخاف بوزويته في برج الباف
وقد علقت شرطة منطقة سوسة على ذلك يوم 28 نوفمبر 1935 بأن الجزء "السليم" من المجتمع الهلالي قد ابتهج بإبعاده فالجزء السليم (Population saine) كانت تمثله – ميدانيا- الماشطة، أما بوزويته فهو يمثل الجزء الموبوء !
ونحن نرى أن موقف الماشطة من محمد بوزويته له ما "يبرره" إذ هي كانت تحس بأن أرض قصر هلال بدأت ترتج تحت قدميها. فهذه الأعراس تتحول إلى أعراس وطنية وإن نظرة على الوصف الصحفي لحفل زفاف الأخوين محمد وعبد الله ابني الحاج علي صوة يوم 26 أكتوبر 1930 أو صيحات الفزع التي أطلقها كاهية المكنين يوم 20 أكتوبر 1931 ثم المراقب المدني بسوسة إثر حفل زفاف أحمد بن حسن جمور تبرز أن حفلات الزفاف أصبحت اجتماعات دستورية مقنعة بقناع الزفاف! فهي الأناشيد الوطنية وهي تلاوة قصيد "من أجلك يا وطني أضحي بالنفس والمال" وقصيد "حب الوطن مقدس فاحفظوه" وهي الأعلام ترفع على رأس العريس. ولم تكتف جماعة بوزويته بذلك بل راحت تنظم أعراسا مماثلة بصيادة .
هكذا بدأ التحول قبل أن تتبنى الفرق الموسيقية النحاسية العمل وتصبح معزوفاتها في الأعراس ألحانا وطنية.
تـأسيس المدرسة القرآنية "الهلال" بقصر هلال
أفردنا لتأسيس المدرسة القرآنية العصرية "الهلال" بقصر هلال – وذلك هو اسمها الرسمي –المدرسة الابتدائية بشارع صوة حاليا – فصلا خاصا لأن إنشاء تلك المدرسة يمثل بالنسبة إلى تاريخ مدينة قصر هلال محطة لا يمكن طرقه دون التوقف عندها.
فقد كانت المدرسة الحكومية – الفرنكوعربية- تمثل في نظر السكان مكانا لرفع الأمية بدون شك لكنها كانت ترمز أيضا إلى الحضور الأجنبي وقد التحق بها سنة 1928 مركز البريد ناهيك أن احتفالات نهاية الحرب العالمية الأولى جرت يومي 11 و 12 نوفمبر 1918 قبالة المدرسة الحكومية وفي ذلك أكثر من مغزى وإذا كان ابتهاج السكان عظيما سنة 1909 عند إنشاء "مكتب الشوك" وهي التسمية التي أطلقوها على المدرسة الحكومية لأنها كانت محاطة بسياج شائك فإن ابتهاجهم قد تضاءل بعد مرور السنين حين تبين لهم أنها كانت سما داخل الدسم فاستقر عدد تلاميذها حتى خشيت السلطة من تقلصها إلى حد الذوبان.
أما السكان فقد اختلفت مواقفهم بين مقدم ومحجم. فمنهم من فضل لأبنائه التعلم بما فيه وفيهم من فضل لهم الأمية وفيهم من أدخلهم أحد الكتاتيب مع ما كان يسودها من ظروف قاسية. ويدل اختلاف المواقف على أن التعليم بقصر هلال كان يمثل أحد مشاغل الناس وهمومهم. وقد كان محمد بوزويته يرى ويصغي !
لقد أجمعت المصادر الشعبية والرسمية على أن محمد بوزويته كان له دور كبير في توجيه صديقه الحاج علي صوة إلى العمل الاجتماعي بعد أن كان يكرس جهوده في خدمة زاويتي سيدي عبد السلام إلى درجة أنه أثار غضب أتباع الزاويتين بسبب إهماله لهما ثم استقال من المشيخة في حركة لا تخلو من العنف إذ أنه أصر على الاستقالة بدون ذكر سبب. كان ذلك في 15 ديسمبر 1919 أي بعد عام واحد من احتفال نهاية الحرب العالمية الأولى التي ساهمت فيها الزوايا يومي 11 و12 نوفمبر 1918 بإعلامها ودفوفها.
وإذا كان محمد بوزويته رجلا أميا كالحاج علي صوة فقد كان وراءهما – كما رأينا- الحاج سالم عياد. وبين فكي ملزمة متكونة من العلم الذي يمثله عياد والعمل الذي يمثله بوزويته اهتدى الحاج علي صوة إلى طريق قال عنها – هو نفسه حين سأله صاحب جريدة الوزير عن سبب بنائه للمدرسة ومشاركته الشخصية في البناء- إنه "جره سعيه في الخير وكفى" .
الحاج علي صوة كان رجلا خيرا بالقوة – حسب تعبير الفلاسفة – فحوله محمد بوزويته إلى رجل خيّر بالفعل .
لماذا سعى بوزويته إلى تأسيس المدرسة القرآنية ؟ لماذا سعى إلى إنشاء مدرسة مغايرة للمدرسة الفرنكوعربية التي كانت موجودة بقصر هلال منذ سنة 1909؟ كيف أمكن له أن يحكم على تعليم لم تتح له فرصة تلقيه ؟
إن الإجابة المقنعة الوحيدة تكمن حسب رأينا في:
1- سكوت الإدارة على الطلب الذي قدمه العدل علي بن حسن ابراهم أمام المقيم العام Alapetite يوم 21 ماي 1911 عند زيارته للمدرسة بتعيين معلم لتعليم العربية والدين الإسلامي .
2-نوعية الرجال الذين تمكن من الاحتكاك بهم بهيئة الشعبة الأولى (1921-1924). فقد أيقن أن للمصنع دورا جوهريا في تحديد نوعية الإنتاج. لذلك عمل على إنشاء المدرسة المناسبة لتكوين النشء المطلوب. وقد جاء في تقرير بإمضاء مدير الأمن العمومي مؤرخ في 18 نوفمبر 1929 أن "الناس ينتظرون تكوين رجال متعلمين قادرين على الدفاع عن مصالح البلاد والتونسيين" إنها نظرة محمد عبده إلى الإصلاح! ولا نظن أنه قد خاب ظنه.
تقول الأوساط الشعبية أن بوزويته وجد صعوبة في جمع الأموال لهذا الغرض وأنه عرض الأمر على الحاج على صوة الذي اشترط على عادته شرطا وحيدا وهو أن يقوم بالعمل بمفرده وأن تعاد الأموال إلى أصحابها. فتم ذلك واتصلا بالطاهر صفر الطالب العائد من فرنسا صيف 1928 والذي وصف بأنه صديق لبوزويته لأنه كان قد أدار المدرسة القرآنية العرفانية بالعاصمة من سنة 1922 إلى 1926 في سبيل الحصول على الرخصة التي يفرضها فتح مدرسة تعتبر من الوجهة القانونية مدرسة حرة. وقد تكفل امحمد شنيق – رئيس القسم التونسي من المجلس الكبير – بتقديم مطلب الرخصة إلى إدارة التعليم العمومي وقد قبل الطلب رغم المعارضة الشديدة لمدير المدرسة الحكومية وتحذيراته.
لعل الغاية من إنشاء مدرسة "الهلال" تبرزها الأبيات التي وشحت واجهة المدرسة وهي من نظم الشاعر الهلالي امحمد بن عمر بوشارب وقد جاء فيها:
معاهد يمن لا يرحن أواهلا يصان كتاب الله فيها دواما
أقمن على مجد الجدود أدلة وقلن لأبناء البلاد الأماما
وهو كلام نعبر عنه اليوم بالتجذر مع التفتح.
وإذا كنا لا ننوي الإطناب في الحديث عن مسيرة المدرسة التي كنا أوفيناها حظها في غير هذا المكان فإنه من الضروري أن نتعرض إلى من اعتبرته التقارير الرسمية متسببا في إنشائها أي محمد بوزويته:
فقد أشار تقرير أمني – سري- يوم 12 نوفمبر 1929 – أي بعد عشرة أيام من افتتاح المدرسة إلى أن بوزويته "اقترح" على الحاج علي صوة بناءها وأن الرجلين يفكران في إنشاء مستوصف بقصر هلال مع مجانية العلاج والدواء وأنه –أي بوزويته- يخوض مع معلمي المدرسة في مسائل سياسية وأن اللقاء كان يتم بمنزل بوزويته ليلا صحبة بعض الدستوريين وليس خافيا أن هذا الكلام يوحي ببعض الوشايات ...
كتب مدير الأمن يوم 13 جانفي 1930 متحدثا عن المدرسة والأصداء الأولية لتأسيسها بأن الحزب الدستوري ينسب لنفسه فضل إنشائها
عاد مدير الأمن يوم 18 جانفي 1930 إلى الحديث عن المدرسة فكتب: "المسمى محمد بوزويته الملقب "بالمعيرش" رئيس الشعبة الدستورية بقصر هلال عدو فرنسا اللدود Anti-français acharné et notoire والذي يواصل الدعاية المعادية لفرنسا بدون أن يزعجه أحد يطمح إلى أن يمسك بزمام هذه المدرسة. هذا المشوش الذي لو تعلق الأمر بحكومة أكثر حزما لوقع طرده منذ زمان يمقته غير الدستوريين بسبب ما ألحقه بهم من الأذى وهم يسحبون أبناءهم من تلك المدرسة شيئا فشيئا" .
ولعل مدير الأمن كان يحلم عند كتابة هذا الكلام، فالعكس هو الصحيح، وقد أجبر محمد بن الحاج علي صوة – مدير المدرسة- على إرجاع حوالي خمسين تلميذا نزحوا من المدرسة الحكومية وأرغم على التعهد بعدم قبول الراغبين في الانتقال إليه مع شروط أخرى كثيرة !
وقد لاحظنا أثناء درسنا لأصداء ذلك الانجاز تباينا بين المصادر التونسية والمصادر الفرنسية. فإذا رأت الأوساط التونسية في المدرسة مجرد مؤسسة تعليمية فإن الأوساط الفرنسية رأت فيها خطرا داهما، فأجمع كل من مدير المدرسة الحكومية F. Ricard ومتفقد اللغة الفرنسية M.Martin ومدير الأمن على اعتبارها خطرا على الحضور الفرنسي ونعتوها بالمنبت Pépinière للدستوريين أتباعا وزعماء .
العمل النقابي والتعاضدي
جاء في بلاغ صادر بجريدة النهضة يوم 12 نوفمبر 1936 بمناسبة تأسيس "نقابة قلفات (عملة) النسيج اليدوي": يتقدم مجلس الإدارة إلى الشيخ بوزويته بالشكر الجزيل حيث أنه أجهد نفسه في إفهام الناس منافع النقابات".
هذا الشكر نفسه كاف ليكشف الدور التوعوي الذي قام به محمد بوزويته في إحدى واجهات العمل الوطني وهي واجهة التضامن الحرفي.
لقد وجدناه عضوا بالشركة التي تأسست بقصر هلال يوم 7 جوان 1914 لتكون فرعا من الشركة الأهلية وضمت 107 من أصحاب معامل الحياكة بقصر هلال (الأنوال).
ثم وجدناه عضوا عند تأسيس شركة تعاونية باسم "الهلالية" لمحترفي الحياكة بقصر هلال يوم 22 نوفمبر 1921 من بين 121 منخرطا
ثم وجدناه عضوا بهيئة "نقابة النسيج الهلالية" عند نشأتها برئاسة عثمان بن محمود الشملي في نوفمبر 1933 وهو أمين مال الشعبة.
ثم اكتفى بالتوعية والتحريض عند تأسيس نقابة العملة برئاسة محمد بن إبراهيم حريق (ابن الحاج خليفة) في أوائل نوفمبر 1936.
ووجدناه عضوا بالتعاضدية التي تأسسست يوم 29 أفريل 1937 لتضم 374 عضوا .
وإن نظرة إلى هذه المحطات توضح حضور الرجل بالقول والفعل في كل عمل جماعي يدعو إلى توحيد الجهود ويؤدي إلى تكوين ما دعاه "بالجيش" ! وتطور الأرقام يشير إلى ثمار تلك الجهود !
ولقد نشأت بعد تلك المحطات محطات عديدة أخرى كان محمد بوزويته في منطلقها بل كان واضع السكك في طريقها.
العمل السياسي
قبل تأسيس الشعبة الدستورية
ما نستطيع أن نستشفه من حياة محمد بوزويته ومواقفه قبل تأسيس الشعبة الدستورية بقصر هلال يوم 23 سبتمبر 1921 – وهو ضئيل جدا- يشير إلى أن الرجل لم تتبين ملامحه بشكل يسمح بالاستنتاج ويشهد على ذلك موقفه من الواقعة التالية :
عند شغور خطة "أمين الحياكة بقصر هلال" إثر استقالة محمد بن عبد الرحمان القفصي في 12 فيفري 1888 ترشح لها كل من امحمد بن حسين بوزويته (1894-1978) وصالح بن حمودة بن علي حمودة (1874-1944) وقد اختلف رجال الصناعة في اختيار الرجل المناسب. فاستكتب كل منهما عدلين حسب التقاليد المعروفة وقد صوت لفائدة الأول 150 وصوّت لفائدة الثاني 85 ووقع الاختيار على الثاني لأنه استكتب عقده قبل الأول بستة أيام ! وما يهمنا هنا هو أن محمد بن عمر بوزويته رشح صالح حمودة دون محمد بوزويته. وهو موقف يثير فينا ملاحظتين :
1- أن محمد بوزويته لم يكن يحمل نعرة التعصب العائلي التي كانت ومازالت تطبع سلوكيات الكثيرين. لقد كنا أشرنا إلى أن شجرة آل بوزويته مترامية الأطراف لكننا لا نعرف – ولم نجد من يعرف – عن أبيه أو عميه حسن ومحمد شيئا ولو ضئيلا. يجب أن نقولها : محمد بوزويته ينتمي إلى آل بوزويته لكنه نشأ مستقلا. وقد تأملنا في الشجرة العائلية فلاحظنا أن فرع الرجل يكاد يكون شجرة قائمة بذاتها. فهو ابن وحيد عاش معزولا وسط الجموع ! كذلك نشأ وكذلك عاش وكذلك انتهى. وقد شاء القدر أن لا ينجب ابنه عمر أبناء وبه توقف الفرع عن النمو.
ويبدو أن اللامبالاة كانت متبادلة بين محمد بوزويته وآل بوزويته ! فقد سعيت جاهدا –منذ سنين- أن أحرك بعضهم لانجاز هذا العمل لكني لم أجد منهم إلا آذانا تصغي وشفاها تؤيد... وكفى !
