gem
10-04-2009, 05:05 AM
الحاج علي صوة،الزعيم الصامت لقصرهلال بقلم الأستاذ الحبيب ابراهم
الحاج علي صوة،الزعيم الصامت لقصرهلال بقلم الأستاذ الحبيب ابراهم
مقدمة
الحديث عن الحاج علي صوة حديث عسير خيرته وعانيت منه الكثير إذ كانت لي عنه أو عن منجزاته المداخلات التالية:
التاريخ المناسبة
12 أفريل 1980 خمسينية مدرسة "الهلال"
1 جوان 1990 ستينية مدرسة "الهلال"
7 ماي 1992 افتتاح ملتقى الحاج علي صوة للعلوم الاجتماعية والإنسانية بقصر هلال
ماي 1998 العدد الأول من مجلة مدرسة "الهلال"
4 نوفمبر 1998 خمسينية مستشفى الحاج على صوة
31 أكتوبر 2003 الذكرى الخمسون لوفاته
وكان عنوان آخرها: "الحاج علي صوة ذلك المجهول"
هو ليس حديثا عن رجل عادي حتى نستعمل فيه اللغة العادية. ومن هنا كانت صعوبة التعبير وكانت أخطار الوقوع في العبارات التي تداولتها أو لاكتها الألسن فأفقدتها نضارتها والتحامها بشحنتها. وقد كنت نعتت الحاج علي صوة في مداخلة يوم 7 ماي 1992 بالرجل المناضل مشترطا تجديد شباب النضال وغسله وتطهيره مما علق به من أدران وما أكثرها.
فاللغة العادية كاللباس الجاهز قلما يلاءم لابسه. وهذا بالنسبة إلى جسم ذي مقاييس مألوفة يسيرة التقدير فما بالك إذا تعلق الأمر بإلباس شخصية ولا شخص. إنسانية ولا إنسان. نور ولا فتيل.
ثم إن الصعوبة تتعاظم إذا أدركنا أنها شخصية نادرة المثال وأنه إنسان "لا كأيها الناس" وأنه حار هو نفسه في التعبير عما بنفسه فأجاب رجال الصحافة أجوبة أقرب إلى الإسكات منها إلى الإجابة.
لذلك فقد اعتمدنا في الحديث عن الحاج علي صوة على الإيحاء أي التعبير غير المباشر أو ما يعبر عنه اليوم بالمقاربة Approche. أما التعريف والتحديد فأمران يجب أن نتركهما للحديث عن العادي من خلق الله.
وها أني أعود إلى النقطة التي انطلقت منها منذ 27 عاما !
وقد حرصت على تزويد القارئ بما توفر لدي من الوثائق حفاظا على مصداقية البحث من جهة وقطعا لدابر "الخرافات التاريخية" من جهة أخرى بعد أن لاحظت تحول مسيرة الحاج علي صوة إلى ما يشبه الأسطورة.
والحقيقة هي أن مسيرة هذا الرجل فيها ما يدعو إلى الأسطرة !
ثم إننا نحتاج إلى المزيد من التوثيق لفترة من تاريخنا نخشى عليها من التلاشي في عصر تسارعت خطواته وشحبت بصماته.
وبعد فإن ما يدفعني إلى هذا العمل هو شعوري بأن علي دينا. أرجو أن أكون قد أديت بعضه !
ولن يفوتني أن أتقدم بالشكر لكل من مد يد المساعدة لانجاز هذا العمل خاصا بالذكر الصديق صابر بن محمد البنبلي (بنبلة سابقا) لما قام به من التصوير والمراجعة.
بطاقة تعريف
هو الحاج علي بن امحمد بن الحاج محمد بن الحاج علي بن صوة الميلادي .
ولد سنة 1865
حكم على والده إثر فشل الثورة الشعبية سنة 1864 بعشرين مطرا من الزيت
أمه فاطمة بنت الحاج علي بن الحاج أحمد سعيدان توفيت سنة 1922 وعمرها ثمانون عاما .
ولد في منزل متواضع يقع قرب دار عياد الحالية بقصر هلال ولم يعد له اليوم وجود
كان أبوه يعمل فلاحا وتدل على ذلك الخطية المسلطة عليه. توفي والحاج علي لا يزال صبيا حوالي سنة 1870.
ربته أمه في كثير من الشدة والصرامة. وقد اصطحبها إلى الحج في عصر الشريف حسين "أيام كان أداء فريضة الحج مغامرة وعلى ضوء تلك المعطيات نحدد سنة 1909 تاريخا للحج.
لم يكن له أخ ولا أخت ولا عم ولا عمة
كان له ثلاثة أخوال من آل سعيدان (عبد الله وخليفة وسالم) توفي آخرهم (سالم) سنة 1920. وكلهم فلاحون.
تزوج خمس مرات:
1- عائشة بنت الحاج حمودة بوغزالة التي أنجب منها : امحمد (1898) ومحمد (1902) وعبد الله (1911) وحسن (1915) .
2- أم السعد الأكحل
3- حفصية بنت محمد كشيدة التي أنجب منها: صالح (1923)
4- فطومة البهلول
5- آمنة بنت عبد الله جمور التي أنجب منها أحمد (1924) وقد بقيت منهن بعد وفاته : أم السعد الأكحل وفطومة البهلول مطلقتين وآمنة جمور تحت عصمته .
توفي يوم 31 أكتوبر ودفن يوم الأحد أول نوفمبر 1953 (23 صفر 1373 هـ) بمنزله الكائن قرب المدرسة القرآنية ودفن في باحة المدرسة بإشارة من أبرز معلمي المدرسة وهو رحيم بن صالح بن بوذينة الجبالي الذي قضى بالمدرسة 22 عاما.
فمن الناس من نعرفهم – أو نزداد تعرفا عليهم- بفضل بلدانهم وخاصة إذا كانت البلدان غنية عن التعريف. فنقول إن فلانا مولود بباريس أو القيروان أو بيروت... من الناس من كان لهم الفضل في التعريف ببلدانهم أو الأماكن التي كانوا يرتادونها، فأنت تسمع بالمعرة بفضل أبي العلاء المعري وتسمع عن Colombey les deux églises لأنها مثوى شارل ديقول ويحدثونك عن المقهى التي كان يرتادها نجيب محفوظ بالقاهرة أو تلك التي كان يرتادها جان بول سارتر بباريس أو تلك التي كانت تلتقي بها "جماعة تحت السور" – البانكة العريانة – بالعاصمة التونسية.
من الناس من أضاءوا ومنهم من استضاءوا منهم من أفادوا ومنهم من استفادوا فهل كان الحاج على صوة من أولئك أو هؤلاء؟
الحاج علي صوة وقصر هلال : أيهما يعرّف الآخر ؟
شجرة صوة
امحمد محمد عبد الله حسن صالح أحمد
علـي
امحمد
محمد
علي
صوة الميلادي
(مشيخة العريش)
في زاوية سيدي عبد السلام
لم يرد اسم الحاج علي صوة فيما عثرنا عليه من الوثائق أو ما بلغتنا من الشهادات إلا سنة 1909 وهي السنة التي أدى خلالها فريضة الحج رفقة أمه فاطمة بنت الحاج علي سعيدان التي كان لها فضل تربيته بعد وفاة أبيه الذي تركه صبيا. وتعرفنا على تلك السنة بفضل حديثة عن أمير مكة الشريف حسين.
ولم يمض وقت طويل حتى توفى الحاج علي بن محمد عبار وكيل زاويتي سيدي عبد السلام الأسمر بقصر هلال سنة 1910 وحسب التقاليد المعمول بها قام أتباع الطريقة بانتخاب الحاج علي صوة وكيلا جديدا. وقاموا بذلك يوم 9 جوان 1911 لدى العدليين حسين القصاب وعلي ابراهم بحضور شيخي القرية يوسف سعيدان ويونس الكعلي وقد صوت لفائدته:
ابراهيم بن محمد بن الحاج امحمد عبد السلام بن محمد الزراد الزعق
محمد بن محمد بن الحاج امحمد خليفة بن الحاج علي الزياتي
عبد الله بن محمد البهلول ابراهم الحاج امحمد بن امحمد سويسي
محمد بن علي بن الحاج احمد ساسي بن محمد سليمان
احمد بن صالح بن الحاج احمد فرج بن الحاج عمر الشايب
خلف الله بن علي بالطيب حمودة بن علي الصانع الهاني
علي بن محمد بوفروة ساسي بن محمد الصغير
عبد السلام بن علي بوفروة امحمد بن احمد طيطش
الحاج محمد بن علي بوقرة عبد الرحمان بن محمد الطيلوش
محمد بن احمد جمور عبد الحق بن الحاج علي عبار
سالم بن علي حشانة الحاج محمد بن خليفة فنتر
محمد بن احمد حشانة محمد بن علي القابسي
عمر بن محمد بن الحاج علي حمودة الحاج قاسم بن حسين قعليش الحبشي
عمار بن الحاج عبد الله الخفي محمد بن عبد الله قم
صالح بن الحاج محمد خليفة عبد السلام بن الحاج محمد الممي
عامر بن محمد بن القدحة (الدوس) محمد بن صالح الممي
سالم بن علي الزراد
وكلهم من أتباع الزاوية السلامية
وإن اختيار أتباع الزاوية السلامية للحاج علي صوة يدل بدون شك على أنه كان من أتباعها بل أنه تميز بين رفاقه تميزا جعلهم ينصبونه شيخا عليهم. فنشاطه بالزاوية يعود إذن إلى ما قبل سنة 1911. وقد زاد الحج في ترجيح كفته عند الانتخاب. فالحج كان يمكن صاحبه من أن يردف عبارة "الحاج" إلى لقبه لتصبح جزءا منه.
ويوم 30 أفريل 1919 أبلغ محمد بن الشاذلي صفر – رئيس جمعية الأوقاف عن قدوم وفد من قصر هلال يشكو من "سوء سلوك شيخ الزاوية السلامية" الحاج علي صوة وبطلب "معاينة الحالة التي عليها الزاوية المذكورة" وأنه أطلع فوجد "الخراب قد استولى عليها" وأن شيخ الزاوية "معطل لجميع شعائرها" وأنه حاول مقابلة الشيخ "فتعذر عليه" .
وقد رد الحاج علي صوة على تلك الشكوى وتلك الزيارة التفقدية يوم 15 ديسمبر 1919 بإدلاء شهادة لدى العدلين حسين القصاب ومحمد عياد يعلن فيها عن تخليه عن مهامه بالزاوية "لعجزه عن القيام بشؤونها" .
وقد انتخب بعده سالم بن علي حشانة يوم 2 فيفري 1920. ومما يلفت النظر أن الحاج علي صوة كان أحد المصوتين لفائدته وهذا يدل على أن القضية لم تكن – لديه- قضية شخصية بقدر ما كانت قضية مبدئية .
وتحدث أحد التقارير عن تلك الفترة بأن الرجل كان "يبحث عن فعل شيء يرضي الله" .
فتحول الحاج علي صوة من خدمة الزاوية السلامية إلى الخدمة خارجها لم يكن – في نظرنا- تحولا جذريا أي أنه لم يكن توقفا عن العطاء أو نكوصا على الأعقاب أو تنكرا لما كانت له من الأهداف بل كان تغييرا للشريحة المستهدفة. كان بنشاطه الطرقي يؤمن بأنه يخدم المجتمع من خلال خدمة الزاوية التي كان يؤمها الكثيرون من أبناء البلد. لسنا هنا في مجال تقييم المواقف أو دور الزاوية في المجتمع صالحا كان أو طالحا. كان أتباع الزاوية يحسبون –عن حق أو باطل- أنهم حسنا يفعلون.
وإذا كان بعض القيمين على الزوايا قد اتخذوا منها مصادر ارتزاق أو تكسب فإن بعضهم الآخر قد اعتقد أنه يؤدي رسالة مكملة لرسالة المسجد. فقد أحصينا من الأملاك الموقوفة على الزوايا بقصر هلال سنة 1840 – أي الموهوبة إليها قصد القيام بشؤونها – 1503 زيتونة وهو رقم يدل عل ما ذهبنا إليه كما أحصينا من أسندت عائلاتهم اسم عبد السلام لأحد أبنائها فكانوا سنة 1913 ستة بقصر هلال وحدها. وكان الحاج علي صوة أحد هؤلاء. وليس أعز على المرء من ماله وولده – فالرجل كان يؤمن بأنه يخدم قضية سامية. وكان ذلك في ظل مجتمع نادى – سنة 1904 – بإعدام عبد العزيز الثعالبي لأنه تجرأ على شتم سيدي عبد القادر الجيلاني .
لقد تغيرت الشريحة المستهدفة وبقي الهدف. انتقل العطاء بدون أن ينقطع.
الناس يتصورون أن الحاج على صوة قضى عمره حتى سنة 1927 – وهي السنة التي قرر خلالها بناء المدرسة القرآنية- وقد كان عمره آنذاك 62 عاما – منكمشا على نفسه وأنه انطلق وكأنه كان في سبات عميق. كلا وقد دفعنا ذلك الظن إلى نعت الحاج علي صوة في إحدى مداخلاتنا بالرجل المجهول فقد كان منذ بداية القرن يبذل من النشاط الاجتماعي ما كان يطلبه المجتمع.
والمجتمع كان يطلب المساجد والزوايا. وقد تحول نشاطه بعد ذلك حين تحول الطلب: كان الحاج علي صوة – طيلة حياته – أذنا صاغية وقلبا حيا ويدا ممدودة.
التحـــــول
تلك مسيرة علي صوة الأول: نشاط وحركة وكد واضطراب بين مهن عديدة ثم حج وحط الرحال وانزواء- أي انتحاء لزاوية. فالزاوية- سواء كانت سلامية أو عيساوية أو قادرية أو تيجانية – مكان تتوقف فيه الحركة الاجتماعية لتحل محلها حركة باطنية فيها تقشف وفيها تزهد وفيها تصوف- أي لباس الصوف- بل فيها تعطل للحواس.
كان الحاج علي صوة سلاميا حتى أصبح مسؤولا عن حياة الطريقة السلامية بقصر هلال وعين على رأس الزاويتين يوم 25 جويلية 1911 .
لكن أحداثا جدت أثناء توليه تلك المسؤولية جعلته يتخلى عنها ويهمل شؤون الزاويتين حتى تذمر المريدون – أي أتباع الزاوية- وكتبوا إلى عامل المنستير حتى ضاق بهم الحاج صوة ذرعا فقدم استقالته من المشيخة. ولقد دعاه العامل مستوضحا لكنه أصر على الاستقالة.
من هنا نفهم أن شيئا ما قد حدث. ما الذي حدث حتى يطوي الحاج علي صوة صفحة كان يعتبر أنها خاتمة لدفتر حياته؟ ما الذي حدث حتى ينزع العباءة السلامية – والطريقة بوجه عام- ويقوم بالتعتيم عن تلك المرحلة فلا يحدث أبناءه عنها؟
الحدث الذي زعزع الأفكار السائدة وتسبب في الكثير من التساؤلات هو الحرب العالمية الأولى التي وضعت أوزارها يوم 11 نوفمبر 1918 بعد أن ذهب ضحيتها خمسة عشر من شباب قصر هلال ونحن نلاحظ أن نهاية الحرب تزامنت مع الاستقالة الفعلية للحاج علي صوة إذ أهمل شؤون الزاويتين وأثار غضب الأتباع.
كان الناس يؤمنون بقوة الإمبراطورية العثمانية ويعتقدون أنها منتصرة لا محالة. وكانوا يتعاطفون معها. كانت خلافة إسلامية أي أنها كانت ترفع لواء المسلمين. لم تصلنا عن ذلك التعاطف إلا شذرات لكنها كافية لتبرز الجرح الذي خلفته الهزيمة:
من ذلك أن معلما من المهدية – وهو محمد بلال- كان يعمل بالمدرسة الحكومة بقصر هلال أوشى بتعاطفه مدير المدرسة خليل الأرقش الذي كانت زوجته معلمة تحمل الجنسية الفرنسية فسلطت على محمد بلال نقلة عقاب. وكان ذلك سنة 1918 .