2- أن اللون السياسي لم يكن يطبع مواقف محمد بوزويته على عكس ما أصبحت عليه منذ بداية العشرينات. وسوف يتحول صالح حمودة الذي سوف يصبح يوم 3 ديسمبر 1917 على رأس المشيخة الجنوبية بقصر هلال من ألد أعداء محمد بوزويته يترصد تحركاته ويبلغ عنها السلطة بحكم وظيفته من جهة وبشيء من ذاته من جهة أخرى. ونستشف بعد هاتين الملاحظتين أن التوجه السياسي لمحمد بوزويته ارتسمت ملامحه خلال السنوات الأخيرة من العشرية الثانية أي خلال الحرب العالمية الأولى وما فتحته نهايتها من آمال لدى الشعوب المضطهدة. ولاشك أن أصداء نهاية الحرب كانت بالعاصمة مغايرة لأصدائها بقصر هلال. فإذا كان من تداعياتها بالعاصمة إنشاء الحزب الحر الدستوري التونسي الذي أعلن عن تأسيسه يوم 17 رمضان 1336هـ. فقد احتفل شيخ الجنوبية بقصر هلال صالح حمودة يومي 11 و 12 نوفمبر 1918 برفع أعلام الزوايا قبالة المدرسة الفرنكوعربية وهي آنذاك الرمز الوحيد للحضور الفرنسي بقصر هلال.
ميلاد الشعبة
سألني أحدهم عن محمد بوزويته وأحمد عياد : أيهما أرفع منزلة بالنظر إلى الحركة الوطنية بقصر هلال فرفضت الإجابة لأني لا أحب الموازنة بين الناس كما لا أحب المفاضلة بين جندي المشاة وجندي الطيران. لكن المقارنة بين الرجلين بدون تفضيل أحدهما على الآخر ممكنة.
في عمرهما بعض التقارب وإن كان محمد بوزويته يكبر أحمد عياد بعشرة أعوام وكلاهما يعمل في تجارة الخيط ومواد الصباغة وكلاهما يقوم بحركة مكوكية بين قصر هلال والعاصمة وكلاهما وطني حتى النخاع.
إلى هنا يتوقف التشابه إذ هما يختلفان في كل ما عدا ذلك !
بوزويته رجل نظامي يحترم الناس ويريد أن يحترمه الناس. يحب النور والعمل الواضح يؤمن بتوزيع المسؤوليات وتدرجها. يكره الارتجال والفوضى ويتشبث بأخلاقيات النضال ويعتبر نفسه ضابطا في جيش.
وعياد رأى والده وهو يعزل بسبب أفكاره الوطنية ورأى الشعبة الدستورية بقصر هلال لا ترد فعلا ولا تصدر حتى احتجاجا فثار على المحتل وكان أول من لفت إليه نظر السلطة بقصر هلال وثار على الشعبة ولم يدخل قط هيئتها. وثار على كل شيء ! فهو لا يعترف بالهياكل والرتب بل إنه جيش به كافة الرتب. وإذا راح بوزويته يلاحق ما يجري بالجوامع والجنائز والأعراس فقد راح عياد يخالط جماعة "تحت السور" حتى أنه توفى بمطبعة زين العابدين السنوسي سنة 1949.
وإذا كان أحمد عياد قد أخذ من ميول والده الوطنية كثيرا أو قليلا فإن بدايات محمد بوزويته في الوعي السياسي محجبة بالغموض. بمن تأثر قبل دخوله الشعبة عند نشأتها في 23 ديسمبر 1921 ؟
لقد كان عمره آنذاك واحدا وأربعين عاما. وإذا كنا نعرف أو يخيل إلينا أننا نعرف –بوزويته بداية من ذلك التاريخ فمعنى ذلك أننا لن نعرف إلا ثلاثة وعشرين عاما. وكم من شجرة جذورها ضربت في الأرض فتجاوز طولها الأغصان ! لكن تلك هي ضريبة الشهرة والظهور. فمن كان يخطر بباله أن يسأل بوزويته عمن لقنه أبجدية الوطنية والعمل الوطني ؟
إننا لا نملك في هذا المضمار إلا طاقة التخمين.
ما لا نشك فيه هو أن بوزويته تطور عبر السنين، فبوزويته الذي صوت لفائدة صالح حمودة سنة 1913 ليس ذلك الذي حوكم من أجل عقده اجتماعا بمنزله سنة 1924 ولا هو بوزويته الذي حير السلطة في كل مستوياتها سنة 1933 وإذا كان استعراض مسيرته السياسية يكشف ذلك التطور فإنه يمكن من الصعود إلى منابع الوعي في خط هو ذاته الوعي التونسي عموما.
قالوا إن اتصالاته بأسواق العاصمة مكنته من الاحتكاك بالرجال الذين تمت على أيديهم ولادة الحزب الحر الدستوري التونسي وعلى رأسهم عبد العزيز الثعالبي لكننا لا نملك دليلا على ذلك. ولو وجدنا دليلا لأدركنا سر هذا التشابه الغريب بين مسيرة عبد العزيز الثعالبي الإصلاحية ثم السياسية ثم انهياره ومسيرة بوزويته الإصلاحية ثم السياسية ثم انهياره ! ولم تفصل وفاتهما سنة 1944 إلا تسعة وأربعون يوما !
لا شك أن أحمد توفيق المدني – العضو النشيط باللجنة التنفيذية للحزب الحر الدستوري التونسي – وهو رجل من أصل جزائري شأنه شأن عبد العزيز الثعالبي- حل بقصر هلال يوم 23 سبتمبر 1921 وهو على بينة من الوضع السائد بها.
فمن قام باستقباله ؟ وكيف كان استقباله ؟ ومن كان يعرف من السكان؟ لا ندري ! لكننا نعرف أن الاجتماع الذي تشكلت فيه أول شعبة دستورية بقصر هلال بل أول شعبة خارج العاصمة على الإطلاق وقع ذلك اليوم بدار الحاج سالم عياد لأن الرجل – كما رأينا- كان معروفا بكامل المنطقة بمواقفه الإصلاحية.
وإذا كنا لا نعجب من عدم ترؤسه للهيئة لتقدمه في السن – فالرجل كان عمره آنذاك 73 عاما – فإننا ما نزال نتساءل عن أسرار الترشح والانتخاب.
يقيننا أن أغلب أعضاء الهيئة لم يكونوا يدركون أبعاد انخراطهم في الحزب فضلا عن دخولهم هيئة الشعبة. وقد قال الحبيب بورقيبة في إحدى خطبه إن الناس لم يكونوا يفرقون بين الحزب السياسي وحزب العيساوية !
وإن المقارنة بين تركيب الهيئة سنة 1921 و 1924 توضح ما كان يكتنف أفكار أعضاء الهيئة الأولى من الغموض. فلم يمر على توليهم سوى ثلاثة أعوام حتى تخلى أغلبهم لأنهم كانوا يحسبون أنها هيئة أعيان. ولما انكشفت لهم الحقيقة انسحبوا. وبقي محمد بوزويته رفقة عبد الله بن محمد البهلول الذي لم يلبث حتى توفي سنة 1930.
لقد حدثت أثناء تلك الفترة حادثتان لا تبعثان على الاطمئنان وليس من شأنهما أن يرضيا الأعيان !
أوائل ديسمبر 1921 استقبل المقيم العام وفدا من الحزب الاصلاحي الذي أسسه حسن قلاتي يوم 16 أفريل 1921 وانظم إليه حسونة العياشي من مدينة سوسة والشاذلي القسطلي صاحب جريدة النهضة. وقد راح محمد بوزويته يحتج على تلك المقابلة معلنا أن الحزب الحر الدستوري هو الحزب الوحيد المؤهل لأن ينطق باسم الأمة التونسية وهو موقف يكشف أن بوزويته كان يأخذ دوره الجديد مأخذ الجد. وإذا كان المقيم العام قد أصدر بعد ذلك بلاغا يعلن فيه أن المقابلة تمت بصفة شخصية فأن رفاق بوزويته بالشعبة لا يمكن أن يكونوا راضين عن فعلة زميلهم.
يوم 5 أفريل 1922 زحفت الجماهير التونسية صوب قصر الباي محمد الناصر بالمرسى لتعرب له عن مساندتها إثر تهديده بالاستقالة بسبب خلافات تتعلق بصلاحياته. وقد مثل قصر هلال وفد متركب من:
- خليفة بن علي المعلال (1903-1948) شيخ الحي الشمالي من 20-2-1941 إلى وفاته
- الناصر بن عمر نوار (1888-1966) : خياط
- محمد بن عمر بوزويته (1880-1944) : تاجر
- صالح بن محمد مامة (1854-1929) : فلاح
- أحمد بن ابراهيم بورخيص (1883-1959) : تاجر
- منصور بن الحاج عمر بن الحاج سليمان (1899-1964): عدل ثم خليفة إلى 1956.
وهو وفد يمثل المجتمع الهلالي بكل أطيافه ويمثل الرأي العام بكل اتجاهاته ولا سبيل إلى أن يبحث له المرء عن قاسم مشترك ! وحتى الأعمار فقد تراوحت بين 19 و68 عاما. أما الشعبة فلم يكن يمثلها فيه إلا محمد بوزويته.
ويكشف هذان الحدثان أن الرجل لم يكن ينتمي إلى هيئة الشعبة إلا قليلا.
وعلى كل حال فقد احتجت الشعبة يوم 8 أفريل 1922 على توقيف جريدة "الصواب" التي نشرت خبر التهديد بالاستقالة مع العلم أن صاحب الجريدة امحمد الجعايبي كان قد صحب أحمد توفيق المدني عند تأسيس شعبة قصر هلال سنة 1921.
حتى إذا جاء يوم 23 جانفي 1924 وأمضى مع الممضين في عريضة المطالبة بإرجاع مركز الخلافة إلى قصر هلال فإن ذلك الإمضاء لم يكن إلا استجابة إلى رغبة محلية ناجمة عن تنافس قديم بين قصر هلال والمكنين. والله نحمد أنه لم تقع الاستجابة إلى تلك العريضة ولا إلى ما لحقها من العرائض. فلو أعيد المركز إلى قصر هلال لكان لتاريخها منعرج آخر. فقصر هلال كانت مستقلة – عمليا- منذ ألغي منها مركز الخلافة وهو أمر نرى ضرورة تأكيده لكل من رام درس تاريخ قصر هلال. والعريضة كان من دعاتها الناصر الشملي والصادق الديماسي لرغبتهما في تولي ذلك المنصب.
أما هيئة الشعبة فقد كان وجودها آنذاك شكليا يذكرنا بهيئة اللجنة التنفيذية الأولى التي كان يحرك سواكنها العضو الشاب أحمد توفيق المدني. حتى أن المراقب المدني بسوسة كتب يوم 8 أفريل 1922 بأن الناطق باسم الحزب الحر الدستوري بقصر هلال والداعي إلى الانخراط فيه هو أحمد بن سالم عياد وهو ليس عضوا بالهيئة. وحتى يوم 11 جويلية 1923 فإنه هو الذي يجمع الأموال لفائدة الحزب بقصر هلال وما احتجاج الشعبة يوم 8 أفريل 1922 على توقيف جريدة "الصواب" إلا لأن صاحبها امحمد الجعايبي كان قد رافق احمد توفيق المدني عند تأسيس شعبة قصر هلال .
أما تلك الهيئة فقد كانت تتركب من :
- الصادق بن علي الديماسي (1884-1959) : رجل أعمال، عضو مجلس العمل بالمنستبر
- علي بن العامري الكعلي (1898-1940): مالك فلاحي وتاجر، وكيل جمعية الأوقاف من 1930.
- الحاج سالم بن امحمد عياد (1852-1928) : عدل وإمام أول
- احمد بن خليفة القصاب (1879-1954) : عدل
- محمد بن حسين بوزويته (1881-1974) : صناعي وتاجر
- محمد بن عمر بوزويته (1880-1944) : تاجر في مواد النسج
- عبد الله بن محمد البهلول (1875-1930) : حياكة
- محمد بن حمودة الممي (1876-1956) : حياكة
- محمد شوشان بايع راسه (1877-1940) : حياكة
وهي كما نرى هيئة يعوزها الانسجام وحتى تناسب الأعمار وإن كان معدلها 43 عاما فإنها كانت تتراوح بين 23 و 69 عاما.
نسخة من بطاقة الانخراط بالحزب الحر التونسي
الانطلاقة
حتى إذا جاءت أيام 16 و 17 و 18 من شهر نوفمبر 1924 وعاد أحمد توفيق المدني – صحبة راجح ابراهيم ليشرفا على تجديد هيئة الشعبة من جهة وجمع الأموال لفائدة الوفد الدستوري المسافر إلى باريس من جهة ثانية ولا جانفي 1924 كما ذكر أحمد بكير محمود وجدا وجوها جديدة لم يتعرفا منها إلا على محمد بوزويته وعبد الله البهلول أما الآخرون فقد فضلوا النجاة بأنفسهم.
جددت الهيئة أثناء تلك الأيام الثلاثة وتولى محمد بوزويته رئاستها إلى يوم 29 أوت 1937.
وقد سعيت جاهدا أن أعيد تركيب ما جرى في تلك الأيام الأولى من رئاسته للشعبة لأنها أيام طبعت مسيرة الرجل بطابع لا يمحى. فهو رجل صنع الأحداث لكن صنعته الأحداث أيضا.
أما التركيبة التي أفرزها ذلك الاجتماع فقد تكون على النحو التالي:
- محمد بن عمر بوزويته (1880-1944) : رئيس
- صالح بن محمد مامة (1854-1929) : فلاح
- محمد بن علي ابراهم (1897-1945) : حياكة
- عبد الله بن محمد البهلول (1875-1930)
- عمر بن عبد الحميد بطيخ (1860- ؟)
- الحاج وناس بن امحمد شبيل (1890-1967).
- ساسي بن امحمد الديماسي (1895-1975)
- أحمد بن محمود البهلول (1904-1978) : حياكة
- محمد صالح بن سالم قفصية (1899- ؟): مؤدب
- صالح بن محمد سعيدان (1902-1964).
وهي هيئة تتراوح أعمار أفرادها بين 22 و 70 عاما ومعدلها 40 عاما وينتمون جميعا إلى مهن حرة.
تلقى محمد بوزويته عقب الانتخاب مباشرة تعليمات حزبية بالتعريف بزيارة سوف يؤديها الوفد الدستوري الثالث إلى باريس يوم 29 نوفمبر 1924 .
ويوم 18 ديسمبر 1924 اقتحم رئيس مركز الشرطة بالمكنين منزل محمد بوزويته في العاشرة ليلا فوجد به قاعة اجتماعات وقبل الاقتحام تنصت لبوزويته وهو يلقي خطابا على ثلاثين شخصا فيه دعوة إلى التضامن وإلى مساندة الوفد الذي قصد باريس للتفاوض مع الحكومة الفرنسية وختم كلمته بأن عدد منخرطي قصر هلال في الحزب بلغ الخمسمائة وأن معلوم الانخراط 12 فرنكا. وقع الاقتحام بعد نهاية الخطاب ووجهت تهمة مخالفة الأمر العلي المؤرخ في 13 مارس 1905 المانع للاجتماعات بدون ترخيص مسبق، قالت جريدة Le libéral –خطأ- إنه من حسن الحظ أنه لم يسجل في القضية محضر فقد سجل وأحيل بوزويته على المحكمة الجهوية بسوسة حيث صرح بأنه شرح الأهداف التي ذهب من أجلها "وفدنا المبارك إلى كعبة التمدن والحرية مدينة باريس" وأن محله كان مغلقا (مشقق) وقد نشرت جريدة "افريقيا" – وصاحبها أحمد توفيق المدني- نص مرافعة المحامي محمد بن مصطفى المعتمري العضو باللجنة التنفيذية للحزب (أنظر الملحق عدد2) وقضت يوم 5 فيفري 1925 بتغريم محمد بوزويته بواحد وعشرين فرنكا .
وقد نجم عن تلك الأحداث أمران:
1- سافر الوفد الدستوري الثالث إلى باريس يوم 29 نوفمبر 1924 وأرسلت ست برقيات مساندة من قصر هلال يوم 19 ديسمبر 1924 –أي غداة الاجتماع- لإثبات أن "الوفد يمثل الشعب التونسي" حسب نص البرقيات. ولم تشاركها في ولاية المنستير إلا المكنين ببرقية واحدة بإمضاء ابراهيم بن ضيا قال المراقب المدني بسوسة إنها بإيعاز من محمد بوزويته .
ثم أرسلت الشعبة إلى الوفد يوم 16 جانفي 1925 رسالة ترحيب عند عودته من فرنسا وقد اتضح أثناء مؤتمر 2 مارس 1934 بقصر هلال أن الوفد الذي كان يرأسه أحمد الصافي قدم إلى الحكومة الفرنسية عريضة جاء فيها "إننا لسنا بوطنيين" وهي عريضة أخفيت عن الشعب التونسي وكشف عنها المنشقون سنة 1934 .
2- تسببت القضية التي تعلقت ببوزويته في أول "بطاقة إرشادات" توجه إلى المقيم العام بشأنه يوم 13 جانفي 1925. وهذا يدل في حد ذاته على أن الرجل لم تتضح ملامحه السياسية –كما ذكرنا- إلا عند توليه رئاسة الشعبة بينما لاحظ المراقب المدني يوم 26 جوان 1925 أن أحمد عياد يعتبر آنذاك "أحد القادة الدستوريين بقصر هلال" ولنا أن نؤكد أن بوزويته لم ينتزع القيادة الوطنية بقصر هلال إلا خلال سنة 1925 ويشهد على ذلك النشاط المكثف الذي أبدته الشعبة على الصعيدين المحلي والوطني.
إثر مقررات ما دعي "بلجنة الإصلاحات" شنت قصر هلال إضرابا عاما قد يكون الأول من نوعه يوم 21 مارس 1925 وأرسلت يوم 24 مارس 1925 أربع برقيات احتجاج على "الإصلاحات التي تمحو الذاتية التونسية" حسب نص البرقيات .
يوم 8 جوان 1925 صدرت عن قصر هلال برقية احتجاج على تصريحات أدلى بها النائب بالبرلمان الفرنسي Morinaud وهو ممثل مقاطعة قسنطينة الجزائرية وواحد من غلاة الاستعماريين وتهجمه على الجنسية التونسية ومطالبة بردع ذلك السباب البرقية كانت من تحرير أحمد عياد وبإمضاء مجموعة من الهلاليين تبينا منهم :
التومي بن خلف الله الغوالي (1900-1966) أحمد بن سالم عياد (1890-1949)
حامد بن سالم عياد (1897-1961) محمد بن محمود الشملي (1897-1974)
خليفة بن علي الزياتي (1871-1941) محمد بن عمر بوزويته (1880-1944)
أحمد بن ابراهيم بورخيص (1883-1941) عبد الله بن ابراهيم بائع راسه (1888-1933)
فرج بن قاسم قاسم (1894-1953) عبد الله بن محمد الدهماني (1875-1940)
أحمد بن خليفة القصاب (1879-1954) صالح بن محمد سعيدان (1902-1964)1
أحمد بن احمد شرشير (1901-1941) الطاهر بن علي الديماسي (1905-1963)
علي بن أحمد بوسلامة (1884-1944) عبد الله بن صالح الممي (1908-1976)
محمد بن علي ابراهم (1897-1945)1 محمد بن صالح الممي (1880-1950)
أحمد بن محمد الدوس (1895-1953) سالم بن محمد الدوس (1897-1968)
عبد الله بن عبد السيد الشنباح (1887-1968) علي بن حسين القصاب (1901-1970)
عبد السلام بن الحاج يوسف محمود (1884-1949) امحمد بن احمد طيطش (1875-1945)
محمد بن العامري الكعلي (1894-1971) محمد صالح بن سالم قفصية (1899-..)
علي بن محمد العامري الكعلي (1898-1940) وناس بن صالح الحساني (1897-1961)
خليفة بن علي الزراد (1897-1942) يوسف بن احمد الهاني (1894-1971)
سالم بن ابراهيم بن الحاج خليفة (1897-1931) عمر بن أحمد الهاني (1908-...)
ساسي بن امحمد الديماسي (1895-1975)1 الحاج احمد بن خليفة سعيدان (1875-1966)
عبد القادر بن حسن بوزويته (1882-1946) أحمد بن صالح الصغير (1890-1944)
الحاج محمد بن مفتاح ساسي (1889-1940).
هم أربعون تعرفنا منهم على 37 ذكرناهم حسب ترتيبهم بنص البرقية ومعدل أعمارهم آنذاك 32 عاما. وتعمدنا ذكرهم لأنهم يمثلون في نظرنا طلائع الوعي القومي بقصر هلال رغم ما طرأ على بعضهم من تحولات.
صدر قرار بإبعاد أحمد توفيق المدني عضو اللجنة التنفيذية للحزب والمشرف على تأسيس شعبة قصر هلال وتجديد هيئتها إلى الجزائر بذريعة أنه من أصل جزائري. فأرسلت شعبة قصر هلال بإمضاء محمد بوزويته يوم 10 جوان 1925 برقية احتجاج على ذلك الإبعاد الذي صحبه توقيف جريدته "إفريقيا" وهي الجريدة التي وقفت إلى جانب بوزويته في قضية الاجتماع غير المرخص فيه. وقد اعتبر بوزويته ذلك القرار "خطرا على الحرية الفردية وحرية الصحافة" حسب نص البرقية .
وبعد هذه البرقية وما قبلها وقع تسليط أضواء السلطة على الرجلين: محمد بوزويته وأحمد عياد حسب تقرير حرره المراقب المدني بسوسة إلى المقيم العام لوسيان سان بتاريخ 26 جوان 1925.
يوم 24 أكتوبر 1929 كتبت جريدة "الوزير" تحت عنوان "حول حوادث فلسطين: احتجاجات قصر هلال": إن حوادث بيت المقدس الدامية قد أدخلت على الهلاليين حزنا عميقا وأخذت مأخذها من نفوسهم. ولذلك فقد بعثوا احتجاجاتهم إلى كل من وزير الخارجية الفرنسية بباريس ووزير الخارجية الأنكليزية بلندرة ورئيس جمعية الأمم بجنيف وكلها مختومة بإمضاء أحمد ساسي بالنيابة عن 94 من إمضاءات أعيان قصر هلال الموجودة أسفل العرائض". وإذا كان لتلك العرائض من نتيجة فهي البحث الذي انطلق حول كاتبها أحمد ساسي. فقد جاء في تقرير المراقب المدني Fortier ردا عن سؤال المقيم العام Manceron أن أحمد بن محمد ساسي "عطار" بقصر هلال من أنشط الدستوريين لا يتمتع بأي نفوذ أو احترام. هو شاب عمره 25 عاما درس بالمدرسة الفرنكوعربية وله الشهادة الابتدائية ويكتب عرائض الشعبة. ذلك أن أعضاء الشعبة أميون لا يتمتعون بأي مودة من السكان ولا يخشى من تصرفاتهم والأعيان متعلقون بالحكومة الحامية". هكذا كتب Fortier في 2 ديسمبر 1929 في محاولة يائسة لإنكار الحقائق. ولن يطول بقاؤه إذ وقع تعويضه بـ Graignic وأقيم لتوديعه حفل يوم 30 جانفي 1933 تناول فيه الناصر الشملي – أحد الأعيان الذين أشار إليهم – الكلمة .
تلك العرائض – التي سوف تتبعها أخريات – تشير إلى العمل الكبير الذي قامت به الشعبة وعلى رأسها بوزويته لربط الإنسان الهلالي بالقضايا القومية بمفهومها الواسع فغدا متجاوبا مع محيطه الخارجي بعد أن تم ربطه بالمحيط الداخلي وأصبح عضوا بعد أن كان فردا.
يوم 27 نوفمبر 1929 أصدرت شعبة قصر هلال عريضة "استنكار لأعمال بريطانيا واضطهادها لعرب فلسطين". هذه العريضة التي أمضى بها 60 شخصا وجهت نسخة منها إلى جمعية الأمم بجينيف وأخرى إلى رئاسة الحكومة الفرنسية. وقد حررت بعد أن سافر محمد بوزويته صحبة الطاهر بن حمدة بوغزالة وأستاذنا صالح فرحات ومحي الدين القليبي وأضاف التقرير الأمني المؤرخ في 29 نوفمبر 1929 أن الأعيان غير راضين عن هذا العمل .
وهي معلومة لها أهميتها لأنها تكشف أن العريضة لم تكن مملاة من الحزب بل إنها على العكس مملاة على الحزب لأن المبادرة كانت من بوزويته وصحبه !
والحقيقة هي أن إبعاد أحمد توفيق المدني في جوان 1925 كان له تأثير بالغ على اللجنة التنفيذية التي أصبحت تحتاج إلى من يحرك سواكنها.
ويوم 30 جوان 1930 نشرت جريدة "الشورى" المصرية التي كان يصدرها المجاهد العربي محمد علي طاهر نص برقية صادرة عن شعبة قصر هلال بها "تعزية للأمة الفلسطينية" وتنديد بإقدام الاستعمار البريطاني على إعدام ثلاثة فلسطينيين.
ويدل نشر البرقية على أن رجال الشعبة كانوا يطالعون الجريدة – أو تطالع لهم- ويعرفون اهتمامها بقضايا التحرر بالعالم العربي وتدل بالتالي على تعدد مصادر "الوحي" لديهم.
ومما يزيدنا اقتناعا أنه صدرت بالجريدة نفسها والغرض نفسه برقية ثانية من "شباب مدينة قصر هلال بتونس" بإمضاء خلف الله بن يونس الحمروني (1904-1971) ويوسف بن صالح الغزالي (1900-1971) وسالم بن سعد بن الحاج خليفة (1914-1991) والطاهر بن حمدة بوغزالة (1900-1978) ومحمد بن الحاج فرج حريق (بن الحاج خليفة (1908-1989) وعبد الله بن علي بن حسين (...-...)
يوم 6 أوت 1930 اعتزم أربعة من "الدستوريين الذين يفسدون كل مكان "حسب تعبير كاهية المكنين وهم : محمد بن علي ابراهم – ومحمود بن أحمد سعيدان – والطاهر بن حمدة بوغزالة ويوسف بن صالح الغزالي- تقديم مسرحية "فتح الأندلس" بمناسبة المولد النبوي. وحاول الشيخان منعهم وتطورت الأمور حتى تحولت إلى قضية عدلية فقدم صالح فرحات عضو اللجنة التنفيذية للحزب" الذي قابل عددا من الدستوريين ومن بينهم محمد بوزويته المدعو "المعيرش". وإذا كان المجال يضيق عن ذكر أطوار القضية فإن ما كتبه الكاهية يدل على أن بوزويته كان يشرف عليها من بعيد .
وقد لاحظ رئيس شرطة المكنين يوم 5 أوت 1930 أن محمد بوزويته والحاج محمد بن الحاج سالم سعيدان يعقدان اجتماعات للدعاية الحزبية الأول بدكانه والثاني بمعمله ولاحظ أنها اجتماعات سرية .
وأضاف تقرير آخر يوم 23 أوت 1930 أن بوزويته كان بصدد ترويج بطاقات الانخراط في الحزب وأنه كان يتلقى عن كل انخراط سنوي اثني عشر فرنكا ونصفا .
ونشرت جريدة الشورى يوم 27 ماي 1931 عريضة ممضاة في 18 ذي الحجة 1349 من طرف 705 من قصر هلال للاحتجاج على "الأعمال الوحشية التي ارتكبتها الفاشية الإيطالية بطرابلس وبرقة من التراب الليبي" والعريضة موجهة إلى جمعية الأمم بجينيف رغم تقاعسها عن الواجب الذي وجدت لأجله "حسب تعبير العريضة. وذلك بالإضافة إلى أربع برقيات من جملة 19 برقية من كامل الإيالة . وإثر توقيف جريدتي "النهضة والوزير" أرسلت الشعبة برقية احتجاج يوم 2 جوان 1931.
يوم 28 جانفي 1932 صدر أمر علي بتعيين محمد بن العامري الكعلي شيخا للحي الشمالي بقصر هلال. وقد لاحظت عيون السلطة أنه لا يبلغ عن أسماء المضربين ولاعن تحركات الدستوريين – كما يفعل زميله بالحي الجنوبي – وأنه يقبل بمكتبه محمد بوزويته وجماعته. فصاحبنا موجود حتى بمكتب الشيخ !.
وانعقد مؤتمر الحزب الحر الدستوري أيام 2 و 3 و 4 ديسمبر 1932 حضره محمد بوزويته وخطب فيه أحمد الصافي والطاهر صفر ومحي الدين القليبي وصالح فرحات وسمي بالمؤتمر التحضيري .
ويومي 12 و 13 ماي 1933 انعقد مؤتمر الحزب الدستوري بنهج الجبل بالعاصمة وشاركت فيه قصر هلال مشاركة فاعلة بوفد ضم محمود بن يوسف سعيدان وعلي بن محمد منصور وفرج بن خليفة الإميم وترأسه محمد بوزويته.
وتم في ذلك المؤتمر إقحام جماعة "العمل التونسي" في اللجنة التنفيذية للحزب .
ولم يمض على ذلك المؤتمر سوى شهرين حتى حلّ البحري قيقة وهو أحد الأعضاء الجدد باللجنة التنفيذية بقصر هلال. وبينما كان مقيما بها أرسلت منها يومي 26 و 27 جويلية 1933 برقيات شكر لبعض النواب بالبرلمان الفرنسي نشرت لهم تصريحات بها تحرر إزاء القضية التونسية.
• برقية أولى يوم 26 جويلية حررها محمد بن سالم سعيدان إلى النائب Dominique وأمضى بها 124 شخصا.
• برقية ثانية يوم 26 جويلية حررها فرج الإميم إلى النائب Georges Monnet وأمضى بها 130 شخصا.
• برقية ثالثة يوم 26 جويلية حررها علي بن الدهماني الميلادي إلى النائب Guernut وأمضى بها 125 شخصا.
وقد أبلغ عن تلك البرقيات رئيس شرطة سوسة يوم 17 أوت 1933 .
وكان وراء كل ذلك محمد بوزويته.
قضية التجنيس
تعوّد الدارسون أن يربطوا قضية التجنيس بسنتي 1932 و1933 ربطا نعتبره بترا للحقيقة. فالقضية أقدم من ذلك، إذ هي تعود إلى شهر ديسمبر سنة 1923 حين صدر قانون فرنسي لتيسير اعتناق الجنسية الفرنسية ثم تبناه المقيم العام بتونس بقرار مؤرخ في جانفي 1924 ولا تمثل سنتا 1932 و 1933 إلا بروز القضية على مسرح الأحداث. ولا يعني ذلك أن الناس كانوا في غفلة من الأمر. وقد ورد بإحدى وشايات الناصر الشملي وهي مؤرخة في 9 ماي 1928 بأن محمد بوزويته يناهض التجنس وهذا يشير إلى أن إمام الجامع لا يناهضه ! – ولاشك أنه قد لاحظ موقف بوزويته حين تجنس صالح بن الحاج محمد الممي (1900-1969) بالجنسية الفرنسية في شهر ماي 1927 .