وبلغ إلى علم الدوائر الأمنية أن الطاهر بن محمد الزراد – أصيل قصر هلال- كان يجالس أصدقاءه ببعض دكاكين العاصمة وأنه كان يخوض في شؤون سياسية لها علاقة بالحرب الدائرة. فنقل من دائرة الوزارة الكبرى إلى "ثلاجة" جمعية الأوقاف. وكان ذلك سنة 1919 .
ولما نهض مصطفى كمال للدفاع عما تبقى من البلاد التركية تجاوب الناس معه حتى أن أحمد بن الحاج سالم عياد رزق ابنا يوم 28 جانفي 1921 فسماه مصطفى وأشاع في الناس أنه يقصد مصطفى كمال وتسبب له ذلك في أول تقرير سياسي جاء فيه أن أحمد عياد متعاطف مع مصطفى كمال ولم يكتب للطفل أن يعيش إذ توفى سنة 1927. ولا شك أن أحمد عياد لم يسم ابنه بذلك الاسم إلا بعد التشاور مع والده الحاج سالم عياد.
لكن ذلك الحدث –أي الحرب التي أتت على الخلافة العثمانية- وإن عمت أخباره كافة الأقطار الإسلامية فإن ارتجاعاته اختلفت أشكالها. وقد كان وراء ذلك الاختلاف إعلام ورجال.
هل بلغت "حركة الشباب التونسي" وتوقيف جريدة Le Tunisien ونفي صاحبها علي باش حانبة سنة 1912 مسامع الناس بقصر هلال ؟ وهل بلغت أصداء الزيارتين اللتين أداهما محمد عبده إلى تونس سنتي 1884 و1903 ؟ لا ندري. وإن كانت الحركة المكوكية لتجار المواد الأولية والمنسوجات مع العاصمة تفترض ذلك لكننا نعلم -علم اليقين- أن الصحف الوطنية -التونسية والشرقية- كانت تقرأ للناس ببعض الدكاكين وخاصة دكاكين الحلاقين وأن خطب الإمام على المنبر أيام الجمعة كانت تحمل شحنات سياسية بالمعنى الواسع للكلمة.
وهنا نصل إلى الحديث عن رجل يجب أن يحتل مكانه في تاريخنا : الحاج سالم بن الحاج امحمد بن عياد بن الحاج مبارك بطيخ المعروف باسم الحاج سالم عياد:
هذا الرجل ولد سنة 1852. فهو يكبر الحاج علي صوة بما يناهز العشرين عاما. كتب عليه –أو كتب له- أن يشهد الثورة الشعبية المسماة بثورة علي بن غذاهم ويشهد المساهمة الكبيرة لقصر هلال في تلك الثورة حسبما بينا في غير هذا المكان ثم يشهد هزيمة الثوار ويعيش الانتقام الرهيب الذي سلطه الجنرال أحمد زروق على المنطقة وعلى قصر هلال بوجه خاص. فقد سلطت على والده الحاج امحمد خطية بـ 45 مطرا من الزيت. كما سلطت على والد الحاج علي صوة خطية بـ 20 مطرا. والمطر كان وحدة الكيلMetritis تقدر بعشرين لترا أو أكثر حسب المناطق. فلنتصور خطية بحوالي "مائة ديقة من الزيت". عاش كل ذلك وعمره اثنتا عشر عاما.
وتولى خطة عدل إشهاد بقصر هلال يوم 3 أكتوبر 1882 أي بعد تسعة أشهر من دخول الجيش الفرنسي الجرار إلى قصر هلال وقضائه الليلة الفاصلة بين 22 و 23 جانفي 1882 قبالة سبالة العتراوي بالضاحية الجنوبية لقصر هلال. وقد يكون حضر المشهد.
وحين توفى حسن بن حسين القصاب تولى الحاج سالم عياد الإمامة الثانية –أي إمامة الصلوات الخمس- مكانه بالجامع الكبير يوم 5 سبتمبر 1909.
لكن المنعرج كان حين عين يوم أول مارس 1916 إماما أول بالجامع خلفا لخليفة بن حسن القصاب . فقد مكنته تلك الخطة من الاتصال المباشر بالناس.
قد يكون ذلك التاريخ أول فرصة يتاح فيها للإنسان الهلالي أن يسمع فيها حديثا يهمه – أي يعالج همومه. وما كان يثير همومه- آنذاك- هو هذه الحرب الطاحنة التي تسببت في حصار اقتصادي وبلبلة عاطفية وانشغال فكري بالإضافة إلى تجنيد أبنائه.
وجاء الحاج سالم عياد ليضع الحرب – أسبابا وأحداثا وعواقب – في إطارها الصحيح. فدور الحاج سالم عياد فيما نسميه اليوم بالحركة الإصلاحية دور محوري لا يمكن أن نفهم مسيرة الحركة بقصر هلال خصوصا والحركة الإصلاحية عموما بدون الحديث عنه. هذا الرجل الذي أصبح إماما أول بالجامع الكبير – أي إمام الجمعة – وكان عدل إشهاد فتح دكانه للناس "يقرأ لهم جرائدهم" حسب تعبير وشاية مؤرخة في 9 ماي 1928 .
ولم يلبث حتى فتح منزله لتولد فيه الشعبة الدستورية بقصر هلال يوم 23 سبتمبر 1921 وهي أول شعبة دستورية خارج العاصمة وأصبح عضوا بهيئتها. مع العلم أن الإعلان عن مولد الحزب الحر الدستوري كان يوم 3 جوان 1920.
ثم فتح الحاج سالم عياد منزله ثانية في شهر نوفمبر 1924 لتجديد هيئة الشعبة التي تولى محمد بوزويتة رئاستها.
ولم يمض على ذلك إلا عامان حتى وقعت تنحية الحاج سالم عياد بسبب مواقفه السياسية من الإمامة الأولى يوم 29 نوفمبر 1926 قصد منعه من مخاطبة المصلين. وقد كتب كاهية المكنين وقصر هلال يوم 16 ديسمبر 1926 بان سالم عياد أعفي "لتعصبه مع الذين أسسوا الأحزاب الدستورية ثم لم يثبت حتى توفي يوم 5 جوان 1928.
هذا الرجل الذي كان يمثل طليعة الحركة الإصلاحية بقصر هلال في كافة المجالات حضر جنازته أربعمائة شخص جاؤوا من كل جهات الساحل التونسي بإمامة محمد بن حسين الورداني وبذل في سبيل المشاريع الخيرية مالا وجهدا كان آخرها بناء المسجد الذي أتم تشييده أبناؤه أحمد وحامد ومحمد.
هذا الرجل كتب عنه امحمد الجعايبي – صاحب جريدة الصواب- الذي شارك في الإشراف على ميلاد الشعبة سنة 1921 مقالا يوم 6 جويلية 1928 احتل نصف صفحة من الجريدة تحت عنوان "ما مات من لم يمت ذكره وكتب عنه الطيب بن عيسى – صاحب جريدة الوزير يوم 9 أوت 1928 مقالا تحت عنوان "فقيد الإصلاح" .
فنعت المصلح الذي نعتنا به الحاج سالم عياد ليس من عندنا. فهو قد أصلح العقول وقاوم الزيف وأخرج المنعزلين من عزلتهم ومن بينهم الرجلان الأميان الحاج علي صوة ومحمد بوزويته بالإضافة إلى ابنه أحمد. ولقد أصبح هذان الأخيران رأسي حربة في الحركة الوطنية الناشئة بقصر هلال وخارجها وأصبح الحاج علي صوة – حسب تغيير أحمد صفر "المؤسس الأكبر" وحتى في ميدان العطاء فقد رسم للآخرين الطريق فتحدثت عنه جريدة "الزهرة" يوم 7 فيفري 1945: "المغفور له المقدس الشيخ سالم عياد صاحب الأيادي الكاملة والمبررات الخالدة".
هذا الرجل – الحاج سالم عياد- لم ينل حقه من الذكر لسببين : أولهما أن الرجل توفي مبكرا بالنسبة إلى مولد الحزب الجديد إذ لم يعش بعد تلك الولادة إلا ثمانية أعوام ناهيك أنه تولى عضوية الشعبة وعمره سبعون عاما، وقد صارع في سنواته الأخيرة أمراضا أودت به. والسبب الثاني أنه زيتوني ونحن نعرف ما بذله رجال الحزب بعد سنة 1934 من جهود لطمس التأثير الزيتوني بكل مظاهره وإبراز الدور "الصادقي". بل أن الحركة الوطنية برمتها قد جعلت ناشئة عن مؤتمر البعث في 2 مارس 1934. وذلك باطل جملة وتفصيلا.
وعلى كل حال فإنه يكفي الحاج سالم عياد فخرا أنه "أنجب" الحاج علي صوة ومحمد بوزويتة بالإضافة إلى ابنه أحمد.
أما عن تأثيره في المجتمع الهلالي فيكفي أن نقرأ ما نشرته جريدة الوزير يوم 15 فيفري 1927 .
جاءت الحرب واختلطت الأوراق وانهار ما كان يعتبر من الثوابت وجاء الحاج سالم عياد سنة 1916 ليقول من على منبر الجامع الكبير أن الخير ليس في الانزواء بل في العمل لما ينفع الناس فنفض الحاج علي صوة يديه من الزاوية وراح يحمل مع الناس همومهم وراح يبني.
خرج من الزاوية التي كان بها منزويا وراح يذرع المجتمع ويتحسس أوجاعه ويتلمس مواطن العلة وقالت التقارير إنه كان يبحث عن فعل الخير فاهتدى صحبة محمد بوزويتة زميله في الدراسة – إن جاز التعبير- إلى ما اهتدى إليه محمد عبده من أن الإصلاح يبدأ من الأساس، من القاعدة، من التكوين، من الطفولة. وأن الصعود يبدأ من أسفل.
كان قاضي المنستير محمد مخلوف سلاميا حتى النخاع. وكانت العائلة المالكة نفسها تنتمي إلى الطرق الصوفية بمختلف أسمائها واتجاهاتها حتى جعلت من بعض الزوايا حرما آمنا للهاربين من العدالة وتحولت الزوايا إلى أحزاب أي إلى تكتلات أو مراكز قوى تقتسم النفوذ المحلي بمختلف وسائل الترغيب والترهيب ولم يتحرك قاضي المنستير عند تنحيه الحاج سالم عياد لأن هذا الأخير كان مناهضا للبدع. وكذلك كان موقف الإمام الغزالي إزاء احتلال الصليبيين لمدينة القدس، فقد انعزل إلى درجة الذهول.
أما الحاج علي صوة فقد أفاق بعد ذهول.
هذا الرجل الذي كان من الممكن أن تكون لحياته تلك الخاتمة لولا أن الله كان يريد بالمجتمع التونسي خيرا كان يعتزم قضاء اثنين وأربعين عاما في التنويه بصاحب الطار "بابا سلومة". لكنه غادر الزاوية وراح يزف ابنيه محمد وعبد الله يوم 26 أكتوبر 1930 تحت الأعلام التونسية وتلاميذ مدرسته التي لم يمض على افتتاحها إلا عام واحد ينشدون الأناشيد الوطنية أمام بيتي العريسين !
لقد خرجت الفراشة من الشرنقة
لقد ذهب رجل الهزيمة وجاء رجل الإصلاح
ألقينا على الحاج صالح صوة يوم أول مارس 2007 السؤال التالي: "هل كان الحاج علي صوة يتحدث عن الحاج سالم عياد ؟" فقال:" نعم !
المدرسة القرآنية "الهلال"
لقد اتفقت كل الروايات الشفاهية والمكتوبة على أن موضوع بناء المدرسة القرآنية بقصر هلال طرح على الحاج علي صوة في شكل اقتراح قدمه التاجر عثمان بن محمود الشملي - باسم السكان- حين كان الحاج بدكانه. وأضافت التقارير أن محمد بن عمر بوزويتة – رئيس الشعبة الدستورية بقصر هلال من سنة 1924 إلى سنة 1937 – كان عاملا رئيسيا في تبليغ رغبة السكان. فالواضح – إذن- أن الرغبة كانت جماعية وأن الإنجاز كان استجابة لها.
لكن ما يجب أن نذكر به هو أن قصر هلال كانت بها مدرسة فرنكو عربية أنشئت منذ سنة 1909 أي قبل عشرين عاما من افتتاح مدرسة "الهلال". فما الداعي إلى إنشاء مدرسة ثانية ؟ ولماذا التركيز على مدرسة قرآنية والإصرار عليها؟ أما كان من الممكن والأيسر توسيع المدرسة القائمة وكفى ؟
لابد –إذن- من العودة إلى الوراء لفهم الأسباب والدوافع.
لقد أنشئت المدرسة الحكومية بمساعدة كبيرة من الأهالي تمثلت في أرض تبرع بها آل الكعلي وكميات من الحجارة جلبها السكان على كواهلهم وأبدوا في جلبها من الحماس ما جعل المسؤولين يتذمرون من كثرة الحجارة التي جلبت ويتساءلون عما يمكن أن يفعلوا بها.
ورحب الأهالي بالمدرسة ترحيبا كبيرا واقتبلوا المقيم العام الفرنسي Gabriel Alapetite بحفاوة بالغة. غير أن ذلك الابتهاج سرعان ما تحول إلى مرارة بالغة. ولعل الكلمة التي ألقاها ممثل السكان أمام المقيم العام ثم الرسالة التي حررها العدل على بن حسن ابراهم نيابة عنهم يوم 21 ماي 1911 تكشف عن سوء تفاهم أساسي. فإذا كان الطرفان – الحكومة والسكان- متفقين على تسمية المشروع بالمدرسة فإنهما لم يكونا متفقين على المسمى. نعم. إنها مكان الدراسة. لكن دراسة ماذا ؟
كتب العدل على ابراهم – باسم الأهالي – ما قاله نيابة عنهم : "نطلب تسمية مدرس لتلامذة المكتب يعلمهم مع ما يزاولون به مبادئ لغة قومهم وبعض شعائر دينهم إتماما لإنعامكم علينا ". جاهلا أو متجاهلا أنه يطلب المستحيل وأن عليه أن ينتظر 18 عاما أخرى ليتحقق طلبه بمدرسة أخرى وإذا حرم الرجل من تحقيق رجائه إذ توفي سنة 1916 فقد تمتع حفيده – كاتب هذا الحديث- بثمار ذلك الرجاء.
احتفل السكان بالمدرسة الحكومية باعتبارها مولودا جديدا. وحين تبينوا ملامح المولود اعتبروه إجهاضا. فأداروا ظهورهم معتبرين أنه مولود ميت. نعم. اضطر بعضهم إلى ترسيم أبنائهم بها تحاشيا للأمية مثلما اضطر أسلافهم إلى التعلم بمدرسة المكنين. لكنهم نفوا عن المدرسة الحكومية اسم المدرسة. فدعوها "المكتب" أو "مكتب الشوك" لأن سياجها كان من نبات شائك. أما كلمة مدرسة فقد علقت بالمدرسة القرآنية دون سواها. فهذا "يقرأ في المكتب" وذاك "يقرأ في المدرسة". ولولا الدخول إلى السنة الأولى من التعليم الثانوي (السيزيام) لكانت القطيعة. وقد حاولت سلطة الحماية إحداث تلك القطيعة باعتبارها المدرسة القرآنية مدرسة حرة من جهة ومحاولة منع تلاميذها من اجتياز اختبارات العبور. وحين سمحت بذلك في نهاية الأمر كانت تحسب أن الفشل سوف يكون من نصيب تلاميذها. وكم كانت صدمتها حين جاءت النتائج مخيبة لآمالها إذ كثيرا ما فاقت النتائج كل التوقعات.
طلب السكان – سنة 1911- تعليم أبنائهم "اللغة العربية والدين الإسلامي" وجاء عقد تحبيس مدرسة الهلال سنة 1932 ليشترط أن "يقرأ بالمدرسة القرآن العظيم والعلوم الدينية والرياضية والعلوم الأجنبية على أحدث طريقة". ولعل هذا الترتيب نفسه يزيح الغطاء عن الأسباب والدوافع.