وقد طغت على سنة 1933 أحداث ناجمة عن اعتناق بعضهم للجنسية الفرنسية وطرح السؤال: هل يدفن المتجنس بالمقابر الإسلامية أم بمقابر النصارى ؟ وإذا رفضت الدوائر المسيحية باعتبار أن المتجنس ليس نصرانيا فقد اختلفت مواقف المسلمين واصطبغت باعتبارات سياسية. فقد أفتى الشيخ إدريس الشريف- مفتى بنزرت يوم 31 ديسمبر 1932 بجواز دفن الصبي بالمقابر الإسلامية وأن المتجنس مرتد تجب مقاطعته .
وفي أوائل 1933 قامت حكومة الحماية بواسطة الوزارة الكبرى باستفتاء المجلس الشرعي الأعلى بتونس فأفتت الأغلبية بأن التجنس لا يخرج المسلم عن دينه. فثارت في البلاد موجة من الاحتجاج وأضرب تلاميذ الزيتونة وكان من نتائج ذلك إحداث مقابر خاصة بالمتجنسين بأمر علي مؤرخ في 27 ماي 1933وإعفاء الشيخ محمد الطاهر بن عاشور – رئيس القسم المالكي من المجلس الشرعي – من إدارة الجامع الأعظم.
وما أن صدرت فتوى المجلس الشرعي حتى شنت قصر هلال إضرابا عاما وانتظمت يوم 21 أفريل 1933 -منذ الثامنة صباحا- مظاهرة نادى فيها المتظاهرون بسقوط التجنيس. وفي التاسعة التقى متظاهرو قصر هلال والمكنين وتحول الحشد – حسب تقدير شرطة المكنين- إلى ألفي متظاهر خطب فيهم يوسف بن صالح الغزالي والطاهر بن ميمون فضلون والطاهر بن علي ابراهم ورافقت الخطب أناشيد وطنية .
وإزاء تفاقم الاحتجاجات في الموضوع صدر أمر علي مؤرخ في 6 ماي 1933 يقضي بإنشاء المراقبة الإدارية على الأشخاص ردت عليه قصر هلال بثلاث برقيات احتجاج أمضى إحداها محمد بن عبد الرزاق الحجري ويحمل 29 إمضاء وأمضى الثانية محمد بن عمر القنوني وتحمل 34 إمضاء وأمضى الثالثة أحمد بن سالم عياد وتحمل 25 إمضاء .
وهي برقيات تحمل نصا واحدا وتثبت أنها من مصدر واحد : محمد بوزويته.
وإزاء سكوت سلطة الحماية عن تطبيق الأمر العلي المتعلق بأحداث مقابر خاصة بالمتجنسين بالبلدان التي يوجدون بها أصدرت قصر هلال يوم 18 ماي 1933 مجموعة من العرائض والبرقيات :
عريضة موجهة إلى الباي للاحتجاج على فتوى التجنيس تحمل 213 إمضاء
عريضة إلى إدارة الحزب الحر الدستوري لتأييده في دفاعه عن الجنسية والدين .
برقية عاجلة إلى إدارة الحزب بالمعنى نفسه
وقد بلغ عدد البرقيات الصادرة عن قصر هلال للاحتجاج على دفن المتجنسين بالمقابر الإسلامية أربعة .
ولم تجد سلطة الحماية من حل سوى حلّ الحزب الدستوري وإغلاق نواديه يوم 31 ماي 1933 وقد استمر مفعول هذا القرار إلى ديسمبر 1933.
وقد حدث بالمنستير ما كان متوقعا إذ توفي صبي ابن متجنس وأصر أبوه على دفنه بالمقبرة الإسلامية يوم 7 أوت 1933 واعترضت الجماهير على ذلك واستعملت الشرطة أسلحتها فسقط شعبان البحوري.
وعند دفن الشهيد يوم 8 أوت 1933 في الساعة الثانية والنصف بعد الزوال انتظم بالمنستير موكب شاركت فيه قصر هلال بوفد شعبي ترأسه محمد بوزويته وأحمد عياد حسب تقرير لمدير الأمن مؤرخ في اليوم نفسه .
وإزاء تصاعد الأحداث وتحول الاحتجاج إلى الصدام الدامي تلقى المراقب المدني بسوسة يوم 18 أوت 1933 برقية من المقيم العام لتخصيص أماكن بالمقابر الإسلامية لدفن المتجنسين بالبلدان التي يوجدون بها. فكلف عامل المنستير حسن السقا بتنفيذ الأمر بالنسبة إلى قصر هلال التي يوجد بها متجنس واحد. حل العامل يوم السبت 19 أوت 1933 صحبة خليفة المكنين محمد الحداد وشيخ الحي الجنوبي بقصر هلال صالح حمودة وعلي العامري الكعلي وكيل الأوقاف بقصر هلال وإمام الجامع الناصر الشملي واتفقوا على قطعة ملاصقة للمقبرة الإسلامية. لكن الدستوريين رفضوا طالبين أن تكون القطعة مستقلة تماما.
ورغم أن الحزب منحل بصفة رسمية ونواديه مغلقة فإن محمد بوزويته – حين علم بالأمر- جند جماعته – ومنهم إسماعيل بن إبراهيم سعيدان واحمد بن ابراهيم بورخيص وسعد بن أحمد الشرفي واتصلوا بالخليفة مساء وأقنعوه بضرورة تغيير الموقع عارضين موقعا آخر يفصله عن المقبرة الإسلامية طريق عام.
لكن المراقب المدني أصر على تنفيذ ما قرره العامل وجماعته.
ولم يدم الأمر طويلا، فقد حدث ما كان متوقعا. إذ لم يكن ذلك النساج الهلالي المتجنس يدرك تداعيات فعلته. فقد رزق الرجل طفلا توفي يوم 31 أوت 1933 وعمره شهر واحد.
اتصل كاهية المكنين بالمراقب المدني ليستشيره في الأمر فأمره بدفن الطفل بالمكان الذي حدده عامل المنستير. لكن الكاهية عاد ليعلمه أن الدستوريين احتلوا الموقع رافضين مغادرته والسماح بالدفن فاضطر المراقب المدني – صاغرا- إلى الموافقة على الموقع الذي اختاروه.
وفعلا فقد انتظمت مظاهرة ضمت 600 شخص احتلت المقبرة الاسلامية وبدأت في التضخم وأعلن أحمد عياد وسعد الشرفي أنهما يعترضان على الموقع الذي اختارته السلطة لأنه جزء لا يتجزأ من أوقاف المقبرة الإسلامية. قال الكاهية إنه حاول إقناع الناس طيلة ساعتين بدون جدوى. وأن الطفل دفن بالمكان الذي رغبوا فيه بعد استئذان المراقب المدني بحضور شرطة المكنين. وراح الكاهية يتذمر من أحمد عياد والطاهر بن حمدة بوغزالة اللذين يكونان رأس الحربة لكل عمل جماعي مناهض بقصر هلال .
وقد كتب رئيس شرطة المكنين يوم أول سبتمبر 1933 وكتب بعده مدير الأمن يوم 2 سبتمبر 1933 أن الطاهر بوغزالة – وهو كاهية رئيس الشعبة الدستورية بقصر هلال – هو الدافع والمنظم للمظاهرة .
هذا الحدث الذي حرّك كل أجهزة الدولة الحامية في كل مستوياتها كان وراءه – كما أوضحت مراسلة أحمد ساسي – محمد بوزويته الذي كان حريصا على عدم الظهور شخصيا لتجنيب الحزب المنحل من تداعيات الأحداث.
وإذا كان كاهيته بهيئة الشعبة الطاهر بوغزالة قد جازف بخوض غمارها فقد دفع ثمن ذلك ضربا مبرحا غداة الواقعة وعشرين يوما من السجن بالمنستير مما تحدثنا عنه في غير هذا المكان ويضيق عن ذكر تفاصيله هذا المجال.
وما يهمنا هنا هو تأكيد عامل المنستير الجديد محمد الزواري المعروف بلقب "بودبوس" الذي استهل نشاطه بقضية قصر هلال أن محمد بوزويته دائم الاتصال بمحي الدين القليبي وأن بالمنستير خمس شعب دستورية أخبثها وأشدها عصيانا هي شعبة قصر هلال التي يرأسها بوزويته صحبة كاهيته الطاهر بوغزالة. كتب ذلك في تقرير ذي ثماني صفحات بالخط الرقيق يوم 10 سبتمبر 1933 .
ورد محمد بوزويته وجماعته الفعل بتوسيع الجبهة إذ حررت يوم 23 سبتمبر 1933 عريضة مشتركة من قصر هلال وقصيبة المديوني والمنستير وبنان للتشهير بسعي عامل المنستير إلى استكتاب عريضة لفائدته .
فحرر عامل المنستير يوم 30 سبتمبر 1933 تقريرا يزعم فيه أن محمد بوزويته وعلي بن محمود الشملي – وهو عضو بهيئة الشعبة – يحرضان الناس على الامتناع عن دفع الضرائب وأضاف أن بقصر هلال 1828 يدفعون الأداءات وأن 75% منهم دستوريون وختم كاتبا: "وخلاصة القول فإن الوضع يبدو خطيرا بعمالة المنستير حيث يكون الدستوريون – وخاصة بقصر هلال – خطرا على الأمن العام".
وانتقل العامل من القول إلى الفعل فاعتقل الرجلين يوم 3 أكتوبر 1933 صحبة إبراهيم بن ضيا رئيس الشعبة الدستورية بالمكنين وحكم عليهم جميعا حكما شخصيا بخمسة عشر يوما من السجن مع تغريمهم بعشرين فرنكا .
وقد تساءلت جريدة "الوزير" عن سبب ذلك الاعتقال ووجهت "لسان الشعب" أصبع الاتهام إلى الإمام الناصر الشملي الذي عاد يتظلم من المشوشين وشهد معه الشيخ صالح حمودة "الذي كثيرا ما يشهد في مثل هذه المواقف" وأضافت الصحيفة : "كان نزول خبر إيقافهم على أهالي الساحل جميعا شديدا ولا حديث في المجتمعات والنوادي إلا عنهم وعما حاق بهم .
وقد أصدرت جريدة "لسان الشعب" التي تصدر عادة يوم الأربعاء عددا خاصا يوم السبت 7 أكتوبر 1933 "يحمل صورة محمد بوزويته للحديث عن القضية وتصرفات عامل المنستير وكاهية المكنين.
كما نشرت جريدة "الزهرة" يوم 9 أكتوبر 1933 نص عريضة طويلة الذيل تحت عنوان "شكوى من المنستير" لخصت فيها مواقف الناصر الشملي إزاء محمد بوزويته ورفاقه .
ومن الطريف أن محمد بوزويته وعلي الشملي وابراهيم بن ضيا وأحمد الشطي (من مساكن وكان قد سبق الجماعة إلى السجن) حرروا في سجنهم بالمنستير يوم 10 أكتوبر 1933 رسالة طويلة موجهة إلى "جمعية الرفق بالحيوان" ليصفوا سجن المنستير وظروف الإقامة فيه ويعبروا عن سرورهم بمشاركة إخوانهم في الإنسانية في آلامهم وأشجانهم بلهجة لا تخلو من السخرية ولم يلبث المراقب المدني Graignic الحاقد على قصر هلال حسب تعبير جريدة الزهرة حتى عين بالعاصمة مراقبا مدنيا مساعدا يوم 12 أكتوبر 1933 أي بعد أسبوع من اعتقال المجموعة وسوف لن يلبث عامل المنستير بدوره مدة طويلة إذ نقل إلى مدنين يوم 31 مارس 1934 .
وندرك منزلة تلك المجموعة لدى الناس حين نعلم أنهم احتفلوا بنقلة المراقب المدني واعتبروه عزلا. وقد جلب عثمان بن محمود الشملي - أمين مال الشعبة- جريدة الدبيش وبشّر الأهالي بالخبر وكلف مناديا (براح) ينادي: "يا من وجد زربية ثمنها 500 فرنك" وهو يقصد زربية أهداها الناصر الشملي إلى المراقب المدني وضاعت بذهابه . وقد أنكر المراقب المدني وكتب في هامش التقرير الذي اشترك في تحريره الناصر الشملي والشيخ صالح حمودة يوم 16 أكتوبر 1933 أنه لا يعرف إمام قصر هلال .
وقد بلغت القضية أعلى هرم السلطة حين تدخل أحمد الصافي مدير الحزب لدى المقيم العام الفرنسي يوم 13 أكتوبر 1933 فصدر الأمر إلى وكالة الدولة بسوسة بإطلاق سراح المجموعة بكاملها. وقد نفذ عامل المنستير الأمر على مضض ولم يكن المسكين يعلم أن الأمر صادر عن المقيم العام نفسه !
ويوم 16 أكتوبر 1933 أطلق سراح المجموعة على دفعتين. وكان يوما مشهودا. وما يثير التساؤل وحتى الدهشة هو كيف بلغ الناس خبر الإفراج حتى يقع إعداد ذلك الاستقبال ! فهم حوالي 600 شخص ينتظرون تحت الزياتين في مدخل قصر هلال على طريق المنستير وبأيديهم خمسون علما تونسيا حتى وصل الثلاثي: محمد بوزويته وعلي الشملي وإبراهيم بن ضيا في الثانية بعد الزوال. وبعد الطواف بقصر هلال والهتاف بحياة الحزب وسقوط العامل شيعوا إبراهيم بن ضيا إلى المكنين وعادوا إلى قصر هلال .
ولم تنس الجماعة أن تمر على الجامع الكبير عند إقامة الصلاة بإمامة الناصر الشملي وبأيديها عدة رايات لتهتف بحياة الحزب وسقوط الخونة وقد لوحظ من بينها :
محمد بن عمر بوزويته
علي بن محمود الشملي
محمد بن علي بوزويته
خليفة بن سالم الميلادي
عبد الله بن خليفة حفصة
محمد بن سالم الجخراب
سالم بن محمد بوغزالة
وقد غادروا الجامع ورافقوا بوزويته والشملي إلى منزليهما
وأطلق سراح بقية المجموعة مساء ذلك اليوم
ومما يشير إلى وقع القضية ووزن أطرافها جهويا أن وفدا يتركب من سبعين شخصا حل بقصر هلال قادما من جمال مساء يوم 17 أكتوبر 1933 على متن خمس سيارات وشاحنة ليكون اللقاء بمخبزة محمد سويسي احتفاء بمحمد بوزويته وعلي الشملي
لقد كانت ملحمة وكان محمد بوزويته قطب رحاها !
لكنه لم يركن إلى الراحة بعد إطلاق سراحه. وقد رأينا أنه تولى العضوية بأول نقابة هلالية للنسج عند تأسيسها أواسط شهر نوفمبر 1933 كما أبلغ تقرير أمني مؤرخ في 16 نوفمبر 1933 عن انخراط 16 شخصا من بنان في الحزب بإيعاز من دستوريي قصر هلال والمنستير .
الانشقاق
وقبل أن نتقدم في مسيرة بوزويته نرى ضروريا أن نتوقف عند أربعة أحداث جدت على الساحة الوطنية ولا يمكن أن نسلك طريقنا بدون أن نأخذها بعين الاعتبار. ونكتفي بتلخيصها في أربعة اسطر.
يوم 7 سبتمبر 1933: استقالة الحبيب بورقيبة من اللجنة التنفيذية احتجاجا على ما اعتبره تدخلا في شؤونه الخاصة.
في شهر نوفمبر 1933: رفت البحري قيقة من اللجنة التنفيذية لإفشائه سرا حزبيا.
يوم 18 نوفمبر 1933: اصدر أحمد الصافي منشورا يحذر الشعب الدستورية من الاستماع إلى الحبيب بورقيبة لزوال الصفة الحزبية عنه.
يوم 7 دسيمبر 1933 : استقالة محمود الماطري والطاهر صفر وامحمد بورقيبة من اللجنة تضامنا مع زميليهم.
وإذا كان بوزويته قد واصل تحركه بعد استقالة الحبيب بورقيبة – كما رأينا- وكأنها لم تكن فان بقية الأحداث حملته على التوقف
وفي مقدمة تلك الأحداث ذلك المنشور:
جاءه المنشور فتوقف. أدرك أن زلزالا ضرب القيادة الحزبية- والحزب منحل رسميا- فتوقف لينظر حتى ينقشع السحاب عسى أن تتضح الأمور. كأن يحسب أن استقالة الحبيب بورقيبة أمر عابر يمكن معالجته حتى جاء المنشور ليكرس القطيعة ويقطع كل أمل في رأب الصدع. فأصابه ما يشبه الذهول.
تجاوزت الأحداث كل توقعاته وهو الذي كان يحسب أن اللجنة التنفيذية للحزب قد دبت فيها الحياة بفضل العناصر الجديدة التي لم يمض على إقحامها إلا أربعة أشهر وكان يحسب أن قطار الحركة الوطنية قد انطلق وإذا به يرى فشل عملية التطعيم برمتها.
ثم جاءت يوم 9 ديسمبر 1933 وفاة راجح إبراهيم عضو اللجنة التنفيذية والمحامي الذي قام بالدفاع عنه أمام المحكمة يوم 4 فيفري 1926 لتشعره بقتامة الوضع. لقد حدث ما لم يكن في الحسبان. ولا نشك في أن الرجل قد أصيب بما يشبه الدوار. وها هو لا يبدي حراكا.
حتى إذا جاء المنشقان الحبيب بورقيبة والطاهر صفر صحبة الشاذلي قلالة يوم 3 جانفي 1934 يطلبان تمكينهما من عقد اجتماع بنادي الشعبة بقصر هلال رفض .
كان عليهما أن يدركا أن محمد بوزويته ليس من صنف الرجال الذين يمضون الصكوك على بياض. فماذا قدما للقضية الوطنية حتى يقدما ذلك الطلب ؟ لقد كان يعرف الطاهر صفر من خلال تعامله مع إحداث مدرسة الهلال سنة 1929 لكنه لم يكن يعرف عن الحبيب بورقيبة إلا ما استطاع أن يطلع عليه من المقالات. وقد صرح الحبيب بورقيبة نفسه أنه لم يكن يعرف آنذاك أحدا بقصر هلال بما في ذلك بوزويته فهل كل هذا يسمح له – ولأي عاقل- بأن يفتح لهما نادي الشعبة؟ وهل ذلك يكفي لكي يعصي أمر لجنة هي- على علاّتها- تمثل الحزب في أعلى الهرم؟ أليس نادي الشعبة من ممتلكات الحزب الذي استقالا من لجنته التنفيذية ؟ ألا يعتبر تسليمه لهما خيانة لمؤتمن؟ ماذا كان يفعل الرئيس الحبيب بورقيبة لو سلم أحد رؤساء شعب الحزب الحاكم -بعد ذلك- نادي الشعبة إلى المعارضين؟
لا نظن أن سبب الرفض كان – كما زعم أحمد بكير محمود- شخصانيا وأن عدم التوجه إليه مباشرة قد حز في نفسه بل لا نتصور أنهما لم يكونا يعرفان منزلة بوزويته بالبلاد. ومعهما الشاذلي قلالة الذي كان يشتغل بقصر هلال. وقد أقر الحبيب بورقيبة بذلك لاحقا. كلاّ فالرجل كان مقتنعا بموقفه أشد الاقتناع مؤمنا بأنه لا يجوز له أن يضع النادي تحت تصرف المنشقين بعد أن صدر المنع الواضح وتعذر الاجتهاد.
وقد طبع ذلك الرفض علاقات الرجلين إلى درجة أن الحبيب بورقيبة بقي يردده بعد وفاة بوزويته بعقود وإذا كانت الاعتبارات الشخصية قد تحكمت في أحدهما فإنها بدون شك تحكمت في الحبيب بورقيبة !
وقد راح الحبيب بورقيبة – غفر الله له- يتندر كعادته "بشربة الماء" التي لم تقدم إليه ذلك اليوم من شهر رمضان ! ألم يكن من الأجدر لو رتب الظروف لذلك الاجتماع المزمع انعقاده؟ أليست قصر هلال على مرمى حجر من المنستير؟ أهكذا يقع إعداد الاجتماعات العمومية؟ وهل تعد النوادي والمنصات والكراسي والأطعمة والمشروبات ووو بعصا سحرية ؟ أما كان على الجماعة المنشقة أن تحاسب نفسها قبل أن تنسب أسباب الرفض إلى الآخرين؟
لقد رأينا من خلال مسيرة بوزويته رجلين أحدهما منضبط اشد الانضباط حين يتعلق الأمر بالقضايا الوطنية وثانيهما مناضل حر حين يتعلق بالإصلاح الداخلي بقصر هلال. هذان الرجلان تعايشا في نفس بوزويته في تناغم كامل. وما بدا للحبيب بورقيبة انكماشا" يوم 3 جانفي 1934 كان انضباطا يتطلبه كل عمل حزبي بدونه تكون الفوضى وتزول مصداقية الأحزاب. أنه ميثاق الشرف لكل متحزب و لم يكن بورقيبة يعرف فصول ذلك الميثاق. ولما عرفها أصبح حريصا عليها إلى حد الاختناق.
وعلى كل حال فقد انعقد الاجتماع ذلك اليوم 3 جانفي 1934 ليلا بدار أحمد عياد وقيل إن محمد بوزويته حضره متنكرا. وهي معلومة نسجلها باحتراز إذ لم نجد ما يؤكدها أو ينفيها غير أننا نلاحظ أن ملامح محمد بوزويته يصعب إخفاؤها ثم إن الرجل لم يكن قط ميالا إلى التمثيل !
يوم 16 جانفي 1934 حضر محمد بوزويته اجتماعا عقده الحبيب بورقيبة على قبر شعبان البحوري بالمنستير بمناسبة عيد الفطر و ربما تعرف الرجلان على بعضهما في تلك المناسبة .
مؤتمر 2 مارس 1934
نعرف جميعا نص ما سمي باستقالة الشعبة الدستورية بقصر هلال وقد نشر ذلك النص أكثر من مرة واعتبر أمرا واضحا كل الوضوح. والأمر على عكس ذلك تماما. أما نصها فهو التالي:
"حضرة الأستاذ الفاضل السيد الحبيب بورقيبة
أما بعد فليكن في علمكم أن لجنة الشعبة الدستورية بقصر هلال قد استقالت مؤقتا احتجاجا على قبول استقالتكم ورفت الأخ البحري قيقة وتقول في استقالتها أنه إذا لم يقع تسوية الخلاف وإرجاع المياه إلى مجاريها أو عقد مؤتمر عام في القريب العاجل فإن شعبة الحزب الدستوري بقصر هلال تستمر على استقالتها إلى أن تقرر الأمة مصيرها دمتم في حفظ الله والسلام.
من أحمد ساسي وأحمد عياد"
هذه الفقرة مليئة بالفخاخ والألغام
1- إنها ليست استقالة بل هي إعلام بالاستقالة. أو هي تهديد بالاستقالة. ثم إنه إعلام غير مؤرخ و إن كان يتضمن تحديدا لفترة أدناها شهر نوفمبر 1934- تاريخ رفت البحري قيقة وأقصاها 7 ديسمبر 1934 تاريخ استقالة بقية المجموعة.
2- فأين هي الاستقالة؟ ومن أمضى بها؟ إذ ما يجب أن لا ننساه أنه لم يكن أحمد ساسي ولا احمد عياد عضوا بهيئة الشعبة فضلا عن أن يكون أحدهما رئيسا لها.
3- ألا تكون تلك الرسالة التي كان اتصل بها الحبيب بورقيبة قبل حلوله بقصر هلال يوم 3 جانفي 1934 سببا في عدم توجهه إلى محمد بوزويته مباشرة؟ وإذا أفادنا ذلك النص بشيء فهو يفيدنا بأن رئيس الشعبة محمد بوزويته لم يقدم استقالة الهيئة وأن "الاحمدين" سبقا الأحداث و وضعاه أمام الأمر المقضي. وهو لم يكن يعتبر نفسه مستقيلا في أي وقت من الأوقات. وحتى يوم 3 جانفي 1934- أي بعد تلك الرسالة بشهر- اعتبر أنه مؤتمن على نادي الشعبة بقصر هلال. فهل هذا موقف مستقيل؟
أما تعلة أن محمد بوزويته رجل أمي فإنها مردودة لأنه أصبح منذ بضعة أعوام قادرا على القراءة والكتابة أي أنه أصبح قادرا على تقديم استقالة كتابية. فأين هي ؟ يقيننا أنها لم تكتب إطلاقا !
رسالة فريدة من نوعها بخط محمد بوزويته إلى صديقه الحاج الطيب بنبلة بمناسبة عيد الفطر الذي كان يقضيه ببرج البوف سلمنا إياها الصديق صابر البنبلي.
ثم إننا لم نسجل لأحمد ساسي سوى نص واحد حرره باسم الشعبة بجريدة "العمل" يوم 10 جويلية 1934 للحديث عن حفل أقيم بمناسبة المولد النبوي وأمضاه باسم "أحمد ساسي: مقرر الشعبة". ألا يكون محمد بوزويته قد قطع تكليفه بالكتابة باسم الشعبة منذ ذلك الحين؟ وإذا كان أحمد ساسي قد توفي سنة 1978 لماذا سكت عن كامل الفترة التي لحقت ذلك والتي امتدت أكثر من أربعين عاما؟
هيئة الشعبة ليلة انعقاد المؤتمر
اللجنة التنفيذية لشعبة قصر هلال ويرى في الوسط رئيسها المفضال السيد محمد بوزويته
من كتاب: مؤتمر البعث، الحزب الحر الدستوري، 1962.
الرئيس: محمد بن عمر بوزويته (1880-1944): تاجر في الخيط ومواد الصباغة
كاهيته: الطاهر بن حمدة بوغزالة (1900-1978): حياكة
الكاتب العام: محمد بن علي إبراهم (1897-1945 ) : حياكة
كاهيته ؟
أمين المال: عثمان بن محمود الشملي (1900- 1994 ): تاجر منسوجات
كاهيته ؟
الأعضاء: سالم بن حسن جمور (1903-1983) : تاجر مواد غذائية
علي بن الدهماني الميلادي (1903 - ؟) : حياكة
الطاهر بن خليفة رورو (1906- ؟) : اسكافي
محمد بن فرج بن الحاج خليفة (1908-1989) : حياكة
علي بن محمود الشملي (1903-1986) : تجارة
محمد بن عبد الرزاق الحجري (1905-1995) : تجارة
الهذيلي بن علي رضوان (1904-1984) : تجارة
ملاحظات:
1- تركيبة توصلنا إليها اعتمادا على وثائق عديدة
2- ذكرت مجلة "المؤتمر" التي صدرت بقصر هلال في مارس 1969 أن أحمد ساسي عضو بالهيئة وذلك خطأ. وأغفلت علي الشملي وذلك خطأ أيضا.
3- معدل أعمار الهيئة 32 عاما سنة 1933 و قد كان المعدل سنة 1921: 43 عاما
4- كافة الأعضاء ينتمون إلى مهن حرة
محمد بوزويته كان يرغب في انعقاد مؤتمر يضم كافة الدستوريين لا بعضهم. كان يرغب في الاستماع إلى الطرفين ويترك الحكم للدستوريين. على هذا الأساس رفض المشاركة في اجتماع 3 جانفي 1934 وعلى هذا الأساس حاول استحضار اللجنة التنفيذية لمؤتمر 2 مارس.
كتبت جريدة "الأخبار" يوم 2 جوان 1955 أن بوزويته حاول يوم أول مارس 1934 إقناع محي الدين القليبي مدير الحزب بحضور المؤتمر وأن محاولته باءت بالفشل وقال أحمد ساسي في شهادة أدلى بها إلى مجلة "المؤتمر" الصادرة بقصر هلال في مارس 1969 إنه توجه رفقة محمد بوزويته إلى مدينة سوسة يوم أول مارس 1934 وقابلا محي الدين القليبي والمنصف المستيري فأجاب القليبي: "كنت أود أن آتي إلى قصر هلال لا لحضور اجتماعكم بل لتأبينك".
سعى بوزويته إلى التوفيق بين الطرفين فأغضب الطرفين
ولما يئس من حضور اللجنة التنفيذية انظم إلى المؤتمر وسوف نستشف أثر المرارة في الكلمة التي ألقاها عند الافتتاح.
قال الحبيب بورقيبة – وهو الداعي إلى عقد المؤتمر بقصر هلال – يوم 3 جويلية 1955 إن لوجود محمد بوزويته وأحمد عياد بقصر هلال دورا في ذلك الاختيار وأيده في ذلك الطيب بن عيسى صاحب جريدة الوزير يوم 3 ماي 1934 وقال في خطاب 6 مارس 1959 بعد أن طرح السؤال: لماذا عقدنا المؤتمر الأول بقصر هلال؟ "كان لشعبة قصر هلال الدستورية وزنها في الحزب. ولعل السر في ذلك راجع إلى نشاط ومقدرة قادتها الأولين أمثال المرحوم محمد بوزويته ..." وأضاف : "كاد الوضع يؤول إلى انتقال اللجنة التنفيذية إلى قصر هلال إذ لم يبق نشاط في غيرها" وختم: "خلاصة القول إننا كنا نود الظفر بمناصرة الأحرار بقصر هلال وجلبهم إلى شد أزرنا".
إنه اعتراف عظيم الأهمية لأنه صادر عن رجل يقع مع محمد بوزويته على طرفي نقيض وإن كانا في خندق وطني واحد. فهو اعتراف بريادة قصر هلال في النضال الوطني واعتراف بدور محمد بوزويته وصحبه.
انعقد المؤتمر يوم الجمعة 2 مارس 1934 الموافق لـ 17 ذي القعدة 1352 من الساعة التاسعة صباحا إلى الواحدة بعد الزوال ثم من الخامسة مساء إلى التاسعة ليلا.
وقع تسخير القرية بكاملها لاستقبال الضيوف: المنازل للطبخ والحمامات للمبيت.