ولعله من المفيد أن نقارن بين قصيدين نظمهما كل من امحمد بن عمر بوشارب من قصر هلال وصالح السويسي من القيروان لتوشيح واجهة المدرسة. وإذا اختير القصيد الأول فإن ما يتضمنه من المعاني يكشف سبب الاختيار. في القصيد الذي تبنته المدرسة – وهو الذي يوشح جبينها إلى اليوم – إشارات إلى "المجد القديم" و"إحياء الآمال" و"عهد الجدود" و"كتاب الله" و"مجد الجدود" و"السير إلى الأمام" بينما يتوقف الثاني عند الرقي واليقظة و"نور العرفان". وقد وردت بديوان صالح السويسي مقدمة للقصيد جاء فيها: "نظم الشاعر الأبيات الآتية وأرسلها إلى قصر هلال لتكتب على لوحة لتوضع في واجهة المدرسة القرآنية التي أسسها المؤمن الكامل والمحسن الشهير سيدي الحاج علي صوة وقد صرف على بنائها مالا وافرا فجراه الله عن الإحسان خيرا". وهو كلام يقتصر على الناحية الظاهرة من عمل الحاج علي صوة.
قال امحمد بوشارب:
مساع أصابت في المعالي مراما وألقت عن المجد القديم لثامــا
وأحيت لنا بالله أمالنـا التـــي قضت نحبها والله يحيي العظاما
ذكرنا بها عهد الجدود وربمــا ذكرنا بآثار الكريم الكرامـــا
مساعي أمرئ لم يلف ابن يومـه ولم يرض إلا أن يكون عصامـا
أبت نفسه غير التقدم بالـــذي يكون لها يوم الجزاء وسامــا
فأسس هاتيك المباني تطلبـــا لإيواء نشء شرد ويتامــــى
وأجرى عليها من منابع جــوده عيونا ولكن لا تبيت نيامـــا
معاهد يمن لا يرحن أو أهــلا يصان كتاب الله فيها دوامـــا
أقمن على مجد الجدود أدلـــة وقلن لأبناء البلاد الأمامــــا
فيا حسنها وافت وفي أكبد غدت تؤمل بردا، عندها وسلامـــا
طربت لها والصب يطربه اللقـا وبت كأني قد شربت مدامـــا
وناديت من فرط المسرة أرخـوا رقي يهم المسلمين تمـــاما
وقال صالح السويسي :
متع لحاظك أيها الإنســــان فلمثل هذا يشيد البنيـــــان
هذا زمان الانتباه ومن ينـــم بين الشعوب نصيبه الحرمــان
كم في الوجود محاسن وأجلهــا علم به قد تسعد الأوطــــان
فأنظر لمدرسة أشاد بناءهـــا من قد أشيد بقلبه الإيمــــان
أعني علي صوة أجـل مؤسـس لأجل ما يرقى به الشبــــان
أثر يخلد ذكره طول المـــدى وبه الجزاء ينال والغفـــران
تلك المساعي الخالدات بمثلهــا تحيا البلاد ويسعد الإنســـان
ويزداد الأمر جلاء إذا تأملنا في الوثيقة التالية التي حرّرها مدير مدرسة الهلال محمد صوة خلال شهر فيفري 1932.
وقع الكثيرون في فخ اعتبار إنشاء مدرسة "الهلال" إنشاء لمؤسسة تربوية بدون الغوص في خصوصياتها فتحدثوا عن "رفع الجهل" أو "رفع الأمية"، وقد وقعت السلطة – أو بعض رموزها- في ذلك الفخ فاعتبر الحاج علي صوة يوم 12 نوفمبر 1929 رجلا يسعى إلى نشر المعرفة بين مواطنيه وبالتالي لا يمكن منعه من ذلك. واعتبره آخر يوم 18 جانفي 1930 "رجلا مسنا ساذجا Homme âgé et simple d’esprit . لكنها غيرت لهجتها حين اتضحت الحقيقة فأصبح يوم 29 نوفمبر 1939 "رجل زيت ذا اتجاه دستوري" وراح الكاتب العام للحكومة ينعت تلاميذ المدرسة بأنهم "600 شاب دستوري".
وللحقيقة والتاريخ فان أول من أدرك الحجم الحقيقي لإنشاء مدرسة "الهلال" كان فرناند ريكار Fernand Ricard مدير المدرسة الفرنكوعربية بقصر هلال. فقد بدأ بالاعتراض على إحداثها ثم اعترض على السماح لتلاميذها باجتياز اختبارات الشهادة الابتدائية و"السيزيام". وقد راح يذكر السلطة لاحقا بتحذيره وما لقيه من تجاهل.
فالقضية – إذن – لم تكن – سواء في نظر المؤسس أو السلطة – قضية تربوية بالمفهوم العادي للتربية والتعليم. لقد كانت قضية إصلاحية أساسا . وهذا ما أغفله الكثيرون من الدارسين وأشباه الدارسين. فراحوا ينعتون الحاج علي صوة بأنه "رجل خيري صالح".
وسوف تنقل للقارئ الكريم صورا لبعض المعارك التي خاضتها مدرسة "الهلال" ومن ورائها الحاج علي صوة. وكل ذلك اعتمادا على وثائق سوف نشرك القارئ في الإطلاع عليها.
لقد نشأ – بشأن مدرسة "الهلال"- صفان متقابلان. ولم نعثر على طرف محايد وحتى جريدة الدبيش التي أبلغت يوم 8 نوفمبر 1929 عن افتتاح المدرسة التي أنشأها "ملاك مسلم ثري" – حسب تعبيرها –– يشتم من تعابيرها رائحة الامتعاض. وقد جاءت مواقف الطرف التونسي على لسان الصحف وبعض الوجوه الوطنية نذكر بعضها حسب ورودها الزمني:
بدأت مظاهر الترحيب يوم 29 أوت 1929 حين بشرت جريدة الوزير بافتتاح المدرسة كاتبة: "... بفتح المدرسة القرآنية إن شاء الله التي شيدها السخي الكريم البار التقي السيد الحاج علي صوة تشييدا على أحدث طراز وصرف عليها أكثر من نصف مليون وأوقف عليها كذلك من الزياتين نحو هذا القدر تصبح قصر هلال زاهرة بحركتها الدينية والاقتصادية والعلمية. قرن الله مساعي المخلصين بالنجاح والفلاح".
أصدرت جريدة "النديم" عددا ممتازا يوم 15 فيفري 1930 نشرت فيه مقالا تحت عنوان "مدرسة الحاج علي صوة بقصر هلال" ورأت فيها مثلا أعلى لقيام المستطيع بما يجب عليه نحو أمته ووطنه" وأرفقت المقال بثلاث صور قال حسين الجزيري – صاحب الجريدة – أنه التقطها بنفسه وقد وردت الصور نفسها بالنشرية السنوية الأولى لجمعية طلبة شمال افريقيا المسلمين بفرنسا لعام (1928-1929) مع مقال تنويه بالمؤسسة ومؤسسها وتبدو المدرسة من خلال الصور غير مكتملة البناء. (الوثيقة 15).
جريدة "الوزير" : 30 جانفي 1930: "فتحت مدرسة قصر هلال القرآنية أبوابها وأقبل عليها المتعلمون حتى من الجهات القريبة فنجد السيارات تنقل أبناء القصيبة ولمطة وصيادة وبوحجر ذهابا وإيابا صباحا ومساء إلى قصر هلال ...".
جريدة "النهضة": 20 أوت 1930 : رأى الطاهر صفر في إنشاء مدرسة "الهلال" انتشالا من عصور التأخر والانحدار" (الوثيقة 14).
جريدة "النهضة": 27 أوت 1932، تحدثت عن حفل أقيم بالمدرسة يوم 24 جويلية لتقييم النتائج الحاصلة منذ إنشاء المدرسة وعن الحفاوة البالغة (توزيع المرطبات الرفيعة من صنع معمل الحاج علي صوة المؤسس لفائدة المدرسة).
جريدة "لسان الشعب": 10 أوت 1932 و 17 أوت 1932 و31 أوت 1932: مقالات لوصف الحفل الذي أقيم بالمدرسة يوم 24 جويلية 1932: حضر الحفل محمد بن مصطفى المعتمري وعلي بن الحارث من اللجنة المركزية للحزب الحر الدستوري ومديرو مدارس المكنين والقيروان ومساكن. ولم يحضر أحد من إدارة التعليم ولا عامل الجهة ولا الكاهية.
جريدة "الزهرة": 17 أوت 1942: الحاج علي صوة "...أشاد للعلم صرحا شامخا بقصر هلال".
جريدة الزهرة 5 فيفري 1945: نعتت مدرسة "الهلال" بـ "القصر العظيم" وأضافت بأنها "مؤسسة عظيمة صالحة لأن تكون كلية ثانوية أو عليا من أحسن الكليات".
جريدة "النهضة": 20 جوان 1945: شكرا للمدرسة ومعلمها عبد الحميد سليم (أحسن نتيجة بمركز المكنين).
جريدة "تونس": 1 جوان 1949 : الحاج علي صوة... "ابتنى حماما وأنفق عليه ثلاثة ملايين. فلما أنجز وأصبح ذا دخل حبّسه وقفا على المدرسة القرآنية بقصر هلال. وفي المدرسة اليوم 11 قسما. فأذن السيد الحاج علي صوة ببناء 4 أقسام أخرى لتصبح 15 قسما على حسابه. ووافق البناء سطا عمر بوزقندة المنستيري لبناء الأقسام الأربع بمليونين فرنك وخصص مائتي ألف لتأثيثها".
جريدة "النهضة" 8 فيفري 1950: "زرت صحبة نخبة من شباب البلاد التونسية المدرسة الهلالية التي أسسها الرجل العامل الحاج علي صوة فرحب بنا نائب مديرها الأستاذ رحيم بن صالح وقد يرجع إليه الفضل في تكوين الروح الثقافية وتغذية عقول الناشئة بهاته البلاد ووجدت بالمدرسة ما يقرب من 700 تلميذ في أربعة عشر قسما. وقد علمنا أنهم بصدد بناء أربعة أقسام أخرى... .
أما الطرف المقابل – أي سلطة الحماية- فقد بدأت بالامتعاض وانتهت بالعداء السافر. وقد حرر مدير الأمن أربعة تقارير مطولة عن مدرسة "الهلال" مؤرخة في 8 و 12 نوفمبر 1929 و 13 و 18 جانفي 1930 ختمت كلها بخاتم "سري" وكان ذلك بطلب من مدير الداخلية الذي رغب في تكليف عون "ذكي ومتكتم" Intelligent et discret (تقرير 12 نوفمبر 1929) وهي تقارير أجمعت على عناصر نلخصها فيما يلي:
مدرسة الهلال – ونظيرتها بالمكنين- يسيرها دستوريون ينقلون أفكارهم إلى التلاميذ.
قدم محمد بن الحاج علي صوة الترخيص وسانده امحمد شنيق كاهية القسم التونسي بالمجلس الكبير باعتبار أن المدرسة الحكومية "غير كافية".
عارض فرناند ريكار – مدير المدرسة الحكومية – إنشاءها لثلاثة أسباب: 1- التلاميذ المسجلون لديه قليلون 2- لا يمكن أن يكون الإقبال أكبر 3- وجود مشروع لبناء مدرسة حكومية بلمطة وصيادة.
الحاج علي صباغ ونساج (12 فيفري 1929) فلاح ونساج (13 جانفي 1930) أب لأربعة أطفال (هكذا). جمع في بضعة أعوام ثروة تقدر بعشرة ملايين. تمكن من اقتناء هنشير شراحل أواخر 1922 بثمانمائة ألف فرنك من الدكتور شطبون Sitbon من سوسة وباع من أجل ذلك كل أملاكه وهو يرغب في عمل ما يرضي الله.
اقترح عليه محمد بوزويتة إنشاء مدرسة ثانية "تستجيب لحاجيات السكان"
ساهم الطاهر صفر - صديق بوزويتة- الذي كان أدار مدرسة الجمعية الخيرية (العرفانية) بالعاصمة.
البرنامج التربوي ضبطه العربي بن مامي وهو كاتب بإدارة الشؤون العدلية وساهم في إدارة مدرسة "العرفانية".
انتدب الطاهر صفر المعلمين الثلاثة الأوائل: العربي الطبربي (باكالوريا – لتعليم الفرنسية) التهامي البناني وحسن قارة مصلي (تطويع – لتعليم العربية) أعفوا بعد ثلاثة أشهر "لقلة خبرتهم".
منافسة شديدة للمدرسة الحكومية : بين 30 و 50 تلميذا انتقلوا إلى "الهلال".
أصر الحاج علي صوة على القيام بشؤون المدرسة بمفرده
اجتماعات يومية لإطار المدرسة بمنزل محمد بوزويته
سوف تكون المدرسة منبتا pépinière للحركة الوطنية. وجوب مراقبتها حتى لا تصبح بؤرة Foyer للحركة الوطنية.
اعتزام إنشاء مشفى تابع للمدرسة (علاج الأطفال وأدوية مجانا)
مدير المدرسة -محمد صوة- لا ينتسب إلى أي حزب.
وقد تميز تقرير 18 جانفي 1930 بجانب كبير من الأخطاء والأحقاد ويبدو أن مصدره لا يتصف بالذكاء المطلوب : فالمدرسة افتتحت يوم 15 نوفمبر (هكذا) والحاج علي صوة رجل مسن وساذج أثرى بتجارته أثناء الحرب وابنه منخرط بالحزب الدستوري وعضو بالشعبة المحلية وهو الذي أثر في أبيه وجعله يفكر في الموت. حصل على الرخصة بفضل مؤامرات المتفقد التلاتلي. والمعلمون الثلاثة استقالوا والبشير القصاب – معلم الفرنسية الجديد – رجل محكوم عليه بالسجن من أجل الفساد ومحمد بوزويتة – المدعو المعيرش – عدو فرنسا اللدود – يكرهه غير الدستوريين ولو كانت الحكومة أكثر حزما لطردته منذ أمد بعيد (وثيقة 28)، أخطاء وسموم ذكرناها ليعرف القارئ الكريم ما كان يدور في كواليس المدرسة ويدرك حقيقة ما كانت تمثله مدرسة "الهلال" وبالتالي حقيقة ما أنجزه الحاج علي صوة.
وقد استنتج مدير الداخلية من كل تلك التقارير خلاصة رفعها إلى المقيم العام يوم 10 فيفري 1930 (بالخاتم السري) وعبر فيها عن:
1 - خشيته من تفشي الوعي الوطني بين الناشئة
2 - منافسة رآها "غير شريفة" للمدرسة الحكومية
3 – وجوب التعاون بين إدارة التعليم العمومي والداخلية عند إسناد الرخص للعمل على "استبعاد التعليم الحامل لأفكار إصلاحية" .
وبعد التقارير جاءت التضييقات والمضايقات وحتى الملاحقات.
بدأت بمنع انتقال التلاميذ من المدرسة الحكومية إلى مدرسة "الهلال" بدون أن يقع المنع المعاكس بعد أن لوحظ نزوح واضح. فقد أجبر الطاهر بوغزالة - مثلا- على إرجاع أخيه إلى "مكتب الشوك" رغم استناده إلى قصر المسافة بين مسكنه ومدرسة "الهلال" .
التلكؤ في الترخيص بفتح أقسام جديدة. فقد كتبت جريدة الزهوة يوم 7 فيفري 1945 : "نأسف لضيق المدرسة عن إيواء نحو السبعين طالبا لم تأذن الإدارة في فتح قسم لهم والحال أن ذلك القسم تام الموجبات من جميع الجهات. ولو أسرعت بالإذن في فتحه لصارت الأقسام بدل عشر احد عشر". مع العلم أن معدل عدد التلاميذ بالقسم الواحد كان سنة 1937: 61 تلميذا. وهذا وحده يشير إلى مبلغ الإقبال.
ملاحقة المعلمين بتعلات مختلفة: فهذا عبد الحميد بن حمودة سليم (1932-1946) أصيل المكنين "لا يعرف شيئا عن البيداغوجيا" مرة (تقرير 8 نوفمبر 1929) وهو "معروف بعدائه لفرنسا مرة أخرى (تقرير 13 جانفي 1930) .
وهذا محمد علي بن صالح الفريقي – أصيل قصيبة المديوني (1934-1937) "يقوم بالدعاية النشيطة ضد فرنسا ونظام الحماية" وهو مناهض للتجنيس.
وهذا ابراهيم عبد الله يبلغ رئيس قسم الجندرمة بسوسة عن تعيينه معلما بالمدرسة يوم 6 فيفري 1940 واصفا إياه بأنه "دستوري عنيد « Destourien acharné » ويقول "هذه المدرسة هامة جدا فهي تضم كل أطفال قصر هلال عدا بضع عشرات" ويحذر من تأثير ذلك على "الأجيال الجديدة" وتبعا لذلك التقرير أجبر محمد صوة على فصل ابراهيم عبد الله. وقد أضاف الكاتب العام للحكومة يوم 11 مارس 1940 بأن المعني لا يملك الشهادات القانونية التي تمكنه من التدريس .
ولكي ندرك – ولو بعض الإدراك- مبلغ ما عاناه معلمونا بالإضافة إلى المراقبة اللصيقة يجب أن نتذكر أن مدرسة "الهلال" – في عرف القانون – مدرسة حرة وأن معلميها – بالتالي – لم يكونوا يتمتعون بأية عطلة مأجورة مهما كان نوعها وأن مرتب المعلم بالمدرسة الحكومية كان يفوق ضعف ما تلقاه أرفع مرتب بمدرسة "الهلال" (الوثيقة 12).
وقد بلغت المضايقات أقصاها حين اعتقل مدير المدرسة محمد بن علي صوة صحبة حارس المدرسة أحمد بن محمد البهلول يوم 8 مارس 1952 لأن الكلبة البوليسية Bella رأت أنهما من قاطعي أعمدة الهاتف وقد بقي الرجلان رهن الاعتقال لمدة 24 ساعة . وقد أصدر معلمو المدرسة لائحة استنكار جاء فيها "إن مثل هذا الإجراءات التي تعتمد فيها الكلاب لهي أكبر هزء لبني الإنسان" ونحن تشتم من هذا رائحة المعلم رحيم بن صالح.
والحقيقة هي أن رجال التعليم بمدرسة "الهلال" كان لهم دور فاعل في استنهاض الهمم وتحريك السواكن لا بالمدرسة وحدها بل بالقرية ومحيطها. ولعل ذلك يستوجب دراسة كاملة. غير أننا نكتفي هنا بذكر نقاط لها دلالتها:
محمد زخامة الذي باشر التدريس بمدرسة "الهلال" من 1931 إلى 1937 كان من أبرز قادة الحركة الدستورية بالمكنين.
فرج بن سالم جمعة الذي باشر التدريس بها من سنة 1938 إلى 1946 انتقل إلى مسقط رأسه طبلبة ليؤسس بها المدرسة القرآنية "الهداية".
محمد بن محمد البحري الذي باشر التدريس بها (1936-1937) انتقل إلى جمّال ليؤسس بها المدرسة القرآنية "الهداية" ثم إلى مسقط رأسه حمام سوسة ليؤسس بها المدرسة القرآنية "الأخلاق" ومن تلاميذ مدرسته رئيس الجمهورية التونسية زين العابدين بن علي. وقد أبقى على صلاته بقصر هلال حتى وفاته. وقد حضرنا حفل تكريم له أقيم بحمام سوسة بمناسبة توسيمه أواخر التسعينيات من القرن الماضي.
مشهد للحاضرين في محاضرة ألقيناها في أول جوان 1990 بمدرسة "الهلال" ويرى الشيخ البحري إلى يسار الصف الأمامي بطربوشه وجبته المألوفتين كما يرى الحاج صالح صوة إلى اليمين.
رحيم بن صالح بن بوذينة الجبالي الذي قضى بالمدرسة 22 عاما (من 1934 إلى 1956) كان أحد دعائم التطور الثقافي في البلد وما جاورها. وقد اعترفت جريدة النهضة يوم 8 فيفري 1950 بفضله في "تكوين الروح الثقافية وتغذية عقول الناشئة بهاته البلاد" وقد كان له دور ثقافي بارز في المنطقة بأسرها. ولم يتناقص إشعاعه إلا بعد انتقاله إلى العاصمة سنة 1956.
كان رحيم بن صالح – كما يسمي نفسه – نظاما ماهرا (إن لم يكن شاعرا) فقد عرف بقصيد ضمنه كل الكلمات التي بها "ظاء". وقد ذاق الكثيرون مرارة العصا في سبيل حفظها وقد جاء فيها :
لا تظلمن وحافظ وانتظم أبـــدا وظن خيرا وحاذر غيظ من حقـدا
إليك نظما به الظاءات قد جمعـت ما شذ في اللفظ وما فيه قد عهـدا
العظم والظهر والتنظيف مع ظمـإ ظلف ولحظ وحظ الظبي ظل سدى
غيظ شواظ لظى والفظ في شظـف كظم غليظ وظل باهظ مــــددا
ويقظة ثم ظلع نظرة حظـــرت ظرف وظيف ووعظ فيه معتمـدا
وحنظل ثم عظب ظفر منتصــر حد القريظ ولا تحظل إذا وجــدا
كظ فظيع وظئر الظعن حاظيــة وجاحظ في عكاظ والتعاظــل دا
فهذه جملة المشهــود من كـتب واظب على الدرس تكن من السعدا
وقد قرأنا "للشيخ رحيم" – كما كان يسميه الهلاليون – قصيدا طريفا تضمن استقالة من نقابة ذات اتجاه شيوعي حين أبدت مناهضة للحركة الوطنية في مقال نشره بجريدة "الصباح" ليوم 13 ماي 1946 تحت عنوان "استغفر الله" وجاء فيه: "إني الممضي أسفله أعلن عن انسحابي من نقابة المدارس القرآنية ما دامت متمسكة بأذيال جامعة CGT التي أصبحت تضرب الأمة التونسية في الصميم خصوصا موقفها الأخير نحو القادة الأبرار:
يا رب عز بلادي هو أمنيتــي فأقبل رجائي وكفر عني سيئتــــي
قد اندمجت زمانا ضمن جامعة تسير عكس مرادي اسمهــا س.ج.ت
لا در در أمرئ يرضى بمهزلة وإن يعاتب أجاب القصد مصلحـتـي
إني انسحبت بتاتا من نقابتنــا إن هي قد بقيت في حضرة الس.ج.ت
استغفر الله للأخوان كلهــــم ما دام قائدهم هو نافــع الس.ج.ت
ولعلها أول مرة تقدم فيها الاستقالة شعرا
صورة أمدنا بها بوبكر بن أحمد الممي. ولم نتمكن من الحصول على صورة أوضح رغم مساعينا لدى إبنيه توفيق الجبالي وياسين بوذينة (للتاريخ والاعتبار)
أما فرحات بن محمد صالح (1930-1931) فهو شاعر ملتزم وجدنا له قصيدا نشره بجريدة "الزمان" يوم 17 نوفمبر 1930 وهو معلم بمدرسة "الهلال" تحت عنوان "فتاة تونس" جاء فيه:
يا قوم هبوا علمــوا فتيـــاتكم ودعوا التصامم فهو صعب المصرع
أو نرضى أن تبقى النساء جواهلا ونروم عزا للبـــلاد وندعـــي
كلا فتونس لا نهوض لهـــا إذا بقـي النســاء بجهلهن الأشنـــع
وأما الهادي بن علي الشاوش (1924-1995) فقد غادر الهلال ليدخل المحتشدات لنشاطه السياسي ثم يرأس الجمعية الخيرية الإسلامية بقصر هلال ويؤسس المدرسة القرآنية الثانية للذكور "المأوى الخيري" سنة 1952.
الهادي بن علي الشاوش صحبة تلاميذه في شهر مارس 1948 ويرى كاتب هذا متربعا إلى يمين الصف الأمامي من الصورة.
ولكي ندرك الجو الثقافي الذي كان يتنفس فيه تلاميذ مدرسة "الهلال" يحسن أن نتوقف برهة عند فعاليات احتفال نظمته المدرسة يوم 24 جويلية 1932 لتقييم مسيرتها : فقد بدأ الحفل بتلاوة سورة الفتح من طرف التلاميذ وبعد إجراء اختبارات دامت ثلاث ساعات ألقى التلميذ أحمد قعليش (الحبشي) قصيدا من محفوظاته وخطابا من إنشائه. ثم تحدث المعلم البشير بن محمد زنيتة (1930-1934) عن أسباب الانحطاط التونسي كما تحدث المعلم محمد الصادق الميلادي وهو معلم من صفاقس عن الاعتماد على النفس. وليس عجبا أن تمتنع إدارة التعليم العمومي أو السلطة الجهوية والمحلية عن الحضور .
صورة نرجح أنها التقطت يوم 24 جويلية 1932 ويرى الحاج علي صوة رفقة ابنه محمد مدير المدرسة
ولكي ندرك التأثير الذي كان لذلك الحضور الثقافي والإصلاحي وجب أن نحضر حفل زفاف الأخوين محمد وعبد الله ابني الحاج علي صوة يوم 26 أكتوبر 1930. فهي الأعلام ترفع وهي الأناشيد الوطنية يلقيها التلاميذ أمام بيتي العريسين ثم هو ثمن من القرآن يتلونه ويكفي أن تنقل الصحف صورة عن ذلك الحفل لندرك أنه تحول إلى عرس وطني .
وقد حاول وفد هلالي إقامة حفل زفاف مماثل بطبلبة فطردهم شيخ القرية وانتقلت "عدوى" ذلك الزفاف إلى فرج بن محمد القابسي يوم 16 جوان 1933 وأحمد بن حسن جمور يوم 20 أكتوبر 1933 الذي تحول إلى عكاظية للشعر الوطني .
وقد كان مدير الإدارة العامة على حق حين أبلغ يوم 25 فيفري 1940 عما دعاه بـ"الدعاية السياسية" التي تقوم بها مدرسة "الهلال" .
وحتى تلاميذ مدرسة "الهلال" لم يسلموا من سهام السلطة. وقد تذمر ضابط الشرطة بالمنستير يوم 16 أكتوبر 1934 –أي بعد حوادث سبتمبر بشهر ونصف – من تلاميذ المدرسة الذين اعترضوه وهو مصحوب بعون يحمل الزي الرسمي فصاحوا في وجهه "تحيا تونس" وطالب بإجراء بحث عمن يقف وراءهم .
وحتى قدماء مدرسة "الهلال" لم يسلموا من مظاهر المضايقة. فقد تذمر الناصر (الصادق) بن علي الشايب – الكاتب العام "لجمعية قدماء المدرسة بقصر هلال" من عدم الحصول على إجابة بعد تقديم القانون الأساسي يوم 17 أكتوبر 1937 والناصر الشايب هو أول تلميذ أنهى تعليمه العالي من مدرسة الهلال .
ولم يكتب لتلك الجمعية أن ترى النور إلا أوائل شهر أفريل 1946 أي بعد زهاء العام وأنشأت مكتبة "فتى الهلال" التي كان الإقبال عليها كبيرا. وأشرفت علي تسييرها الهيئة التالية .
المدير : حسن قاسم
الكاتب العام : الطاهر الصانع
مساعده : محمد الدوس
الحافظ : البشير سعيدان
كاهيته : الصادق القنجي
نائب القدماء : عبد السلام خليفة
بمساعدة المعلمين: رحيم بن صالح ويوسف بايع راسه
وقد كتبت جريدة النهضة عن تلك الجمعية يوم 8 فيفري 1950 وعبر مراسلها عن أسفه لما أصاب أفرادها من خمول وكسل" .
لقد أحسّ السكان بضرورة مساندة مدرستهم فحرروا يوم 21 ديسمبر 1930 عريضة يطلبون فيها الترخيص بتكوين لجنة "تتولى قبض التبرعات وإدارتها في صالح المدرسة" وهي عريضة أمضى بها 32 شخصا ووقع السكوت عنها .
وأصابت الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالبلاد التونسية سنتي 1931 و 1932 الحاج علي صوة فكتب محمد صوة – مدير المدرسة- إلى الوزير الأكبر يوم 20 فيفري 1932 ملاحظا أن المدرسة لا تتمتع بالإعانة الحكومية التي تتمتع بها بقية المدارس القرآنية وأن الأزمة الاقتصادية تدعوه إلى طلبها وقد ساندت جريدة صوت التونسي La voix du Tunisien يوم 15 مارس 1932 ذلك الطلب مؤكدة أن المدرسة لا تتلقى أية مساعدة.
وبعد أن أمضى الحاج علي صوة عقد تحبيس المدرسة يوم 2 جويلية 1932 طلب منه أن يدفع معاليم التسجيل. وقد تجرأ عامل المنستير الهاشمي بن خليفة بشجاعة نادرة على أن يطلب من مدير المالية يوم 15 أوت 1934 إعفاء المدرسة من تلك المعاليم الموظفة على عقد التحبيس واعتبر ذلك الإعفاء – عن حق – عملا سياسيا من شأنه أن يرضي السكان ويرد الغاضبين . وقد رد مدير المالية – لغباوته- بأن ذلك الإعفاء غير ممكن وأن الإجابة نفسها وجهت إلى امحمد شنيق الذي تدخل للغرض نفسه .
دفعت تلك التضييقات بمراسل جريدة النهضة إلى أن يكتب يومي 24 جانفي و 9 فيفري 1937 تحت عنوان "ما هو مستقبل "الهلال" وخريجيها بقصر هلال ؟": ... الحكومة تفضل إعانة"جامع اليهود ومساعدة دير الرهبان على إعانة المشاريع القومية" داعيا إلى المساندة المادية لجهود الحاج علي صوة. وسوف نرى أن الحاج علي صوة قد استجاب لذلك الطلب على صعيد المدرسة ثم على صعيد خريجيها. فقد بنى بجوار المدرسة سنة 1948 حماما ثم حبسه عليها ليضمن لها الموارد الضرورية ثم أنشأ بالعاصمة مبينا للطلبة.
وردا على مزاعم الحكومة بأن المدارس القرآنية تتلقى منحة مالية. كتب الجيلاني حمزة – مدير المدرسة القرآنية بالمهدية- بجريدة النهضة يوم 9 مارس 1938 : ... "هناك مدرسة قصر هلال..." باعتبارها مثالا حيا للمدارس التي لا تتلقى مساعدة من الدولة. وقد لاحظنا تعاونا بين المدرستين القرآنيتين بقصر هلال والمهدية بلغ حد الانتداب المشترك عن طريق الصحافة .
أصاب الجفاف الحاج علي صوة فيمن أصاب من الفلاحين ودام طيلة سنوات 1946 و 1947 و 1948 فعجز عن دفع ربع مرتبات المعلمين بمدرسة "الهلال". وهي التكملة التي كان عليه دفعها حسب التراتيب الجديدة. وقد كتب المعلمون وعددهم اثنا عشر عريضة يشكون فيها أمرهم إلى إدارة
التعليم العمومي التي ردت في شماتة واضحة بان الأمر لا يهمها، فالرجل عاش ضائقة مالية خانقة – وخاصة بعد اقتنائه لهنشير البزازية خلال سنتي 1944 و1945 – جعلته ينوء تحت أعباء قد تعجز عنها حكومات.
هذه المضايقات والتضييقات قابلتها إجراءات حاتمية إزاء المدرسة الحكومية. وقد تظاهر الكاتب العام للحكومة بالعطف والإعجاب إزاء مدرسة "الهلال" يوم زارها أواخر شهر نوفمبر 1939 وتلا عليه أحد التلاميذ كلمة ترحيب وتساءل متخابثا: هل من الضروري أن نعطي شيئا للتذكير بزيارتي؟" . وقاد أجابه مركز الاستعلامات بالقيروان يوم 29 نوفمبر 1939 بأنه يجب تدعيم المدرسة الحكومية وان إنشاء مطعم مدرسي بها قد تكون له نتائج طيبة "وقد ساند الكاتب العام للحكومة وأبلغ الاقتراح إلى مدير التعليم العمومي معتبرا ذلك "دعاية عن طريق البطن" .