واللافت للنظر أن الوفود وقع اقتبالها بنادي الشعبة وهذا يدل على أن بوزويته أعطى للمؤتمر الشرعية التي كان يحتاج إليها. فقد كانت اللجنة التنفيذية تتهم البحري قيقة بأنه يريد تأسيس حزب آخر وإن فتح نادي الشعبة الدستورية للمؤتمرين يثبت أن المؤتمر ليس مؤتمرا لتأسيس حزب آخر بل هو مؤتمر للحزب الحر الدستوري.
نقل الأديب الصحفي سعيد بن محمد بن الحاج محمد بن بوبكر أصيل المكنين والمعروف باسم "سعيد أبو بكر" فعاليات المؤتمر من ساعته الأولى إلى ساعته الأخيرة. نقلها وهو سعيد ليتمتع بسقوط اللجنة التنفيذية التي وقع رفته منها منذ ستة أعوام باقتراح من محي الدين القليبي ونشرت جريدة النهضة مقالاته لعداوة قديمة بينها وبين تلك القيادة فالنهضة – كما قالت في إحدى افتتاحيتها- أنشئت لتكون لسان "الحزب الإصلاحي" المنشق- هو الآخر- عن الحزب الحر الدستوري. فنشرت المقالات باثني عشر عددا من الجريدة بداية من 10 مارس 1934. ثم جمعها سعيد أبو بكر وأصدرها في كتيب بمطبعة "الإتحاد" تحت "عنوان المؤتمر العام" في السنة نفسها قبل أن يعيد الحزب نشرها في 2 مارس 1967 ولولا ذلك الغضب المزدوج لما أتيحت لنا فرصة الاطلاع على فعاليات المؤتمر مثلما حصل بمؤتمرات أخرى.
من الأخطاء التي ارتكبت في خصوص المؤتمر:
1- قول جريدة الوطن " يوم 8 أوت 1937 أن امحمد الجعايبي رأس مؤتمر قصر هلال.
2- قول محمود الماطري: المناضل الشيخ بشعبة قصر هلال محمد بوزويته الذي مازال مترددا لم يشارك في المؤتمر لكنه بقي في اتصال غير مباشر بالمؤتمرين فأين كان حضرة الدكتور حين تولى محمد بوزويته كلمة افتتاح المؤتمر؟
مشهد من المدعوين لمؤتمر 2 مارس 1934 يتوسطهم محمد بوزويتة
"دخل المؤتمرون بذلك المحل (دار عياد) الذي أسست فيه أول شعبة دستورية بالقطر التونسي" .
كان من المفروض أن يصطحب كل نائب وثيقة تثبت هويته وتؤكد تفويضه من طرف شعبته حسبما جاء في نص الدعوة غير أن خمسة أشخاص لم تكن بأيديهم نيابات كتابية. وقد اعترض بوزويته على قبولهم ثم قرر المؤتمر قبولهم بأغلبية الأصوات. ولم يعترض إلا محمد بوزويته وبلحسن بن جراد نائب شعبة ترنجة بالعاصمة ويشير هذا الموقف إلى أن بوزويته لا يبني مواقفه على المجاملات.
وإذا كانت فعاليات المؤتمر تخرج عن نطاق بحثنا فإننا سنتوقف عند ما يتعلق منها بمحمد بوزويته:
كتب سعيد أبو بكر بجريدة النهضة يوم 10 مارس 1934 بإمضاء "دستوري على الحياد": "... وبعد ذلك صعد السيد محمد بوزويته رئيس شعبة قصر هلال وارتجل خطابا رحب فيه بالحاضرين واعتذر لهم عن التقصير في القيام بواجبات القبول لأن بلدتهم ليست (بلاد سوق) وأنها لم تكن تترقب وقوع مثل هذا المؤتمر فيها وطلب أن يكون مرماهم خدمة الوطن المقدس وتطهير الإسلام مما ألصقه به أعداؤه وقد قوبل خطابه بالتصفيق الحاد...".
وأدخل سعيد أبو بكر تغييرا عند طبع الكتاب في شهر ماي من العام نفسه: "... بعد الترسيم والنظر في النيابات أسندت رئاسة المؤتمر للوطني الغيور السيد محمد بوزويته رئيس الشعبة الدستورية. بمدينة قصر هلال ووقع التصويت عليه بالإجماع فافتتح المؤتمر بخطاب وجيز اثر في النفوس أجمل تأثير إذ قال إن بلدة قصر هلال تحتفل بالزائرين وتعتذر لهم عن عدم وجود المرافق الكافية للمبالغة في إكرامهم فصاح الوافدون جميعهم بأن مدينة قصر هلال قد أكرمتهم غاية الإكرام وبأنهم ممنونون لها ويطلبون من الله تعالى أن يسعد أهلها
لقد طرح سعيد أبو بكر دعوة بوزويته إلى الإخلاص في خدمة الوطن وتطهير الإسلام مما علق به من الشوائب و ذلك – في نظرنا- أهم ما ورد بالخطاب.
وعلى كل حال فقد كتبت جريدة الصواب يوم 9 مارس 1934 ما نصه: "قام الوطني الحر السيد محمد بوزويته رئيس شعبة قصر هلال وألقى خطابا بصفة كونه رئيس المؤتمر حث فيه الحاضرين على الوفاق والوئام ودعاهم إلى خدمة القضية التونسية بإخلاص وانقطاع وترجى منهم مقاومة البدع وما أدخل في الدين من خزعبلات وخرافات التي ليست منه في شيء فقوبل خطابه بالتصفيق الحاد" .
يقيننا أن ما طرحه سعيد أبو بكر من كلمة بوزويته هو أهم ما فيه: الوفاق والإخلاص والإصلاح. وهي كلمات طبعت مسيرة محمد بوزويته من المنطلق حتى النهاية أما ما أبقاه من الخطاب فهو تبادل مجاملات تقتضيها المناسبة وظروفها.
وقد أسفرت انتخابات المجلس الملي للحزب عن فوز محمد بوزويته ضمن 20 عضوا .
يوم 26 افريل 1934 أوفد الديوان السياسي محمد بوزويته وعبد الكريم الواد رئيس الشعبة الجديدة بالمكنين إلى أحمد الصافي قصد تمكينهما من حضور المؤتمر الذي أعلنت اللجنة التنفيذية عن انعقاده بنهج غرنوطة بالعاصمة. وإذا كان قبول القليبي بتمني الموت لبوزويته فان الصافي طرد الرجلين من مكتبه مهددا إياهما بدعوة الشرطة .
وانعقد المؤتمر يومي 26 و 27 أفريل 1934.
وأطلق سعيد أبو بكر صفة "غرنوطي" على المشاركين فيه ثم انتقلت الصفة لتشمل أنصار الحزب القديم.
هذا الدكان كان مقرا للشعبة الدستورية سنة 1934 رفض بوزويته تسليم مفتاحه للمنشقين ليعقدوا فيه اجتماعا. فأي اجتماع يمكن أن يسعه دكان؟
(دكان العاتي حاليا بنهج الجمهورية).
استئناف العمل
واستأنف محمد بوزويته نشاطه مع القيادة الجديدة فانعقد يوم أول ماي 1934 اجتماع بمكتب الحبيب بورقيبة بالعاصمة ضم أحد عشر من أعضاء المجلس الملي- من بينهم محمد بوزويته لدرس النشاط المستقبلي للحزب .
ونشر بجريدة العمل يوم 15 جوان 1934 مرحبا بميلادها وقد كان إنشاؤها أحد مقررات مؤتمر البعث. كما ساهم في جمع التبرعات لفائدة اقتناء مطبعة لها (أنظر نص الرسالة بالملحق عدد 6) .
وجاءت أحداث 5 سبتمبر 1934 لتشعل المنطقة من جديد. وهي أحداث نجمت عن اعتقال الحبيب بورقيبة ورفاقه يوم 03 سبتمبر.
كانت المظاهرة منعرجا هاما في تاريخ الحركة الوطنية. فقد تكون المرة الأولى التي تنظم لمساندة القيادة عند الشدائد ولم يستعمل من قبل سلاح الضغط الجماهيري ولم يتجاوز تجاوب الناس مع القيادة- كما رأينا عند مضايقة عبد العزيز الثعالبي أو إبعاد أحمد توفيق المدني- حدود العرائض وبرقيات الاحتجاج وقد تعودنا أن نرى القيادة تسعى- أحيانا- إلى حماية الدستوريين كما رأينا عند تدخل أحمد الصافي لفائدة بوزويته سنة 1933 . وهي المرة الأولى –على حد علمنا- التي تهب فيها الجماهير لحماية قادتها. وقد تكرر الأمر بعد ذلك في حوادث أفريل 1938 وفي جانفي 1952. كما وقع في النطاق المحلي عند اعتقال بعض الوجوه الوطنية البارزة.
وسوف يكون لذلك التحول دور له شأن في الكفاح الوطني إذ لم يعد إيقاف القيادة يؤدي إلى إخماد الثورة بل أصبح يؤججها وأصبحت سلطة الاحتلال تختار أحد أمرين أحلاهما مر: إيقاف أم لا إيقاف؟
والحقيقة هي أن دور محمد بوزويته في أحداث يوم الأربعاء 5 سبتمبر 1934 غامض إلى أبعد الحدود. فقد تتبعنا أخبار "المظاهرة الأولى" التي وقعت يوم الاثنين 3 سبتمبر لتسليم كاهية المكنين وقصر هلال مذكرة تطالب بإطلاق سراح المعتقلين فورا ثم مظاهرة يوم الثلاثاء التي ضمت ألفي شخص من المكنين و قصر هلال لتسليم عريضة ثانية ثم تفحصنا ما جرى يوم الأربعاء و هو يوم السوق الأسبوعية بالمكنين. مع العلم أن سوق المكنين تمثل أكبر سوق أسبوعية بالساحل تتجمع فيها آلاف الخلائق. لذلك اختيرت من طرف منظمي المظاهرة. فهناك كانت السلطة وهناك كانت وسيلة الضغط عليها.
درسنا ما جرى ولم نر لمحمد بوزويته غير دور واحد يتمثل في محاولة التهدئة بعد اشتباك الأمور.
قال محمد الطاهر عقير إن محمد بوزويته التقى يوم 3 سبتمبر 1934 بمحمد زخامة وهو أحد القادة الدستوريين بالمكنين وكان يعمل آنذاك معلما بمدرسة "الهلال" بقصر هلال. ولا شك أن اجتماع الرجلين كان يهدف إلى تنسيق العمل المحلي فماذا تقرر؟ لا ندري.
ما نعلمه على وجه اليقين هو ما جرى:
جاء في كتاب أصدره الحزب الحر الدستوري أن الشعبة المحلية بالمكنين كانت عازمة على المحافظة على الهدوء وأن قدوم 400 شخص من قصر هلال رافعين الأعلام غير المعطيات فاضطر عبد الكريم الواد – رئيس الشعبة الجديدة بالمكنين – إلى تسليم عريضة إلى الكاهية . ثم كان الاشتباك مع الشرطة وكان سقوط القتلى والجرحى مما يضيق عن تفصيله هذا المجال .
أما بوزويته فقد شوهد وهو يسعى إلى تهدئة الوضع وقد ذكر أحد الشهود أثناء محاكمة الموقوفين يوم 18 ماي 1937 أنه رأى محمد بوزويته يدخل الكهاية ثم يخرج ويقول للمتظاهرين: اذهبوا .
وقد أدلى بوزويته صحبة رفيقه بالشعبة محمد بن علي ابراهم بحديث إلى جريدة الوزير يوم أول جويلية 1937 حملا فيه مسؤولية الأحداث لخليفة المكنين محمد الحداد الذي استفز الجماهير.
فمن الواضح أن بوزويته لم يكن يتوقع أن يتحول تجمع الاحتجاج السلمي إلى اصطدام تسيل فيه الدماء.
لكن ذلك الموقف وإن تسبب في عدم إيقافه الفوري فإنه لم يحل دون وضعه تحت المراقبة. فاضطر إلى التخفي. قال لنا الطاهر بن عبد القادر بوزويته الذي كان وما يزال يملك نزلا شعبيا بالعاصمة إنه تخفى بدار الرصاع بنهج الوصفان وقال غيره إنه تخفى بحي ترنجة بالعاصمة. وراحت السلطة تبحث عنه ضمن القوافل المتوجهة إلى طرابلس بعد أن صدر قرار باعتقاله .
ويستوقفنا هنا بلاغ نشره محمد بوزويته بجريدة "الوزير" يوم 15 نوفمير 1934- وهو في مخبئه – يتبرأ فيه مما يمكن أن ينسبه إليه الناصر الشملي إمام الجامع الكبير وعلي بن العامري الكعلي وكيل الأوقاف بقصر هلال وهو بلاغ يحملنا على التساؤل عما يمكن أن ينسبه إليه الرجلان !
ولم يغادر محمد بوزويته مخبأه إلا يوم 28 ديسمبر 1934 ليشرف على انتخاب هيئة شعبة المكنين بعد وفاة عبد الكريم الواد وهو انتخاب علقت عليه شرطة المكنين زاعمة أن الهيئة الجديدة يرأسها العجمي سليم ويسيرها بوزويته الذي سمي رئيسا جهويا .
وأعتقل بوزويته يوم 15 جانفي 1935 أي بعد أسبوع واحد وأودع سجن سوسة بدون محاكمة وقد طلب وكيله السراح المؤقت فلم تكتف محكمة سوسة بالرفض يوم 22 فيفري 1935 بل "قررت زيادة سجنه على ذمة التحقيق شهرين آخرين" .
وفي اليوم الذي أبلغت فيه جريدة الوزير عن اعتقال بوزويته - أي يوم 17 جانفي 1935- أبلغت جريدة "الزهرة" عن إقتبال المقيم العام لوفود من أعيان المملكة جاءت تقدم "شواهد الإخلاص" ولاحظنا من بينهم الصادق الديماسي رئيس أول شعبة دستورية بقصر هلال ورفيق بوزويته بهيئتها. فيا لسخرية الزمان !
وبالسجن تلقى محمد بوزويته يوم 3 مارس 1935 بطاقة بريدية من الحبيب بورقيبة المبعد ببرج القصيرة (الاسم الأصلي لبرج البوف) أجاب عنها برسالة مؤرخة في 4 مارس 1935 بها تعبير عن الود والإخلاص (أنظر نص الرسالة بالمحلق عدد 7).
ونحن نشتم من تاريخ البطاقة رائحة التذكير بمؤتمر 2 مارس 1934. فهو تلميح لسنا ندري إن كانت إدارة السجن قد أدركته.
وقضى بوزويته سبعين يوما بالسجن بدون محاكمة وبدون تهمة محددة ثم أطلق سراحه بمناسبة عيد الأضحى يوم 14 مارس 1934 بشرط أن لا يذهب إلى قصر هلال. لكنه ذهب إليها فقضى بها ساعة ثم عاد إلى سوسة.
ويوم 18 مارس ذهب إلى العاصمة بدعوة من إدارة الحزب ثم عاد يوم 19 مارس إلى قصر هلال حيث زاره الكثيرون- ولسنا ندري إن كان يعلم أنه محل مراقبة تحصي عليه خطواته .
وقد كان لإطلاق سراحه على رجال السلطة وقع الصاعقة
فقال خليفة المكنين يوم 20 مارس 1935 إن بوزويته وراء كل المظاهرات بكهاية المكنين وأنه لا يملك شيئا يخشى عليه وأنه رجل أمي يعيش للحزب وبالحزب وإن إطلاق سراحه سوف يعيد اللحمة الدستورية التي انحلت منذ اعتقاله وطالب بإبعاد بوزويته عن المنطقة كي يعود إليها الهدوء.