وقد كتبت جريدة الزهرة يوم أول ديسمبر 1939 معلقة على تلك الزيارة: "خطب صبي من نجباء تلامذة المدرسة القرآنية بقصر هلال خطايا بديعا تأثر له جناب الوزير المفوض أشد التأثر". وليت كاتب التعليق كان يعرف حقيقة ذلك الإعجاب وتداعياته.
ورغم كل تلك المضايقات والتضييقات فقد تذمر مدير الداخلية يوم 10 فيفري 1930 من أن مدرسة "الهلال" تقوم بمنافسة "غير شريفة" .
وخلاصة القول فإن الأوساط التونسية اعتبرت مدرسة "الهلال" مدرسة "تعلم القراءة والكتابة والحساب" واعتبرتها السلطة عدوا. وموقف السلطة –في نظرنا- هو الصحيح.
ولم يربط أي تونسي بين نشأة المدرسة سنة 1929 من جهة وانعقاد مؤتمر "البعث" بقصر هلال يوم 2 مارس 1934 من جهة أخرى إلا الفرنسي فرناند ريكار مدير المدرسة الحكومية (الوثيقة 6) وسانده رئيسه – متفقد اللغة الفرنسية- الذي أعلن أن مدرسة "الهلال" خطر على الحضور الفرنسي بالإيالة. وقد أثبتت الأيام رأيهما وراح بعضهم ينوه "بالرجل الصالح" – الحاج علي صوة – جاهلين أو متجاهلين ما كان يجري وراء ستار الواجهة المدرسية من صراع من أجل الوجود القومي، لذلك أيقنا أن الاتصال الشخصي قد يعمي البصيرة فتحول "المعرفة" السطحية دون العرفان.
المدرسة ومديرها محمد صوة في أوج الكهولة. نلاحظ ولع الحاج علي صوة ببناء الطراز الأغلبي (أقواس وأعمدة) في المدرسة ومبيت العاصمة والمستشفى ومنزله: قيل لنا في القيروان أنه ربط علاقة بنظيره الصغير نقرة وأنه زار مدرسة الفتح التي أنشأها بالقيروان كما زار المدرسة الصادقية بالعاصمة.
منزل الحاج علي صوة
ذلك كان إشعاع مدرسة "الهلال" على محيطها. وإذا رحنا اليوم نتحدث عن "تفتح المدرسة على المحيط" حديثا فيه الكثير من الالتباس فقد كانت مدرسة "الهلال" تغزو محيطها مؤمنة برسالتها راسخة الخطى.
أما عن المدرسة فقد أحيلت يوم 23 نوفمبر 1960 على وزارة التربية القومية (كتابة الدولة سابقا) بعد صدور قانون 2 مارس 1956 القاضي بضم الأحباس العامة إلى أملاك الدولة.
وإذا كانت تلك الإحالة أمرا طبيعيا فإن إحالة الحمام المحبس عليها على البلدية لا يخلو من الغموض، نعم إنه ملك عمومي. لكن ما علاقة البلدية بالموضوع ؟ هل زودت المدرسة بما يقابل ذلك ؟ هل بنت لمدير المدرسة مسكنا مثلا ؟ هل هو "رزق بلاش أمالي" ؟ أم أنه كتب للحاج علي صوة أن يعطي وللآخرين أن يأخذوا ؟ وحتى أرشيف المدرسة الذي يضم كميّة لا بأس بها من الوثائق لا يتضمن نسخة من عقد تحبيس الحمام ولم نتمكن من نشره.
نكتب هذا مع الاعتذار للقارئ الكريم لأن التاريخ – كما قال ابن خلدون- عبر
تصويبات
جاء في كتيب نشره فوج الكشافة التونسية بقصر هلال بمناسبة المخيم العربي الرابع في أوت 1960 مقال تحت عنوان "قصر هلال والتعليم" جاء فيه : كانت قصر هلال منذ عهد ليس بالبعيد تتخبط في جهل كبير إذ المتعلمون في القرية حوالي سنة 1920 كانوا يعدون على الأصابع إذا لم نقل منعدمين تماما ... لكن أراد الله خيرا بهذه البلدة فمن عليها برجل الفضل المرحوم الحاج علي صوة الذي أشرق نور العلم على يديه في وجه أبناء البلدة بتأسيس مدرسة قرآنية عصرية للذكور سنة 1928 تحتوي على أكثر من 15 قسما وازدادت الحال تحسنا حين استجاب المستعمر لمطالب القرية وأسس بها مدرسة ثانية عربية فرنسية...".
وهو كلام مردود جملة وتفصيلا
- مدرسة "الهلال" فتحت أبوابها يوم 2 نوفمبر 1929 ولا سنة 1928. وهو الخطأ الذي وقع فيه الدكتور أحمد بن بكير محمود .
- لم تضم عن افتتاحها "أكثر من 15 قسما" ولا على ستة أقسام – كما جاء في مقال محمد الصالح المهيدي بل على خمسة أقسام.
- لم تكن مدرسة "الهلال" الأولى بقصر هلال. فقد سبقتها المدرسة الفرنكوعربية – ولا عربية فرنسية – منذ سنة 1909.
- لم يكن فتح المدرسة الحكومية استجابة لمطالب السكان بقدر ما كان محاولة للسيطرة على النشاط الصناعي الذي كان يميز قصر هلال باستقلالية واضحة. ومتى كان المستعمر يصغي إلى مطالب السكان ؟ إنه مدح لا يستحقه !
لو اطلع كاتب المقال على الحركة الإصلاحية بقصر هلال في العشرينات من القرن الماضي لما زعم بأن قصر هلال كانت – آنذاك- "تتخبط في جهل كبير" وقد كان بالمدرسة الحكومية سنة 1920 بالضبط 141 تلميذا. يقيننا أن كاتب ذلك المقال هو الذي يتخبط فيه.
وقد رأى الدكتور احمد محمود أن تطوير صناعة النسيج كان بوازع تلقائي من سكان قصر هلال ونحن نرى من باب الدرس الموضوعي – أن ذلك غير صحيح. فقد كان للمدرسة الحكومية عمل رائد فهي التي أدخلت نول جاكار Jacquard وهو نول معدل يقع بين النول التقليدي والنول الميكانيكي. وقد ضمت المدرسة سنة 1914 أربعة أنوال : ثلاثة من مدينة Lyon لنسج الحرير Shappe وواحد من مدينة Orléans لنسيج القطن في حين كان عدد الأقسام العادية اثنين فقط.
كتب محمد الصالح المهيدي: "لم يمانع مدير المدرسة الابتدائية الفرنسية بقصر هلال من فتح مدرسة قرآنية بالمكان" وذلك غير صحيح. فقد كان منذ البداية وحتى بعد ذلك بأعوام من ألدّ أعدائها.
المدرسة كما ترى اليوم
المدرسة الهلالية بالعاصمة
كتب احمد بن الحاج علي صوة في مذكراته: "لما عزمت أنا وأخي صالح على الالتحاق بالتعليم الزيتوني اضطررنا إلى السكن مؤقتا في نزل متواضع بنهج القصبة مع علي بن محمد عياد والهادي بن علي الشاوش في غرفة واحدة إلى أن نجحت الوساطات في تمكيننا من السكنى في إحدى الغرف بالمدرسة اليوسفية بنهج الصباغين وطردنا من المدرسة في نهاية السنة الدراسية. ثم انتقلنا إلى المدرسة الصالحية بنهج سيدي بن عروس وكنا ثلاثة أنا وأخي وعلي عياد ثم التحق بنا عبد العزيز بن محمد حشانة فأصبحنا أربعة نعيش في ثمانية أمتار مربعة نستعملها للنوم والمراجعة والطبخ والخزين".
هذه صورة لما كان يجتازه الطالب من اختبارات تسبق الاختبارات الدراسية بل هي صورة عن رحلة العذاب التي كان على طالب العلم أن يقطع مراحلها. بل هي صورة عن مشاق لا تبتعد عن المستحيل إلا قليلا.
وهي التي دفعت مراسل جريدة "النهضة" أن يتساءل يومي 24 جانفي و9 فيفري 1937 في حيرة صارخة ما هو مستقبل "الهلال" وخريجيها بقصر هلال ؟ " وإذا رأينا كيف جاءت الإجابة عن السؤال المتعلق بالمدرسة من طرف مؤسسها إذ حبس عليها حماما ليضمن لها موردا فقد جاءت الإجابة عن السؤال المتعلق بالخريجين من المؤسس نفسه.
قال أحمد صوة: "فأدرك الوالد آنذاك أهمية السكن بالنسبة إلى الراغبين في مواصلة الدراسة وأحس بقساوة العقبات التي تعترض الكثيرين من خريجي المدرسة القرآنية ففكر في إنشاء مدرسة للمبيت تخصص مبدئيا لأبناء قصر هلال ثم تتسع لغيرهم من الراغبين لا فرق في ذلك بين زيتوني أو مدرسي".
ولقد تتبعنا مسيرة المشروع منذ طلب الحاج علي صوة من الوزارة الكبرى سنة 1938 – أي بعد عام من صدور المقال – تمكينه من أرض صالحة لبناء المبيت بالعاصمة. وأحال الوزير الأكبر الهادي الأخوة الطلب مع المساندة على جمعية الأوقاف يوم 11 جانفي 1939. وقد كان رد رئيس جمعية الأوقاف محمد الحبيب الجلولي – ولا محمد سعد الله كما قال أحمد صوة – يوم 10 ماي 1939 قائلا: "لا يوجد براح بالحاضرة يصلح أن تبنى به المدرسة سوى البراح الذي بصحن جامع الهواء. وهو الذي كان وقع العزم على إحداث مدرسة به من فواضل الزاوية العياشية (بطبلبة) منذ جانفي 1927 ولم يتم من ذلك إلا بناء الأسس وتوقفت الأعمال إلى الآن. ولما نظر مجلس الجمعية فيما ذكر قرر الموافقة على بناء المدرسة بذلك البراح" .
وبدأت الأشغال
غير أنه تبين للحاج على صوة الذي لم تكن ترضيه أنصاف الحلول أن مساحة الأرض غير كافية فسعى لدى الوزارة الكبرى – مجددا – كي تمكنه من التضحية بخمسة عشر من زياتينه بقصر هلال مقابل دكان موقوف على جامع الهواء قصد توسيع المكان المخصص للمبيت. وأذن الوزير الأكبر – باسم الباي- بإجراء المعاوضة يوم 21 ديسمبر 1941 .
وانتهت الأشغال في شهر أوت 1942 فكتبت جريدة الزهرة يوم 17 أوت 1942 تحت عنوان "المدرسة الهلالية بالعاصمة": "من هو الذي يجهل ذلك الرجل الخيري العظيم السيد الحاج علي صوة الذي صدق فيما عاهد الله عليه؟ فبالأمس أشاد صرحا شامخا بقصر هلال واليوم أقام لطلاب العرفان أرقى مدرسة على أحدث طراز وأبدع هيئة بالمركاض بتونس. وقد تسلم صديقنا الأستاذ محمد صوة مفاتيح المدرسة بعد إتمامها ليقع توزيع بيوتها على طلبة العلم المتعطش. فلتحي هذه الروح الكريمة الفياضة بكل خير".
وصفها أحمد صوة – وهو أول ناظر لها – فقال: تحتوي على طابقين يشتملان على 43 غرفة تتسع الواحدة لثلاثة سكان وجناح خاص بالأدواش ومصاطب للطبخ والمراحيض ... كان البناء جميلا فرشت ساحته بالرخام الأبيض وكذلك درجه ...".
وما أن انتهت الأشغال وعند إدخال النور الكهربائي تعرضت العاصمة إلى القصف الجوي وفضل الطلبة العودة إلى ديارهم.
وافتتحت المدرسة الهلالية يوم 5 نوفمبر 1942.
وعند بداية سنة 1943 طلب شيخ المدينة تسخير المدرسة للحفاظ على رفات ضحايا القصف فلبى الحاج علي الطلب.
لكنه فوجئ باحتلال المدرسة من طرف طبيب الأسنان الشاذلي زويتن الذي "سمح لنفسه بخلع باب المدرسة واحتلال غرفها التي شغلها باعتباره رئيسا للهلال الأحمر" وطالبه الحاج علي صوة بإخلاء المدرسة بدون جدوى. وقد أجاب بأن المحلات مخصصة للإغاثة بينما هو يخصص قاعتين منها لجمعية الترجي الرياضي التي يتولى رئاستها وأن القاعات الأخرى يشغلها أناس قدموا من داخل البلاد".
وقد اضطر الحاج علي صوة إلى تقديم شكوى يوم 21 مارس 1944 – أي بعد عام كامل – إلى كل من الباي والوزير الأكبر والمقيم العام الفرنسي الجنرال ماست (الوثيقة 7).
وقد علقت جريدة الزهرة يوم 27 أفريل 1944 على ذلك الوضع تحت عنوان "مدرسة سكنى الطلبة بالمركاض تعبث بها الأيدي". وتحدثت عن استيلاء "بعض الهيئات" على المدرسة باسم "الإسعاف" وعن حالة الطلبة الذين وقع اغتصابها منهم "حتى أن هناك بيتا من أحسن بيوت المدرسة قد أخذت كمكتب خاص لأحد مسيري تلك المنظمات المنحلة اليوم وهي المدرسة التي شادها المحسن البار الشيخ علي صوة".
وما دامت خالية من الطلبة فقد استخدمت يوم 9 نوفمبر 1944 لإقامة الدستوريين القادمين من الساحل للمشاركة في أربعينية عبد العزيز الثعالبي .
وحين صدر الأمر بإخلائها من اللاجئين وتسخير إحدى الثكنات لإسكانهم استوجبت حالتها إصلاحات دعت ناظرها أحمد صوة إلى أن يطلب يوم 2 نوفمبر 1945 ترخيصا في اقتناء كمية من البلور والدهن – لأنها من المواد المقسطة – لإصلاح ما لحق المدرسة من أضرار .
وكتب أحمد صوة عن تلك الفترة : "كلما خلت غرفة من اللاجئين سكنها الطلبة حتى بلغ عددهم 128 نصفهم تقريبا من قصر هلال والقرى المجاورة و 9 من الجزائر والبقية من سائر البلاد. من ذلك أن قلعة الأندلس التي لم يكن يوجد منها طالب واحد يواصل دراسته الثانوية مكنت المدرسة 13 طالبا منها دفعة واحدة من السكن ومواصلة الدراسة".
أوقف الحاج علي صوة ذلك المبيت على جامع الزيتونة ثم فعل ما فعله إزاء مدرسة "الهلال" فضمن له موردا وحبس علي المبيت نزلا بالعاصمة كتبت عنه جريدة "تونس" يوم أول جوان 1949 : "الأوتيل في نهج بن عياد من العاصمة التونسية يقدر ثمنه بأربعة ملايين تبرع به مالكه السيد الحاج علي صوة لسكنى الطلبة وسلمه لمشيخة الجامع الأعظم...".
وقد أجاب أحد القراء عن ذلك بالجريدة نفسها يوم 15 جوان 1949: "الحاج علي صوة الذي كتبتم عن مبراته في العدد الماضي هو صاحب مبرة المدرسة المعروفة باسمه في الربض الأعلى من العاصمة التونسية والتي يسكنها اليوم 150 طالبا نصفهم من إخواتنا الجزائريين. وهي أحدث مدرسة عصرية يجد فيها الطلبة المرافق العصرية والتنوير الكهربائي والمياه الجارية والنظافة".
ولقد قدر لكاتب هذا العمل أن يقضي بذلك المبيت أسبوعين من شهر أكتوبر 1950 في انتظار أن يمكنه مدير المدرسة العلوية – وهو فرنسي- من دخول مبيتها بعد أن أهداه والدي "بيدون زيت".