وعدد رئيس شرطة المكنين يوم 20 مارس 1935 مخالفات بوزويته وطالب بإبعاده .
واحتج مراقب سوسة المدني يوم 22 مارس 1935 على إطلاق سراح بوزويته "القائد الدستوري الخطر على الأمن العمومي" وقال إن بوزويته أفسد كل أعمال التهدئة التي قامت بها السلطة في زمن قصير وطالب بمزيد التنسيق بين الإدارة والسلطة القضائية وساند مطلب الإبعاد .
وبينما كانت مصالح الشرطة بالعاصمة يوم 14 أفريل 1935 ترجح أن بوزويته غادر العاصمة اتقاء للمشاكل (pour éviter des histoires) كان الرجل يوم 15 أفريل 1935 بمكتب الحبيب بورقيبة المبعد لحضور اجتماع كان من المزمع انعقاده غير أنه تأجل لحضور ستة فقط من أعضاء المجلس الملّي العشرين فقد نجح الرجل في مراوغة المراقبة المسلطة عليه.
وغداة ذلك اليوم -16 أفريل 1935 قام محمود الماطري بتحرير رسالة إلى الجنرال أزان Azan قائد قوات الاحتلال بتونس أمضاها المبعدون الستة عشر بعد التهديد الذي تلقوه يوم 10 أفريل 1935. وهي رسالة كتب عنها الجنرال أزان إلى قائد الجيوش الفرنسية: "وضعت بين يدي السيد بيروطون (المقيم العام) مطلب الخضوع الذي أرسله المبعدون كسلاح. وهي وإن أنقصت من قدرهم في نظر أتباعهم فإنه يجب أن لا تعتبر صادقة" .
فمن الواضح أن الغاية الأولى من دفع المبعدين إلى الاستعطاف كانت إحداث الشقوق بالواجهة الوطنية. وقد حصل ذلك فعلا سواء بين المبعدين أنفسهم أو بينهم وبين الجمهور المتعلق بهم. وقد بقي الحبيب بورقيبة يردد في أكثر من مناسبة أنه أرغم على الإمضاء تحت ضغط رفاقه .
وأما محمد بوزويته فقد واصل تحركه حتى أصاب سلطة الحماية ما يشبه الهوس إذ راحت تراه في كل مكان. فراحت تنسب كل تحرك وطني أو "حرارة سياسية" بالعاصمة إلى وجود أمثال محمد بوزويته بها .
وقد أعطت جهود السلطة المحلية والجهوية ثمارها فأنتجت يوم 17 نوفمبر 1935 قرارا من المقيم العام بإبعاد محمد بوزويته (تاجر وصباغ عمره 57 عاما) إلى التراب العسكري وهو قرار كان اتخذه منذ يوم 3 نوفمبر 1935.
فأعتقل يوم 19 نوفمبر 1935 وأخذ إلى مدينة سوسة حيث امتطى القطار صحبة عونين من الشرطة إلى مدينة قابس .
فوصل إلى برج القصيرة (البوف) يوم 20 نوفمبر. وهناك أصيب بصدمة موجعة حين أطلعه الحبيب بورقيبة عن طريق وريقة مدسوسة بموقد بترولي للطبخ على الرسالة التي أمضاها المبعدون يوم 16 أفريل 1935 وأعتبر بوزويته ذلك الإمضاء خيانة .
وقد علقت شرطة سوسة يوم 28 نوفمبر 1935 على ذلك الإبعاد فكتبت أن الجزء السليم (Sain) من السكان تقبله بارتياح وأن الدستوريين كفوا عن الدعاية ولجئوا إلى الهدوء وقد رأينا أن الجزء المنعوت بالسليم كانت تمثله الماشطة رقية التي راحت تغني:
تهنى يا رقية ولا تخاف بوزويته في برج الباف
وبعد مرور عام كامل على إمضاء مطلب الاستعطاف أي يوم 22 أفريل 1936 أصدر المقيم العام بلاغا جاء فيه: "...بمقتضى تغيير صادر عن حسن الالتفات في القرارات الصادرة ضدّ محمود الماطري والحبيب بورقيبة والطاهر صفر والبحري قيقة وصالح بن يوسف ومحي الدين القليبي ومحمد بوزويته ومحمد بن علي إبراهم فإن هؤلاء يرخص لهم الرجوع للتراب المدني، ولكن يجب عليهم أن يقيموا وقتيا في تراب المراقبات المدنية التي ستعيّن لهم (جربة أو قابس) حتى تتحقق استعداداتهم السلمية واحترام العهود التي التزم البعض منهم سابقا في هذا الشأن".
يوم 23 أفريل 1936 ركب محمد بوزويته حافلة من برج القصيرة على الساعة الثانية بعد الظهر مصحوبا بالحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف والطاهر صفر ليحملوا إلى الجرف ثم إلى أجيم بجربة بينما حمل الآخرون أي محمد إبراهم ومحمود الماطري والبحري قيقة ومحي الدين القليبي إلى قابس. وقد أقام محمد بوزويته مع الطاهر صفر بزاوية سيدي عبد القادر في حومة السوق بجربة .
ويوم 13 ماي 1936 أجرى المقيم العام قيون Guillon محادثات منفصلة مع المجموعتين بقابس ثم جربة .
حتى صدر يوم 22 ماي 1936 قرار من الإقامة العامة بالسماح للمبعدين الثمانية بالعودة إلى ديارهم فغادر محمد بوزويته جزيرة جربة على الساعة السابعة صباحا من يوم 23 ما ي 1936 للإقامة بقصر هلال. وكذلك فعل محمد إبراهم . وعند وصوله إلى منزله وجد له ابنة ولدت يوم 15 جانفي 1936 فسماها حبيبة وتدل هذه التسمية على أن الرجل لم يكن يحمل حقدا على الحبيب بورقيبة !
وبينما كانت الوفود تتهاطل على المنستير بمناسبة عودة الحبيب بورقيبة إليها لاحظت شرطة المنستير يوم 3 جوان 1936 غياب محمد بوزويته .
ثم أبلغت شرطة المنستير يوم 4 جوان 1936 عن اتصالات مكثفة ووساطات بين محمد بوزويته والحبيب بورقيبة قام بها الشاذلي قلالة وسالم بشير وعبد السلام عقير والطاهر صفر بينما راح بوزويته يأمر أصحاب المقاهي بقصر هلال بالرفع في ثمن المشروبات ودفع الإضافة لصندوق الحزب .
وتحدثت شرطة المكنين يوم 14 جويلية 1936 عن أموال جمعها محمد بوزويته بواسطة مقتطعات ذات فرنك واحد وزع منها مائة فرنك على الفقراء ثم قصد العاصمة صحبة أحمد عياد، ويوم 27 جويلية عاد أحمد عياد بمفرده، وتدل هذه المراسلة على المراقبة اللصيقة التي كان يتعرض لها الرجلان .
يوم 20 أوت 1936 انتظمت بقصر هلال مظاهرة قام بها النساجون الغاضبون من مماطلة الإدارة بشان قروض وعدوا بها ثم احتجزوا خليفة المكنين ورئيس شرطة المنستير اللذين كانا بقصر هلال ولم يقع الإفراج عنهما إلا بتدخل من محمد بوزويته الذي كان عائدا من جمال حسب قوله. وقد شكك التقرير الأمني الذي حرره الشرطي نفسه ذلك اليوم في قول بوزويته ورجح أن تكون المظاهرة بإيعاز منه .
يوم 13 سبتمبر 1936 حضر محمد بوزويته اجتماعا عاما بالمنستير لاحظت شرطة المكنين حلوله بها صحبة الحبيب بورقيبة وابنه وعقيلته. استهل بوزويته الاجتماع بخطاب نوه فيه ببورقيبة. وأضافت شرطة المنستير أن نشيدا تلاه بعض أهالي قصر هلال . قالت جريدة النهضة إنه شعر ملحون ألفته امرأة من قصر هلال تحدثت فيه عن آلام المبعدين ببرج البوف وسكان قصر هلال حين أقام بها الفيلق الخامس السينيغالي من جهة أخرى . قالت مجلة "المؤتمر إنها فائزة الحمامي . وقال محمد علي بلحولة إنها فائزة بنت الحساني ، ومطلع ذلك القصيد:
الله ينصرك يا حبيب يا بورقيبة إن شاء الله في المنفى ما تطول غيبة
والنشيد كما ذكر لنا الفقيد محمد (حمدة) رضوان من تأليف الحاج بشير بن عبد الله بن أحمد الحمروني بوزقرة الذي كان معلما وتوفي سنة 1952 ولعل حضور بوزويته في ذلك الاجتماع كان نتيجة للمساعي التوفيقية التي بذلت فقد سعى الشاذلي قلالة إلى إصلاح ذات البين فجمعهما بالمنستير .
يوم 14 سبتمبر 1936 عقد الحبيب بورقيبة اجتماعا عاما بقصر هلال فاغتنمت شرطة المكنين الفرصة لتصب على بوزويته في اليوم نفسه جام غضبها. فهو لديها شيطان المنطقة le mauvais génie de la région يدعو الناس إلى الثورة ويفرض على الموظفين آداءات حزبية بشكل إرهابي . أما شرطة المنستير فقد ذكرت أن بورقيبة حل بقصر هلال صحبة بوزويته وأحمد عياد وأنهم زاروا مدرسة "الهلال" وأن طعام الغداء كان بدار عياد صحبة عشرين شخصا .
وغداة ذلك اليوم أي 15 سبتمبر 1936 عقد الحبيب بورقيبة اجتماعا عاما بالمكنين ألقى فيه محمد بوزويته خطابا وحاول أثناءه بورقيبة الإصلاح بين امحمد بعيزيق ومحمد زخامة بدون جدوى لكن جلسة أخرى انعقدت يوم 2 أكتوبر 1936 شاركت فيها وجوه دستورية من المكنين وقصر هلال نجحت في ما أخفق فيه بورقيبة. وقد شارك في رأب الصدع محمد بوزويته ومحمد إبراهم واحمد بورخيص والحاج محمد ساسي .
وانتظم بقصر هلال يوم 9 أكتوبر 1936 اجتماع عام بمناسبة جولة قام بها الداعية الديني عبد العزيز الباوندي بالمنطقة فألقى عليه محمد بوزويته أمام مرأى ومسمع من الجميع السؤال التالي:"هل يجوز لإمام الجامع أن يقبل يد المراقب المدني الفرنسي" ؟ وقد أجاب الداعية بالنفي. كما سأله: "هل تصلح الصلاة بإمامة الخونة الذين يتجسسون على المصلين و يوشون بهم لدى الحكومة؟ وأجاب الداعية باحتراز بأنه يجب التثبت من ذلك .
يوم 13 أكتوبر 1936 انعقد اجتماع عام ببنان حضره محمد بوزويته وصرح الحبيب بورقيبة بأن المقيم العام أبلغه أن محمد بوزويته هتف أثناء ذلك الاجتماع : "يعيش هتلر و"تسقط فرنسا" وأن البحث نفى الجزء الأول واثبت الجزء الثاني. وأضاف بورقيبة أن ذلك "من رابع المستحيلات لأنه يعرف الرجل معرفة جيدة ولا يمكن أن يصدر ذلك منه" .
وقد نشر محمد بوزويته يوم 29 أكتوبر 1936 مقالا طويلا يفند فيه التهمة وينكر أن يكون قد تفوه بعبارة "تسقط فرنسا" ويستشهد بمحمود بورقيبة الذي كان حاضرا معه في اجتماع بنان ويهاجم مصادر الشائعات الخبيثة . صحيح أن المقيم العام تلقى من المراقب المدني بسوسة تقريرا مؤرخا في 13 أكتوبر يدعي فيه أن محمد بن الدهماني زخامة رئيس شعبة بنان -وهو غير محمد زخامة المكني- قال: " تسقط فرنسا" وأن محمد بوزويته كررها بصوت منخفض. هكذا قال المراقب المدني .
ليس غريبا إذن أن يثير ذلك غضب المقيم العام لكن ما يستوجب التعليق هو: لماذا نشر الحبيب بورقيبة الخبر على أعمدة الصحف بينما يتعلق الأمر بشخص محمد بوزويته؟ ما دور وسائل الإعلام في ذلك؟ أما كان أقرب إلى الصواب نقل الأمر إلى بوزويته مباشرة؟ ماذا كان يقصد من وراء نشر ذلك الخبر؟ أسئلة تحملنا على الاعتقاد بأن الحبيب بورقيبة كان يبحث عن "الشعرة في العجين" لجعل بوزويته مدينا له بشيء ما ولو كانت تهمة باطلة. لكن بوزويته ردّ. وردّ بقوة. وندرك من هذا أن التصالح لم يكن إلا ظاهريا.
يوم 12 نوفمبر 1936 نشرت جريدة "النهضة" بلاغا يعلن عن تأسيس "نقابة قلفات (عملة) النسخ اليدوي" برئاسة محمد بن إبراهيم حريق (بن الحاج خليفة) و ذكرت تركيبة الهيئة بكاملها وهي لا تضم محمد بوزويته ولا أحدا من هيئة الشعبة الدستورية غير أن ما لفت نظرنا هو جملة ختم بها البلاغ جاء فيها: "يتقدم مجلس الإدارة إلى الشيخ بوزويته بالشكر الجزيل حيث أنه أجهد نفسه في إفهام الناس منافع النقابات" وهي شهادة تحمل في طياتها اعترافا بالدور الذي تقوم به التنظيمات المهنية في البناء الاجتماعي من جهة ودور بوزويته في إرساء دعائمها من جهة أخرى.
كما أبلغت جريدة النهضة يوم 27 نوفمبر 1936 عن عقد الشعبة الدستورية بقصر هلال اجتماعا برئاسة محمد بوزويته لدرس ميزانية سنة 1937 وأصدرت بيانا يطالب:
1- بإلغاء الثلث الاستعماري الذي يقصد منه التشجيع على الاستيطان
2- بتوفير القروض التجارية و الصناعية
3- بتوفير ميزان التعليم
4- بإعطاء التونسيين ضمانات تشريعية ودستورية
وقد لاحظنا أن البلاغ كان بإمضاء محمد بوزويته وهي إحدى المرات القلائل- إن لم تكن الوحيدة- التي يمضي فيها نصا صادرا عن هيئة الشعبة. وهذا ما يؤكد زعمنا بأن بوزويته قد سحب من أحمد ساسي إمكانية النطق باسمه وبالإضافة إلى ذلك فإن إشرافه ذلك اليوم على اجتماع الهيئة كان- على حد علمنا- الأخير. فماذا حدث أثناء تلك الجلسة؟ يقيننا أن شرخا داخليا حدث بها. فقد أضرب محمد بوزويته عن حضور اجتماعات الهيئة بعد ذلك اليوم.
الانسحاب
فقد أشرف نائبه فرج بن خليفة الإميم على اجتماع الهيئة يوم 15 ديسمبر 1936 .
وحضر اجتماعا عقدته هيئة الشعبة الدستورية بمدينة مساكن بدكان الخياط صالح بن سيك علي بمساكن يوم 22 جانفي 1937 حسب تقرير لشرطة سوسة المؤرخ في 4 فيفري 1937 .