تولى الإشراف على "المدرسة الهلالية" تباعا
أحمد بن الحاج علي صوة (1942-1946)
عبد العزيز بن محمد حشانة (1946-1951)
أحمد بن بكير محمود (1951- 1952)
خليفة بن أحمد صوة (1952 – 1955)
حمادي بن حسين بوزويته (1955- 1956)
امحمد يدعى الهاشمي بن محمد كشيدة (1956-1958)
المنجي بن محمد كشيدة (1958 – 1960)
وقد كان قبول المطالب منظما يتطلب الأوراق التالية: بطاقة مدرسية–العنوان- شهادة فقر – شهادة في حسن السيرة .
ويوم 12 نوفمبر 1954 جرى بها إحياء الذكرى الأولى لوفاة مؤسسها الحاج علي صوة بإشراف جمعية الشباب الأدبي الهلالي"(الوثيقة 24).
وختم أحمد صوة شهادته فكتب: "... واستمرت هذه المدرسة في أداء مهمتها إلى سنة 1961 حيث وقع الأمر بهدمها مع منزل الدكتور الماطري بدعوى توسيع الساحة وإبراز المنزل الذي كان يسكنه الزعيم الحبيب بورقيبة (ساحة معقل الزعيم حاليا).
وقد يكون السبب الحقيقي تهديم منزل الدكتور محمود الماطري المجاور للمدرسة.
المستشفى
مسيرة الحاج علي صوة مسيرة ناصعة لست تجد فيها مأخذا مهما كان اتجاهك الثقافي أو الاجتماعي أو السياسي أو الديني لأنها أخذت دعائمها من ثوابت الإنسانية وهمومها. وهي هموم عاشها في نفسه وفي ذريته وفي مجتمعه : عاش الأمية الحرفية وقيودها وعاش الفقر وخصاصته وعاش فتك الأمراض بالناس.
الحاج علي صوة كان عين قصر هلال المبصرة وكان أذن قصر هلال الصاغية وكان عزيمة قصر هلال الفاعلة.
أما الأسباب التي وقع عليها بصره فآلمته أو بلغت مسمعه فأزعجته فهي قسمان: عامة وخاصة.
فأما الأسباب العامة فتتمثل في الأمية التي جعلت الناس لا يجدون "من يقرأ لهم رسائلهم والحالة الصحية المتردية بقصر هلال وما جاورها فهي الكوليرا والتيفوس والجدري والحصبة والتيفويد وحمى المستنقعات تحصد الآلاف.
وهي الحوادث التي لا تجد الإسعاف
وهي الكلاب المسعورة تعيث في الناس نهشا
وهو الرمد الذي يجعل نصف المجندين يعفون من الجندية
وهي العقرب تسود القرية كلما جن الليل صيفا.
وأما السل فقد كان يفتك بأوساط النساجين وعائلاتهم فتكا. ولعل بعض شيوخنا يتذكرون الطبيب الشاب حامد القروي وهو يحارب السل بمستوصف دار النزالة بقصر هلال طيلة شهري جويلية وأوت سنة 1957.
وقد تراوحت ردود فعل السكان إزاء تلك الحالة المتردية بين الاحتجاج طورا والاستسلام للمتاجرين والمشعوذين في أغلب الأحيان.
فقد حرروا يوم 11 نوفمبر 1921 عريضة بها 126 إمضاء موجهة إلى المقيم العام للمطالبة بتعيين طبيب قار عوضا عن الاقتصار على يوم الأربعاء وتساءلوا بسخرية مرة: هل يجب على المعوزين أن يمرضوا يوم الأربعاء فقط ؟ .
وقد وجب انتظار سنة 1927 لنرى نشأة أول مستوصف بقصر هلال بمقر دار النزالة سابقا قبل أن تستغله اللجنة الثقافية فالكشافة التونسية ثم الشعبة الدستورية لوسط المدينة وبقي المستوصف بدون طبيب حتى بدأت طبيبة الاستعمار بالمنستير يوم 30 أفريل 1932 زياراتها صباح كل يوم أربعاء. وقد جاء في البلاغ أن "سي عبد السلام كشيدة - ممرض المستوصف- يضع نفسه تحت تصرف سكان قصر هلال وأحوزها لختان الأطفال مجانا" . وقد كان ذلك بعد أن أدى الدكتور Mazeres – مدير الصحة العمومية- زيارة إلى قصر هلال أواخر جانفي 1932 لمعاينة الوضع بشأن الرمد والتهاب العيون .
الحاج علي صوة،الزعيم الصامت لقصرهلال بقلم الأستاذ الحبيب ابراهم
يتبع
الحاج علي صوة،الزعيم الصامت لقصرهلال بقلم الأستاذ الحبيب ابراهم
مقدمة
الحديث عن الحاج علي صوة حديث عسير خيرته وعانيت منه الكثير إذ كانت لي عنه أو عن منجزاته المداخلات التالية:
التاريخ المناسبة
12 أفريل 1980 خمسينية مدرسة "الهلال"
1 جوان 1990 ستينية مدرسة "الهلال"
7 ماي 1992 افتتاح ملتقى الحاج علي صوة للعلوم الاجتماعية والإنسانية بقصر هلال
ماي 1998 العدد الأول من مجلة مدرسة "الهلال"
4 نوفمبر 1998 خمسينية مستشفى الحاج على صوة
31 أكتوبر 2003 الذكرى الخمسون لوفاته
وكان عنوان آخرها: "الحاج علي صوة ذلك المجهول"
هو ليس حديثا عن رجل عادي حتى نستعمل فيه اللغة العادية. ومن هنا كانت صعوبة التعبير وكانت أخطار الوقوع في العبارات التي تداولتها أو لاكتها الألسن فأفقدتها نضارتها والتحامها بشحنتها. وقد كنت نعتت الحاج علي صوة في مداخلة يوم 7 ماي 1992 بالرجل المناضل مشترطا تجديد شباب النضال وغسله وتطهيره مما علق به من أدران وما أكثرها.
فاللغة العادية كاللباس الجاهز قلما يلاءم لابسه. وهذا بالنسبة إلى جسم ذي مقاييس مألوفة يسيرة التقدير فما بالك إذا تعلق الأمر بإلباس شخصية ولا شخص. إنسانية ولا إنسان. نور ولا فتيل.
ثم إن الصعوبة تتعاظم إذا أدركنا أنها شخصية نادرة المثال وأنه إنسان "لا كأيها الناس" وأنه حار هو نفسه في التعبير عما بنفسه فأجاب رجال الصحافة أجوبة أقرب إلى الإسكات منها إلى الإجابة.
لذلك فقد اعتمدنا في الحديث عن الحاج علي صوة على الإيحاء أي التعبير غير المباشر أو ما يعبر عنه اليوم بالمقاربة Approche. أما التعريف والتحديد فأمران يجب أن نتركهما للحديث عن العادي من خلق الله.
وها أني أعود إلى النقطة التي انطلقت منها منذ 27 عاما !
وقد حرصت على تزويد القارئ بما توفر لدي من الوثائق حفاظا على مصداقية البحث من جهة وقطعا لدابر "الخرافات التاريخية" من جهة أخرى بعد أن لاحظت تحول مسيرة الحاج علي صوة إلى ما يشبه الأسطورة.
والحقيقة هي أن مسيرة هذا الرجل فيها ما يدعو إلى الأسطرة !
ثم إننا نحتاج إلى المزيد من التوثيق لفترة من تاريخنا نخشى عليها من التلاشي في عصر تسارعت خطواته وشحبت بصماته.
وبعد فإن ما يدفعني إلى هذا العمل هو شعوري بأن علي دينا. أرجو أن أكون قد أديت بعضه !
ولن يفوتني أن أتقدم بالشكر لكل من مد يد المساعدة لانجاز هذا العمل خاصا بالذكر الصديق صابر بن محمد البنبلي (بنبلة سابقا) لما قام به من التصوير والمراجعة.
بطاقة تعريف
هو الحاج علي بن امحمد بن الحاج محمد بن الحاج علي بن صوة الميلادي .
ولد سنة 1865
حكم على والده إثر فشل الثورة الشعبية سنة 1864 بعشرين مطرا من الزيت
أمه فاطمة بنت الحاج علي بن الحاج أحمد سعيدان توفيت سنة 1922 وعمرها ثمانون عاما .
ولد في منزل متواضع يقع قرب دار عياد الحالية بقصر هلال ولم يعد له اليوم وجود
كان أبوه يعمل فلاحا وتدل على ذلك الخطية المسلطة عليه. توفي والحاج علي لا يزال صبيا حوالي سنة 1870.
ربته أمه في كثير من الشدة والصرامة. وقد اصطحبها إلى الحج في عصر الشريف حسين "أيام كان أداء فريضة الحج مغامرة وعلى ضوء تلك المعطيات نحدد سنة 1909 تاريخا للحج.
لم يكن له أخ ولا أخت ولا عم ولا عمة
كان له ثلاثة أخوال من آل سعيدان (عبد الله وخليفة وسالم) توفي آخرهم (سالم) سنة 1920. وكلهم فلاحون.
تزوج خمس مرات:
1- عائشة بنت الحاج حمودة بوغزالة التي أنجب منها : امحمد (1898) ومحمد (1902) وعبد الله (1911) وحسن (1915) .
2- أم السعد الأكحل
3- حفصية بنت محمد كشيدة التي أنجب منها: صالح (1923)
4- فطومة البهلول
5- آمنة بنت عبد الله جمور التي أنجب منها أحمد (1924) وقد بقيت منهن بعد وفاته : أم السعد الأكحل وفطومة البهلول مطلقتين وآمنة جمور تحت عصمته .
توفي يوم 31 أكتوبر ودفن يوم الأحد أول نوفمبر 1953 (23 صفر 1373 هـ) بمنزله الكائن قرب المدرسة القرآنية ودفن في باحة المدرسة بإشارة من أبرز معلمي المدرسة وهو رحيم بن صالح بن بوذينة الجبالي الذي قضى بالمدرسة 22 عاما.
فمن الناس من نعرفهم – أو نزداد تعرفا عليهم- بفضل بلدانهم وخاصة إذا كانت البلدان غنية عن التعريف. فنقول إن فلانا مولود بباريس أو القيروان أو بيروت... من الناس من كان لهم الفضل في التعريف ببلدانهم أو الأماكن التي كانوا يرتادونها، فأنت تسمع بالمعرة بفضل أبي العلاء المعري وتسمع عن Colombey les deux églises لأنها مثوى شارل ديقول ويحدثونك عن المقهى التي كان يرتادها نجيب محفوظ بالقاهرة أو تلك التي كان يرتادها جان بول سارتر بباريس أو تلك التي كانت تلتقي بها "جماعة تحت السور" – البانكة العريانة – بالعاصمة التونسية.
من الناس من أضاءوا ومنهم من استضاءوا منهم من أفادوا ومنهم من استفادوا فهل كان الحاج على صوة من أولئك أو هؤلاء؟
الحاج علي صوة وقصر هلال : أيهما يعرّف الآخر ؟
شجرة صوة
امحمد محمد عبد الله حسن صالح أحمد
علـي
امحمد
محمد
علي
صوة الميلادي
(مشيخة العريش)
في زاوية سيدي عبد السلام
لم يرد اسم الحاج علي صوة فيما عثرنا عليه من الوثائق أو ما بلغتنا من الشهادات إلا سنة 1909 وهي السنة التي أدى خلالها فريضة الحج رفقة أمه فاطمة بنت الحاج علي سعيدان التي كان لها فضل تربيته بعد وفاة أبيه الذي تركه صبيا. وتعرفنا على تلك السنة بفضل حديثة عن أمير مكة الشريف حسين.
ولم يمض وقت طويل حتى توفى الحاج علي بن محمد عبار وكيل زاويتي سيدي عبد السلام الأسمر بقصر هلال سنة 1910 وحسب التقاليد المعمول بها قام أتباع الطريقة بانتخاب الحاج علي صوة وكيلا جديدا. وقاموا بذلك يوم 9 جوان 1911 لدى العدليين حسين القصاب وعلي ابراهم بحضور شيخي القرية يوسف سعيدان ويونس الكعلي وقد صوت لفائدته:
ابراهيم بن محمد بن الحاج امحمد عبد السلام بن محمد الزراد الزعق
محمد بن محمد بن الحاج امحمد خليفة بن الحاج علي الزياتي
عبد الله بن محمد البهلول ابراهم الحاج امحمد بن امحمد سويسي
محمد بن علي بن الحاج احمد ساسي بن محمد سليمان
احمد بن صالح بن الحاج احمد فرج بن الحاج عمر الشايب
خلف الله بن علي بالطيب حمودة بن علي الصانع الهاني
علي بن محمد بوفروة ساسي بن محمد الصغير
عبد السلام بن علي بوفروة امحمد بن احمد طيطش
الحاج محمد بن علي بوقرة عبد الرحمان بن محمد الطيلوش
محمد بن احمد جمور عبد الحق بن الحاج علي عبار
سالم بن علي حشانة الحاج محمد بن خليفة فنتر
محمد بن احمد حشانة محمد بن علي القابسي
عمر بن محمد بن الحاج علي حمودة الحاج قاسم بن حسين قعليش الحبشي
عمار بن الحاج عبد الله الخفي محمد بن عبد الله قم
صالح بن الحاج محمد خليفة عبد السلام بن الحاج محمد الممي
عامر بن محمد بن القدحة (الدوس) محمد بن صالح الممي
سالم بن علي الزراد
وكلهم من أتباع الزاوية السلامية
وإن اختيار أتباع الزاوية السلامية للحاج علي صوة يدل بدون شك على أنه كان من أتباعها بل أنه تميز بين رفاقه تميزا جعلهم ينصبونه شيخا عليهم. فنشاطه بالزاوية يعود إذن إلى ما قبل سنة 1911. وقد زاد الحج في ترجيح كفته عند الانتخاب. فالحج كان يمكن صاحبه من أن يردف عبارة "الحاج" إلى لقبه لتصبح جزءا منه.
ويوم 30 أفريل 1919 أبلغ محمد بن الشاذلي صفر – رئيس جمعية الأوقاف عن قدوم وفد من قصر هلال يشكو من "سوء سلوك شيخ الزاوية السلامية" الحاج علي صوة وبطلب "معاينة الحالة التي عليها الزاوية المذكورة" وأنه أطلع فوجد "الخراب قد استولى عليها" وأن شيخ الزاوية "معطل لجميع شعائرها" وأنه حاول مقابلة الشيخ "فتعذر عليه" .
وقد رد الحاج علي صوة على تلك الشكوى وتلك الزيارة التفقدية يوم 15 ديسمبر 1919 بإدلاء شهادة لدى العدلين حسين القصاب ومحمد عياد يعلن فيها عن تخليه عن مهامه بالزاوية "لعجزه عن القيام بشؤونها" .
وقد انتخب بعده سالم بن علي حشانة يوم 2 فيفري 1920. ومما يلفت النظر أن الحاج علي صوة كان أحد المصوتين لفائدته وهذا يدل على أن القضية لم تكن – لديه- قضية شخصية بقدر ما كانت قضية مبدئية .
وتحدث أحد التقارير عن تلك الفترة بأن الرجل كان "يبحث عن فعل شيء يرضي الله" .
فتحول الحاج علي صوة من خدمة الزاوية السلامية إلى الخدمة خارجها لم يكن – في نظرنا- تحولا جذريا أي أنه لم يكن توقفا عن العطاء أو نكوصا على الأعقاب أو تنكرا لما كانت له من الأهداف بل كان تغييرا للشريحة المستهدفة. كان بنشاطه الطرقي يؤمن بأنه يخدم المجتمع من خلال خدمة الزاوية التي كان يؤمها الكثيرون من أبناء البلد. لسنا هنا في مجال تقييم المواقف أو دور الزاوية في المجتمع صالحا كان أو طالحا. كان أتباع الزاوية يحسبون –عن حق أو باطل- أنهم حسنا يفعلون.
وإذا كان بعض القيمين على الزوايا قد اتخذوا منها مصادر ارتزاق أو تكسب فإن بعضهم الآخر قد اعتقد أنه يؤدي رسالة مكملة لرسالة المسجد. فقد أحصينا من الأملاك الموقوفة على الزوايا بقصر هلال سنة 1840 – أي الموهوبة إليها قصد القيام بشؤونها – 1503 زيتونة وهو رقم يدل عل ما ذهبنا إليه كما أحصينا من أسندت عائلاتهم اسم عبد السلام لأحد أبنائها فكانوا سنة 1913 ستة بقصر هلال وحدها. وكان الحاج علي صوة أحد هؤلاء. وليس أعز على المرء من ماله وولده – فالرجل كان يؤمن بأنه يخدم قضية سامية. وكان ذلك في ظل مجتمع نادى – سنة 1904 – بإعدام عبد العزيز الثعالبي لأنه تجرأ على شتم سيدي عبد القادر الجيلاني .
لقد تغيرت الشريحة المستهدفة وبقي الهدف. انتقل العطاء بدون أن ينقطع.
الناس يتصورون أن الحاج على صوة قضى عمره حتى سنة 1927 – وهي السنة التي قرر خلالها بناء المدرسة القرآنية- وقد كان عمره آنذاك 62 عاما – منكمشا على نفسه وأنه انطلق وكأنه كان في سبات عميق. كلا وقد دفعنا ذلك الظن إلى نعت الحاج علي صوة في إحدى مداخلاتنا بالرجل المجهول فقد كان منذ بداية القرن يبذل من النشاط الاجتماعي ما كان يطلبه المجتمع.
والمجتمع كان يطلب المساجد والزوايا. وقد تحول نشاطه بعد ذلك حين تحول الطلب: كان الحاج علي صوة – طيلة حياته – أذنا صاغية وقلبا حيا ويدا ممدودة.
التحـــــول
تلك مسيرة علي صوة الأول: نشاط وحركة وكد واضطراب بين مهن عديدة ثم حج وحط الرحال وانزواء- أي انتحاء لزاوية. فالزاوية- سواء كانت سلامية أو عيساوية أو قادرية أو تيجانية – مكان تتوقف فيه الحركة الاجتماعية لتحل محلها حركة باطنية فيها تقشف وفيها تزهد وفيها تصوف- أي لباس الصوف- بل فيها تعطل للحواس.
كان الحاج علي صوة سلاميا حتى أصبح مسؤولا عن حياة الطريقة السلامية بقصر هلال وعين على رأس الزاويتين يوم 25 جويلية 1911 .
لكن أحداثا جدت أثناء توليه تلك المسؤولية جعلته يتخلى عنها ويهمل شؤون الزاويتين حتى تذمر المريدون – أي أتباع الزاوية- وكتبوا إلى عامل المنستير حتى ضاق بهم الحاج صوة ذرعا فقدم استقالته من المشيخة. ولقد دعاه العامل مستوضحا لكنه أصر على الاستقالة.
من هنا نفهم أن شيئا ما قد حدث. ما الذي حدث حتى يطوي الحاج علي صوة صفحة كان يعتبر أنها خاتمة لدفتر حياته؟ ما الذي حدث حتى ينزع العباءة السلامية – والطريقة بوجه عام- ويقوم بالتعتيم عن تلك المرحلة فلا يحدث أبناءه عنها؟
الحدث الذي زعزع الأفكار السائدة وتسبب في الكثير من التساؤلات هو الحرب العالمية الأولى التي وضعت أوزارها يوم 11 نوفمبر 1918 بعد أن ذهب ضحيتها خمسة عشر من شباب قصر هلال ونحن نلاحظ أن نهاية الحرب تزامنت مع الاستقالة الفعلية للحاج علي صوة إذ أهمل شؤون الزاويتين وأثار غضب الأتباع.
كان الناس يؤمنون بقوة الإمبراطورية العثمانية ويعتقدون أنها منتصرة لا محالة. وكانوا يتعاطفون معها. كانت خلافة إسلامية أي أنها كانت ترفع لواء المسلمين. لم تصلنا عن ذلك التعاطف إلا شذرات لكنها كافية لتبرز الجرح الذي خلفته الهزيمة:
من ذلك أن معلما من المهدية – وهو محمد بلال- كان يعمل بالمدرسة الحكومة بقصر هلال أوشى بتعاطفه مدير المدرسة خليل الأرقش الذي كانت زوجته معلمة تحمل الجنسية الفرنسية فسلطت على محمد بلال نقلة عقاب. وكان ذلك سنة 1918 .
وبلغ إلى علم الدوائر الأمنية أن الطاهر بن محمد الزراد – أصيل قصر هلال- كان يجالس أصدقاءه ببعض دكاكين العاصمة وأنه كان يخوض في شؤون سياسية لها علاقة بالحرب الدائرة. فنقل من دائرة الوزارة الكبرى إلى "ثلاجة" جمعية الأوقاف. وكان ذلك سنة 1919 .
ولما نهض مصطفى كمال للدفاع عما تبقى من البلاد التركية تجاوب الناس معه حتى أن أحمد بن الحاج سالم عياد رزق ابنا يوم 28 جانفي 1921 فسماه مصطفى وأشاع في الناس أنه يقصد مصطفى كمال وتسبب له ذلك في أول تقرير سياسي جاء فيه أن أحمد عياد متعاطف مع مصطفى كمال ولم يكتب للطفل أن يعيش إذ توفى سنة 1927. ولا شك أن أحمد عياد لم يسم ابنه بذلك الاسم إلا بعد التشاور مع والده الحاج سالم عياد.
لكن ذلك الحدث –أي الحرب التي أتت على الخلافة العثمانية- وإن عمت أخباره كافة الأقطار الإسلامية فإن ارتجاعاته اختلفت أشكالها. وقد كان وراء ذلك الاختلاف إعلام ورجال.
هل بلغت "حركة الشباب التونسي" وتوقيف جريدة Le Tunisien ونفي صاحبها علي باش حانبة سنة 1912 مسامع الناس بقصر هلال ؟ وهل بلغت أصداء الزيارتين اللتين أداهما محمد عبده إلى تونس سنتي 1884 و1903 ؟ لا ندري. وإن كانت الحركة المكوكية لتجار المواد الأولية والمنسوجات مع العاصمة تفترض ذلك لكننا نعلم -علم اليقين- أن الصحف الوطنية -التونسية والشرقية- كانت تقرأ للناس ببعض الدكاكين وخاصة دكاكين الحلاقين وأن خطب الإمام على المنبر أيام الجمعة كانت تحمل شحنات سياسية بالمعنى الواسع للكلمة.
وهنا نصل إلى الحديث عن رجل يجب أن يحتل مكانه في تاريخنا : الحاج سالم بن الحاج امحمد بن عياد بن الحاج مبارك بطيخ المعروف باسم الحاج سالم عياد:
هذا الرجل ولد سنة 1852. فهو يكبر الحاج علي صوة بما يناهز العشرين عاما. كتب عليه –أو كتب له- أن يشهد الثورة الشعبية المسماة بثورة علي بن غذاهم ويشهد المساهمة الكبيرة لقصر هلال في تلك الثورة حسبما بينا في غير هذا المكان ثم يشهد هزيمة الثوار ويعيش الانتقام الرهيب الذي سلطه الجنرال أحمد زروق على المنطقة وعلى قصر هلال بوجه خاص. فقد سلطت على والده الحاج امحمد خطية بـ 45 مطرا من الزيت. كما سلطت على والد الحاج علي صوة خطية بـ 20 مطرا. والمطر كان وحدة الكيلMetritis تقدر بعشرين لترا أو أكثر حسب المناطق. فلنتصور خطية بحوالي "مائة ديقة من الزيت". عاش كل ذلك وعمره اثنتا عشر عاما.
وتولى خطة عدل إشهاد بقصر هلال يوم 3 أكتوبر 1882 أي بعد تسعة أشهر من دخول الجيش الفرنسي الجرار إلى قصر هلال وقضائه الليلة الفاصلة بين 22 و 23 جانفي 1882 قبالة سبالة العتراوي بالضاحية الجنوبية لقصر هلال. وقد يكون حضر المشهد.
وحين توفى حسن بن حسين القصاب تولى الحاج سالم عياد الإمامة الثانية –أي إمامة الصلوات الخمس- مكانه بالجامع الكبير يوم 5 سبتمبر 1909.
لكن المنعرج كان حين عين يوم أول مارس 1916 إماما أول بالجامع خلفا لخليفة بن حسن القصاب . فقد مكنته تلك الخطة من الاتصال المباشر بالناس.
قد يكون ذلك التاريخ أول فرصة يتاح فيها للإنسان الهلالي أن يسمع فيها حديثا يهمه – أي يعالج همومه. وما كان يثير همومه- آنذاك- هو هذه الحرب الطاحنة التي تسببت في حصار اقتصادي وبلبلة عاطفية وانشغال فكري بالإضافة إلى تجنيد أبنائه.
وجاء الحاج سالم عياد ليضع الحرب – أسبابا وأحداثا وعواقب – في إطارها الصحيح. فدور الحاج سالم عياد فيما نسميه اليوم بالحركة الإصلاحية دور محوري لا يمكن أن نفهم مسيرة الحركة بقصر هلال خصوصا والحركة الإصلاحية عموما بدون الحديث عنه. هذا الرجل الذي أصبح إماما أول بالجامع الكبير – أي إمام الجمعة – وكان عدل إشهاد فتح دكانه للناس "يقرأ لهم جرائدهم" حسب تعبير وشاية مؤرخة في 9 ماي 1928 .
ولم يلبث حتى فتح منزله لتولد فيه الشعبة الدستورية بقصر هلال يوم 23 سبتمبر 1921 وهي أول شعبة دستورية خارج العاصمة وأصبح عضوا بهيئتها. مع العلم أن الإعلان عن مولد الحزب الحر الدستوري كان يوم 3 جوان 1920.
ثم فتح الحاج سالم عياد منزله ثانية في شهر نوفمبر 1924 لتجديد هيئة الشعبة التي تولى محمد بوزويتة رئاستها.
ولم يمض على ذلك إلا عامان حتى وقعت تنحية الحاج سالم عياد بسبب مواقفه السياسية من الإمامة الأولى يوم 29 نوفمبر 1926 قصد منعه من مخاطبة المصلين. وقد كتب كاهية المكنين وقصر هلال يوم 16 ديسمبر 1926 بان سالم عياد أعفي "لتعصبه مع الذين أسسوا الأحزاب الدستورية ثم لم يثبت حتى توفي يوم 5 جوان 1928.
هذا الرجل الذي كان يمثل طليعة الحركة الإصلاحية بقصر هلال في كافة المجالات حضر جنازته أربعمائة شخص جاؤوا من كل جهات الساحل التونسي بإمامة محمد بن حسين الورداني وبذل في سبيل المشاريع الخيرية مالا وجهدا كان آخرها بناء المسجد الذي أتم تشييده أبناؤه أحمد وحامد ومحمد.
هذا الرجل كتب عنه امحمد الجعايبي – صاحب جريدة الصواب- الذي شارك في الإشراف على ميلاد الشعبة سنة 1921 مقالا يوم 6 جويلية 1928 احتل نصف صفحة من الجريدة تحت عنوان "ما مات من لم يمت ذكره وكتب عنه الطيب بن عيسى – صاحب جريدة الوزير يوم 9 أوت 1928 مقالا تحت عنوان "فقيد الإصلاح" .
فنعت المصلح الذي نعتنا به الحاج سالم عياد ليس من عندنا. فهو قد أصلح العقول وقاوم الزيف وأخرج المنعزلين من عزلتهم ومن بينهم الرجلان الأميان الحاج علي صوة ومحمد بوزويته بالإضافة إلى ابنه أحمد. ولقد أصبح هذان الأخيران رأسي حربة في الحركة الوطنية الناشئة بقصر هلال وخارجها وأصبح الحاج علي صوة – حسب تغيير أحمد صفر "المؤسس الأكبر" وحتى في ميدان العطاء فقد رسم للآخرين الطريق فتحدثت عنه جريدة "الزهرة" يوم 7 فيفري 1945: "المغفور له المقدس الشيخ سالم عياد صاحب الأيادي الكاملة والمبررات الخالدة".
هذا الرجل – الحاج سالم عياد- لم ينل حقه من الذكر لسببين : أولهما أن الرجل توفي مبكرا بالنسبة إلى مولد الحزب الجديد إذ لم يعش بعد تلك الولادة إلا ثمانية أعوام ناهيك أنه تولى عضوية الشعبة وعمره سبعون عاما، وقد صارع في سنواته الأخيرة أمراضا أودت به. والسبب الثاني أنه زيتوني ونحن نعرف ما بذله رجال الحزب بعد سنة 1934 من جهود لطمس التأثير الزيتوني بكل مظاهره وإبراز الدور "الصادقي". بل أن الحركة الوطنية برمتها قد جعلت ناشئة عن مؤتمر البعث في 2 مارس 1934. وذلك باطل جملة وتفصيلا.
وعلى كل حال فإنه يكفي الحاج سالم عياد فخرا أنه "أنجب" الحاج علي صوة ومحمد بوزويتة بالإضافة إلى ابنه أحمد.
أما عن تأثيره في المجتمع الهلالي فيكفي أن نقرأ ما نشرته جريدة الوزير يوم 15 فيفري 1927 .
جاءت الحرب واختلطت الأوراق وانهار ما كان يعتبر من الثوابت وجاء الحاج سالم عياد سنة 1916 ليقول من على منبر الجامع الكبير أن الخير ليس في الانزواء بل في العمل لما ينفع الناس فنفض الحاج علي صوة يديه من الزاوية وراح يحمل مع الناس همومهم وراح يبني.
خرج من الزاوية التي كان بها منزويا وراح يذرع المجتمع ويتحسس أوجاعه ويتلمس مواطن العلة وقالت التقارير إنه كان يبحث عن فعل الخير فاهتدى صحبة محمد بوزويتة زميله في الدراسة – إن جاز التعبير- إلى ما اهتدى إليه محمد عبده من أن الإصلاح يبدأ من الأساس، من القاعدة، من التكوين، من الطفولة. وأن الصعود يبدأ من أسفل.
كان قاضي المنستير محمد مخلوف سلاميا حتى النخاع. وكانت العائلة المالكة نفسها تنتمي إلى الطرق الصوفية بمختلف أسمائها واتجاهاتها حتى جعلت من بعض الزوايا حرما آمنا للهاربين من العدالة وتحولت الزوايا إلى أحزاب أي إلى تكتلات أو مراكز قوى تقتسم النفوذ المحلي بمختلف وسائل الترغيب والترهيب ولم يتحرك قاضي المنستير عند تنحيه الحاج سالم عياد لأن هذا الأخير كان مناهضا للبدع. وكذلك كان موقف الإمام الغزالي إزاء احتلال الصليبيين لمدينة القدس، فقد انعزل إلى درجة الذهول.
أما الحاج علي صوة فقد أفاق بعد ذهول.
هذا الرجل الذي كان من الممكن أن تكون لحياته تلك الخاتمة لولا أن الله كان يريد بالمجتمع التونسي خيرا كان يعتزم قضاء اثنين وأربعين عاما في التنويه بصاحب الطار "بابا سلومة". لكنه غادر الزاوية وراح يزف ابنيه محمد وعبد الله يوم 26 أكتوبر 1930 تحت الأعلام التونسية وتلاميذ مدرسته التي لم يمض على افتتاحها إلا عام واحد ينشدون الأناشيد الوطنية أمام بيتي العريسين !
لقد خرجت الفراشة من الشرنقة
لقد ذهب رجل الهزيمة وجاء رجل الإصلاح
ألقينا على الحاج صالح صوة يوم أول مارس 2007 السؤال التالي: "هل كان الحاج علي صوة يتحدث عن الحاج سالم عياد ؟" فقال:" نعم !
المدرسة القرآنية "الهلال"
لقد اتفقت كل الروايات الشفاهية والمكتوبة على أن موضوع بناء المدرسة القرآنية بقصر هلال طرح على الحاج علي صوة في شكل اقتراح قدمه التاجر عثمان بن محمود الشملي - باسم السكان- حين كان الحاج بدكانه. وأضافت التقارير أن محمد بن عمر بوزويتة – رئيس الشعبة الدستورية بقصر هلال من سنة 1924 إلى سنة 1937 – كان عاملا رئيسيا في تبليغ رغبة السكان. فالواضح – إذن- أن الرغبة كانت جماعية وأن الإنجاز كان استجابة لها.