لم يحضر الاجتماع الدستوري الكبير بساحة قمبطا بارك يوم 31 جانفي 1937 بالعاصمة بينما حضره محمد ابراهم الكاتب العام للشعبة .
قام حسب إعلام مؤرخ في 3 فيفري 1937 صحبة احمد عياد واحمد بورخيص – أمين مال الشعبة- بتوزيع ثياب للمعوزين بمنطقة جلاص .
بقي هوس محمد بوزويته يخامر شرطة المكنين فكتبت يوم 5 فيفري 1937 في نطاق تهجمها على امحمد بعيزيق من المكنين أن هذا الرجل جرأته متصاعدة إذ هو يقلد محمد بوزويته الهلالي Il singe Mohamed Bouzouita de Ksar. Hellal. .
تولى نائبه بالشعبة فرج الإميم يوم 27 مارس 1937 إبلاغ احتجاج الشعبة على حوادث المتلوي والمضيلة وأم العرايس كما تولى في غياب بوزويته الإشراف على اجتماع تأسيسي للشبيبة الدستورية يوم 28 مارس 1937.
وبقيت ظلال حوادث سبتمبر 1934 تلاحق محمد بوزويته. فقد عبر عميد المحامين de keyser أثناء دفاعه عن ثمانية من المتهمين يوم 18 ماي 1937 عن استغرابه لعدم وجود محمد بوزويته بقفص الاتهام بينما هو المتسبب فيما حدث L’instigateur .
وحضر يوم 25 ماي 1937 صحبة الحبيب بورقيبة والحبيب بوقطفة حفلا لافتتاح مدرسة قرآنية بمدينة القيروان. هل كان اللقاء صدفة؟ .
غاب عن الاجتماع الدستوري الذي نظمته شعبة قصر هلال يوم 8 جويلية 1937 احتفاء بعودة عبد العزيز الثعالبي في اليوم نفسه .
وأبلغت شرطة المكنين عن زيارة أداها وفد دستوري برئاسة محمد ابراهم إلى المنستير يوم 24 جويلية 1937 لمقابلة الحبيب بورقيبة وأنه لم يتمكن من ذلك لوجود بورقيبة بسوسة ولاشك أن لتلك الزيارة هدفين: مساندة بورقيبة من جهة وعرض الوضع الشاذ الذي كانت تعيشه الشعبة آنذاك من جهة أخرى وخاصة بعد عودة الثعالبي وهي العودة التي كان يرى فيها بوزويته فرصة لإعادة اللحمة إلى الدستوريين.
وواصل محمد بوزويته مقاطعته لأعمال الشعبة فلم يمض باللائحة التي حررتها هيئة الشعبة بقصر هلال يوم 5 أوت 1937 لمساندة الحبيب بورقيبة أثناء تعرضه لتتبع عدلي من أجل "ثلب الجيش" ولا ببرقية التضامن مع الشعب الفلسطيني التي نشرت يوم 9 أوت 1937.
ثم انعقد اجتماع عام يوم 10 أوت 1937 حضره 800 شخص -حسب تقدير المراقب المدني بسوسة- واشرف عليه الهادي نويرة نيابة عن الحبيب بورقيبة. قال التقرير الأمني إن الغاية من الاجتماع كانت إصلاح الخلاف بين محمد بوزويته وزميله بالشعبة محمد ابراهم وأن التهريج حال دون أن يسمع كل طرف صوته وأن بوزويته اضطر إلى الانسحاب. وانفض الاجتماع عند منتصف الليل بدون أن يسفر عن نتيجة. وقد حضر رؤساء شعب صيادة ولمطة وبنان وبوحجر وهو حضور يكشف تأثر المنطقة بكل تصدع يحدث في الجبهة الهلالية.
وقد كان ذلك الاجتماع فرصة أقنعت القيادة الحزبية أن وضع الشعبة بقصر هلال لا يمكن أن يدوم بعد أن أصبحت الهيئة عمليا بلا رئيس. وتقرر اثر ذلك إجراء انتخابات لتجديدها.
وقد كان يوم تجديد هيئة الشعبة بقصر هلال- الأحد 29 أوت 1937 شبيها بمؤتمر 2 مارس 1934 أو هكذا أراده المنظمون نقل فعالياته محمد الحبيب بوقطفة الذي لاحظ حضور الدستوريين من "جميع الجهات" كالمكنين والمنستير وطبلبة وصفاقس وبنزرت ولمطة وطوزة وبوحجر ومعتمر وسيدي عمر بوحجلة وبومرداس وغيرها .
قالت شرطة المكنين يوم 31 أوت 1937 إن الهدف الأول من الاجتماع كان عقد المصالحة بين "أنصار الحزبين" وأن الانتخاب جرى من طرف 350 منخرطا وأن الحبيب بورقيبة دعا إلى الوحدة و الهدوء وطاف بطربوش ملأه الدستوريون نقودا.
ودعي الزائرون إلى طعام العشاء واسفرت الانتخابات عن تولي فرج بن خليفة الاميم رئاسة الشعبة خلفا لمحمد بوزويته.
وكان أول بلاغ أصدرته الهيئة الجديدة يوم 12 سبتمبر 1937 يتضمن معارضة شديدة "لإنشاء قيادة حزبية موحدة مكونة من الديوان السياسي (الحزب الجديد) واللجنة التنفيذية" (الحزب القديم) وهو الاقتراح الذي كان تقدم به عبد العزيز الثعالبي.
وقد حمل البلاغ إمضاء فرج الاميم و محمد ابراهم .
وإنا نستشف من هذا أن موقف بوزويته كان مساندا لما رفضته الشعبة بهيئتها الجديدة وأن الرفض كان موجها إليه بقدر ما كان موجها إلى العموم.
ولم يمض شهر على انسحابه الرسمي من هيئة الشعبة حتى بدأت "تصفية الحسابات" إذ حاول منصور بن صالح الجبالي الملقب "بزميط" يوم 24 سبتمبر 1937 الاعتداء عليه فأصابه بجرح وقد خلصه الناس وراموا الاقتصاص من الجاني الذي كان يحمل خنجرا لكن بوزويته حال دون ذلك. وقد نقل الخبر الوجه الدستوري المعروف والعدل بالمكنين امحمد بعيزيق الذي دعا الدستوريين بقصر هلال إلى "تطهير حركتهم من عناصر الفساد .
وقد رد منصور الجبالي بأن أنصار بوزويته هم الذين اعتدوا عليه وجاءوا بالخنجر قصد توريطه .
وعلقت جريدة La charte Tunisienne الناطقة باسم اللجنة التنفيذية يوم 02 أكتوبر 1937 بأن "قصر هلال- مهد الدستور الجديد- تسودها طعنات الخناجر".
وما يمكن ذكره هنا أن منصور الجبالي- سواء كان معتديا أو معتدى عليه- لم يعرف في الأوساط الدستورية ولن تتعجب إن علمنا أنه كان "مكلفا". وعلى كل حال فإن الحادث يثبت أن القضية لم تعد شخصية بقدر ما هي قضية اختلاف في الرأي. وسوف توضح الأحداث ذلك.
لا نشك في أن المؤتمر الثاني للحزب الدستوري الجديد المنعقد أيام 30 و 31 أكتوبر و1 و2 نوفمبر 1937 كان له دور كبير في تعميق الخلاف بين الجماعة الجديدة بشعبة قصر هلال وجماعة محمد بوزويته من جهة كما كان له دور في ترجيح الكفة لفائدة الجيل الجديد. ولقد كان لانتخاب رجلين من الشعبة بالمجلس الملّي للحزب وهما فرج بن خليفة الاميم ومحمد بن علي ابراهم وقع معنوي هام عمل على تهدئة بعض الغاضبين من إزاحة محمد بوزويته من المجلس الملي السابق. وإنا لنلمس في ذلك رغبة بورقيبة وجماعته في ترميم ما حصل من العطب.
فقد نشرت جريدة "الإرادة" يوم 26 نوفمبر 1937 عريضة في شكل رسالة موجهة إلى عبد العزيز الثعالبي أمضى بها 421 شخصا من قصر هلال بها تأييد لمساعيه التوفيقية وختمت به "و آخر كلمة هي الاتحاد الاتحاد الوفاق الوفاق" (انظر نص العريضة بالملحق).
وقد جعلت جريدة "الإرادة" لهذه العريضة الداعية إلى الوفاق عنوانا مغايرا لمحتواها فإذا هي "تأييد واستنكار وتبري قصر هلال" وورد بالصفحة نفسها من الجريدة تأييد واضح من المنستير "للزعيم الأوحد" عبد العزيز الثعالبي "ورفاقه المحترمين".
جاء في تقرير أمني مؤرخ في 08 ديسمبر 1937 أن الحبيب بورقيبة قدم إلى قصر هلال يوم 6 ديسمبر 1937 صحبة أخيه محمود والشاذلي قلالة لملاقاة محمد بوزويته لكنه استقبل بهتاف "يحي الثعالبي" وقذفت حجارة على سيارته حتى تدخل بوزويته لتهدئة الوضع .
ثم انعقد اجتماع طلب بوزويته أثناءه إنشاء لجنة بحث حزبية لتقديم ما أعوج وتوحيد الصف .
ومما يجدر التوقف عنده هو أن بورقيبة اعتمد -مرة أخرى- على طريقة التشهير العلني للإطاحة بخصمه. والشارع -كما نعلم- غير قادر على تمييز المواقف بتفاصيلها. كان بوزويته ينظر إلى ما يوحد الصفوف وكان بورقيبه يسعى إلى إبراز ما يفرق المواقف قصد إقصاء ما لا يروقه منها.
وإذا كتبت جريدة العمل يوم 16 ديسمبر بأن بوزويته "تبرأ من الرسالة التي نشرت بجريدة القدماء "فانه كان كلاما من عندها يقصد به نزع المصداقية عن الرجل. فالممضون على العريضة يعرفون أن وراءها بوزويته وهو بالتالي لا يمكن أن "يتبرأ" منها. و الحقيقة هي أن بوزويته كان يتبرأ من المقاصد التي نسبت إلى تلك العريضة ولا من العريضة نفسها. تلك العريضة تلاعب بها الطرفان. فهي لدى القدماء تأييد لهم وهي لدى الجدد نشاز يجب ردعه.
وقد شهدت الساحة الداخلية بقصر هلال انشقاقا واضحا يختلف حدة باختلاف أطرافه. فقد عثرنا بدفتر يضم محاضر الجلسات لجمعية "هلال الساحل" التمثيلية بقصر هلال على ملاحظة سجلت يوم 10 ديسمبر 1937 بها اتفاق على عدم الخوض في الخلاف الناشب بين الطرفين.
كما اشتكى محمد صالح بن سالم قفصية من "أوباش الديوان السياسي" بقصر هلال الذين افتكوا من دكانه جريدة "الإرادة" المعروضة للبيع و مزقوها .
واغتنم المراقب المدني بسوسة ذلك الوضع ليتحدث يوم 18 ديسمبر 1937 عن شعبتين بقصر هلال: إحداهما قديمة تضم 50 منخرطا ورئيسها محمد بوزويته "الذي سجن مؤخرا لمشادة مع الجدد" والثانية جديدة يرأسها فرج الإميم تضم 1500 منخرط .
وإذا كنا ننفي بلوغ الخلاف درجة إحداث شعبة ثانية فإننا لا نملك ما يفيد اعتقال محمد بوزويته ولا الطرف الثاني المشارك في المشادة المشار إليها ولعله عبد الله بن علي بايع رأسه الذي ذكرت جريدة "الإرادة" عداءه لبوزويته .
ثم جاء يوم 19 ديسمبر 1937 ليعلن عن بداية النهاية:
كان محمد بوزويته قد طلب يوم 6 من الشهر نفسه – كما رأينا – إجراءات بحث لدرس ملابسات العريضة الداعية إلى توحيد الكلمة فاستجيب إلى طلبه وجاء الهادي شاكر والبشير بن فضل عضوا المجلس الملّي إلى قصر هلال حيث اجتمعا بالناس وسمعا ما لم يكونا يرغبان في سماعه. قال لهما إن بورقيبة يظهر غير ما يظهر وأنه يتآمر على رفاقه بالديوان السياسي ويحتقرهم ويبدي أمام الجمهور سياسة المعارضة وأمام السلطة سياسة المشاركة.
دعاه الرجلان إلى حضور اجتماع للمجلس الملي فأجاب: لقد انعقد المجلس سابقا بدون أن تقع دعوتي فما حاجتكم إلى حضوري؟ وقال عن العريضة الزوبعة أنه "أمضاها دستوريون مخلصون دفعهم لكتابتها حبهم لاتحاد صفوف الأمة "وتحدث الناس إلى الرجلين عن ضحايا أحداث سبتمبر 1934 وعما قاسته قصر هلال عند احتلالها من طرف الجيش وعن النتيجة المتمثلة في وثيقة الاستسلام التي أمضاها المبعدون.
وعاد الباحثان إلى العاصمة وتألف مجلس تأديب وصدر الحكم ونشر بجريدتي العمل والإرادة... كل ذلك في عشرة أيام !
وهي سرعة قياسية تدل على أن العملية كانت شكلية تهدف إلى التخلص من عبء بوزويته الثقيل.
وصدر الحكم بالنص التالي:
"بعد تشكيل مجلس الحكم وانتصابها (كذا) إثر ما قرره المجلس الملّي في قضية الدستوري محمد بوزويته من سكان قصر هلال وبعد الاطلاع على قرار لجنة البحث والمداولة فيه اصدرت (كذا) مجلس التحكيم بما (كذا) يأتي:
"حيث نسبت إلى الدستوري محمد بوزويته الهلالي عدة تهم من فريق من بلاده وحيث وقع تشكيل لجنة بحث متركبة من السيدين الهادي شاكر والحاج البشير بن فضل لاستقصاء هاته التهم والبحث فيها وتلقي الشهادات التي من شانها تأييد التهم أو تفنيدها".
"وحيث جاء بتقرير اللجنة المشار إليها ثبوت ارتكابه لما من شأنه أن يلحق الضرر بالحزب".
"وحيث وقع استدعاء المتهم لدى المجلس الملي ولم يحضر".
"حكم المجلس المتركب من رئيسه الأستاذ الطاهر صفر وأعضائه الأستاذ البحري قيقة والأستاذ الطاهر دبية والسادة علي درغوث والطاهر دعيب ويوسف الرويسي غيابيا بتوجيه اللوم والتعنيف إلى المتهم طبق الفصل 42 والفقرة الثانية من فصل 43 من القانون الداخلي للحزب نظرا لكبر سنه وسابق خدماته".
(الإمضاءات 6)
وإذا أشار الدكتور الهادي التيمومي إلى أن أول حزب سياسي تونسي استعمل سلاح التكفير (الطاهر الحداد) ولجأ إلى حجة القوة لا قوة الحجة فإن قضية بوزويته تقوم دليلا إضافيا لعهد الدستور الجديد. (http://www.tunisia-cafe.com/vb/showthread.php?t=6735) وهو إقصاء شبيه بإقصاء البحري قيقة من اللجنة التنفيذية في نوفمبر 1933.
يتبع منتديات تونيزيا كافيه