لكن ما يجب أن نذكر به هو أن قصر هلال كانت بها مدرسة فرنكو عربية أنشئت منذ سنة 1909 أي قبل عشرين عاما من افتتاح مدرسة "الهلال". فما الداعي إلى إنشاء مدرسة ثانية ؟ ولماذا التركيز على مدرسة قرآنية والإصرار عليها؟ أما كان من الممكن والأيسر توسيع المدرسة القائمة وكفى ؟
لابد –إذن- من العودة إلى الوراء لفهم الأسباب والدوافع.
لقد أنشئت المدرسة الحكومية بمساعدة كبيرة من الأهالي تمثلت في أرض تبرع بها آل الكعلي وكميات من الحجارة جلبها السكان على كواهلهم وأبدوا في جلبها من الحماس ما جعل المسؤولين يتذمرون من كثرة الحجارة التي جلبت ويتساءلون عما يمكن أن يفعلوا بها.
ورحب الأهالي بالمدرسة ترحيبا كبيرا واقتبلوا المقيم العام الفرنسي Gabriel Alapetite بحفاوة بالغة. غير أن ذلك الابتهاج سرعان ما تحول إلى مرارة بالغة. ولعل الكلمة التي ألقاها ممثل السكان أمام المقيم العام ثم الرسالة التي حررها العدل على بن حسن ابراهم نيابة عنهم يوم 21 ماي 1911 تكشف عن سوء تفاهم أساسي. فإذا كان الطرفان – الحكومة والسكان- متفقين على تسمية المشروع بالمدرسة فإنهما لم يكونا متفقين على المسمى. نعم. إنها مكان الدراسة. لكن دراسة ماذا ؟
كتب العدل على ابراهم – باسم الأهالي – ما قاله نيابة عنهم : "نطلب تسمية مدرس لتلامذة المكتب يعلمهم مع ما يزاولون به مبادئ لغة قومهم وبعض شعائر دينهم إتماما لإنعامكم علينا ". جاهلا أو متجاهلا أنه يطلب المستحيل وأن عليه أن ينتظر 18 عاما أخرى ليتحقق طلبه بمدرسة أخرى وإذا حرم الرجل من تحقيق رجائه إذ توفي سنة 1916 فقد تمتع حفيده – كاتب هذا الحديث- بثمار ذلك الرجاء.
احتفل السكان بالمدرسة الحكومية باعتبارها مولودا جديدا. وحين تبينوا ملامح المولود اعتبروه إجهاضا. فأداروا ظهورهم معتبرين أنه مولود ميت. نعم. اضطر بعضهم إلى ترسيم أبنائهم بها تحاشيا للأمية مثلما اضطر أسلافهم إلى التعلم بمدرسة المكنين. لكنهم نفوا عن المدرسة الحكومية اسم المدرسة. فدعوها "المكتب" أو "مكتب الشوك" لأن سياجها كان من نبات شائك. أما كلمة مدرسة فقد علقت بالمدرسة القرآنية دون سواها. فهذا "يقرأ في المكتب" وذاك "يقرأ في المدرسة". ولولا الدخول إلى السنة الأولى من التعليم الثانوي (السيزيام) لكانت القطيعة. وقد حاولت سلطة الحماية إحداث تلك القطيعة باعتبارها المدرسة القرآنية مدرسة حرة من جهة ومحاولة منع تلاميذها من اجتياز اختبارات العبور. وحين سمحت بذلك في نهاية الأمر كانت تحسب أن الفشل سوف يكون من نصيب تلاميذها. وكم كانت صدمتها حين جاءت النتائج مخيبة لآمالها إذ كثيرا ما فاقت النتائج كل التوقعات.
طلب السكان – سنة 1911- تعليم أبنائهم "اللغة العربية والدين الإسلامي" وجاء عقد تحبيس مدرسة الهلال سنة 1932 ليشترط أن "يقرأ بالمدرسة القرآن العظيم والعلوم الدينية والرياضية والعلوم الأجنبية على أحدث طريقة". ولعل هذا الترتيب نفسه يزيح الغطاء عن الأسباب والدوافع.
ولعله من المفيد أن نقارن بين قصيدين نظمهما كل من امحمد بن عمر بوشارب من قصر هلال وصالح السويسي من القيروان لتوشيح واجهة المدرسة. وإذا اختير القصيد الأول فإن ما يتضمنه من المعاني يكشف سبب الاختيار. في القصيد الذي تبنته المدرسة – وهو الذي يوشح جبينها إلى اليوم – إشارات إلى "المجد القديم" و"إحياء الآمال" و"عهد الجدود" و"كتاب الله" و"مجد الجدود" و"السير إلى الأمام" بينما يتوقف الثاني عند الرقي واليقظة و"نور العرفان". وقد وردت بديوان صالح السويسي مقدمة للقصيد جاء فيها: "نظم الشاعر الأبيات الآتية وأرسلها إلى قصر هلال لتكتب على لوحة لتوضع في واجهة المدرسة القرآنية التي أسسها المؤمن الكامل والمحسن الشهير سيدي الحاج علي صوة وقد صرف على بنائها مالا وافرا فجراه الله عن الإحسان خيرا". وهو كلام يقتصر على الناحية الظاهرة من عمل الحاج علي صوة.
قال امحمد بوشارب:
مساع أصابت في المعالي مراما وألقت عن المجد القديم لثامــا
وأحيت لنا بالله أمالنـا التـــي قضت نحبها والله يحيي العظاما
ذكرنا بها عهد الجدود وربمــا ذكرنا بآثار الكريم الكرامـــا
مساعي أمرئ لم يلف ابن يومـه ولم يرض إلا أن يكون عصامـا
أبت نفسه غير التقدم بالـــذي يكون لها يوم الجزاء وسامــا
فأسس هاتيك المباني تطلبـــا لإيواء نشء شرد ويتامــــى
وأجرى عليها من منابع جــوده عيونا ولكن لا تبيت نيامـــا
معاهد يمن لا يرحن أو أهــلا يصان كتاب الله فيها دوامـــا
أقمن على مجد الجدود أدلـــة وقلن لأبناء البلاد الأمامــــا
فيا حسنها وافت وفي أكبد غدت تؤمل بردا، عندها وسلامـــا
طربت لها والصب يطربه اللقـا وبت كأني قد شربت مدامـــا
وناديت من فرط المسرة أرخـوا رقي يهم المسلمين تمـــاما
وقال صالح السويسي :
متع لحاظك أيها الإنســــان فلمثل هذا يشيد البنيـــــان
هذا زمان الانتباه ومن ينـــم بين الشعوب نصيبه الحرمــان
كم في الوجود محاسن وأجلهــا علم به قد تسعد الأوطــــان
فأنظر لمدرسة أشاد بناءهـــا من قد أشيد بقلبه الإيمــــان
أعني علي صوة أجـل مؤسـس لأجل ما يرقى به الشبــــان
أثر يخلد ذكره طول المـــدى وبه الجزاء ينال والغفـــران
تلك المساعي الخالدات بمثلهــا تحيا البلاد ويسعد الإنســـان
ويزداد الأمر جلاء إذا تأملنا في الوثيقة التالية التي حرّرها مدير مدرسة الهلال محمد صوة خلال شهر فيفري 1932.
وقع الكثيرون في فخ اعتبار إنشاء مدرسة "الهلال" إنشاء لمؤسسة تربوية بدون الغوص في خصوصياتها فتحدثوا عن "رفع الجهل" أو "رفع الأمية"، وقد وقعت السلطة – أو بعض رموزها- في ذلك الفخ فاعتبر الحاج علي صوة يوم 12 نوفمبر 1929 رجلا يسعى إلى نشر المعرفة بين مواطنيه وبالتالي لا يمكن منعه من ذلك. واعتبره آخر يوم 18 جانفي 1930 "رجلا مسنا ساذجا Homme âgé et simple d’esprit . لكنها غيرت لهجتها حين اتضحت الحقيقة فأصبح يوم 29 نوفمبر 1939 "رجل زيت ذا اتجاه دستوري" وراح الكاتب العام للحكومة ينعت تلاميذ المدرسة بأنهم "600 شاب دستوري".
وللحقيقة والتاريخ فان أول من أدرك الحجم الحقيقي لإنشاء مدرسة "الهلال" كان فرناند ريكار Fernand Ricard مدير المدرسة الفرنكوعربية بقصر هلال. فقد بدأ بالاعتراض على إحداثها ثم اعترض على السماح لتلاميذها باجتياز اختبارات الشهادة الابتدائية و"السيزيام". وقد راح يذكر السلطة لاحقا بتحذيره وما لقيه من تجاهل.
فالقضية – إذن – لم تكن – سواء في نظر المؤسس أو السلطة – قضية تربوية بالمفهوم العادي للتربية والتعليم. لقد كانت قضية إصلاحية أساسا . وهذا ما أغفله الكثيرون من الدارسين وأشباه الدارسين. فراحوا ينعتون الحاج علي صوة بأنه "رجل خيري صالح".
وسوف تنقل للقارئ الكريم صورا لبعض المعارك التي خاضتها مدرسة "الهلال" ومن ورائها الحاج علي صوة. وكل ذلك اعتمادا على وثائق سوف نشرك القارئ في الإطلاع عليها.
لقد نشأ – بشأن مدرسة "الهلال"- صفان متقابلان. ولم نعثر على طرف محايد وحتى جريدة الدبيش التي أبلغت يوم 8 نوفمبر 1929 عن افتتاح المدرسة التي أنشأها "ملاك مسلم ثري" – حسب تعبيرها –– يشتم من تعابيرها رائحة الامتعاض. وقد جاءت مواقف الطرف التونسي على لسان الصحف وبعض الوجوه الوطنية نذكر بعضها حسب ورودها الزمني:
بدأت مظاهر الترحيب يوم 29 أوت 1929 حين بشرت جريدة الوزير بافتتاح المدرسة كاتبة: "... بفتح المدرسة القرآنية إن شاء الله التي شيدها السخي الكريم البار التقي السيد الحاج علي صوة تشييدا على أحدث طراز وصرف عليها أكثر من نصف مليون وأوقف عليها كذلك من الزياتين نحو هذا القدر تصبح قصر هلال زاهرة بحركتها الدينية والاقتصادية والعلمية. قرن الله مساعي المخلصين بالنجاح والفلاح".
أصدرت جريدة "النديم" عددا ممتازا يوم 15 فيفري 1930 نشرت فيه مقالا تحت عنوان "مدرسة الحاج علي صوة بقصر هلال" ورأت فيها مثلا أعلى لقيام المستطيع بما يجب عليه نحو أمته ووطنه" وأرفقت المقال بثلاث صور قال حسين الجزيري – صاحب الجريدة – أنه التقطها بنفسه وقد وردت الصور نفسها بالنشرية السنوية الأولى لجمعية طلبة شمال افريقيا المسلمين بفرنسا لعام (1928-1929) مع مقال تنويه بالمؤسسة ومؤسسها وتبدو المدرسة من خلال الصور غير مكتملة البناء. (الوثيقة 15).
جريدة "الوزير" : 30 جانفي 1930: "فتحت مدرسة قصر هلال القرآنية أبوابها وأقبل عليها المتعلمون حتى من الجهات القريبة فنجد السيارات تنقل أبناء القصيبة ولمطة وصيادة وبوحجر ذهابا وإيابا صباحا ومساء إلى قصر هلال ...".
جريدة "النهضة": 20 أوت 1930 : رأى الطاهر صفر في إنشاء مدرسة "الهلال" انتشالا من عصور التأخر والانحدار" (الوثيقة 14).
جريدة "النهضة": 27 أوت 1932، تحدثت عن حفل أقيم بالمدرسة يوم 24 جويلية لتقييم النتائج الحاصلة منذ إنشاء المدرسة وعن الحفاوة البالغة (توزيع المرطبات الرفيعة من صنع معمل الحاج علي صوة المؤسس لفائدة المدرسة).
جريدة "لسان الشعب": 10 أوت 1932 و 17 أوت 1932 و31 أوت 1932: مقالات لوصف الحفل الذي أقيم بالمدرسة يوم 24 جويلية 1932: حضر الحفل محمد بن مصطفى المعتمري وعلي بن الحارث من اللجنة المركزية للحزب الحر الدستوري ومديرو مدارس المكنين والقيروان ومساكن. ولم يحضر أحد من إدارة التعليم ولا عامل الجهة ولا الكاهية.
جريدة "الزهرة": 17 أوت 1942: الحاج علي صوة "...أشاد للعلم صرحا شامخا بقصر هلال".
جريدة الزهرة 5 فيفري 1945: نعتت مدرسة "الهلال" بـ "القصر العظيم" وأضافت بأنها "مؤسسة عظيمة صالحة لأن تكون كلية ثانوية أو عليا من أحسن الكليات".
جريدة "النهضة": 20 جوان 1945: شكرا للمدرسة ومعلمها عبد الحميد سليم (أحسن نتيجة بمركز المكنين).
جريدة "تونس": 1 جوان 1949 : الحاج علي صوة... "ابتنى حماما وأنفق عليه ثلاثة ملايين. فلما أنجز وأصبح ذا دخل حبّسه وقفا على المدرسة القرآنية بقصر هلال. وفي المدرسة اليوم 11 قسما. فأذن السيد الحاج علي صوة ببناء 4 أقسام أخرى لتصبح 15 قسما على حسابه. ووافق البناء سطا عمر بوزقندة المنستيري لبناء الأقسام الأربع بمليونين فرنك وخصص مائتي ألف لتأثيثها".
جريدة "النهضة" 8 فيفري 1950: "زرت صحبة نخبة من شباب البلاد التونسية المدرسة الهلالية التي أسسها الرجل العامل الحاج علي صوة فرحب بنا نائب مديرها الأستاذ رحيم بن صالح وقد يرجع إليه الفضل في تكوين الروح الثقافية وتغذية عقول الناشئة بهاته البلاد ووجدت بالمدرسة ما يقرب من 700 تلميذ في أربعة عشر قسما. وقد علمنا أنهم بصدد بناء أربعة أقسام أخرى... .
أما الطرف المقابل – أي سلطة الحماية- فقد بدأت بالامتعاض وانتهت بالعداء السافر. وقد حرر مدير الأمن أربعة تقارير مطولة عن مدرسة "الهلال" مؤرخة في 8 و 12 نوفمبر 1929 و 13 و 18 جانفي 1930 ختمت كلها بخاتم "سري" وكان ذلك بطلب من مدير الداخلية الذي رغب في تكليف عون "ذكي ومتكتم" Intelligent et discret (تقرير 12 نوفمبر 1929) وهي تقارير أجمعت على عناصر نلخصها فيما يلي:
مدرسة الهلال – ونظيرتها بالمكنين- يسيرها دستوريون ينقلون أفكارهم إلى التلاميذ.
قدم محمد بن الحاج علي صوة الترخيص وسانده امحمد شنيق كاهية القسم التونسي بالمجلس الكبير باعتبار أن المدرسة الحكومية "غير كافية".
عارض فرناند ريكار – مدير المدرسة الحكومية – إنشاءها لثلاثة أسباب: 1- التلاميذ المسجلون لديه قليلون 2- لا يمكن أن يكون الإقبال أكبر 3- وجود مشروع لبناء مدرسة حكومية بلمطة وصيادة.
الحاج علي صباغ ونساج (12 فيفري 1929) فلاح ونساج (13 جانفي 1930) أب لأربعة أطفال (هكذا). جمع في بضعة أعوام ثروة تقدر بعشرة ملايين. تمكن من اقتناء هنشير شراحل أواخر 1922 بثمانمائة ألف فرنك من الدكتور شطبون Sitbon من سوسة وباع من أجل ذلك كل أملاكه وهو يرغب في عمل ما يرضي الله.
اقترح عليه محمد بوزويتة إنشاء مدرسة ثانية "تستجيب لحاجيات السكان"
ساهم الطاهر صفر - صديق بوزويتة- الذي كان أدار مدرسة الجمعية الخيرية (العرفانية) بالعاصمة.
البرنامج التربوي ضبطه العربي بن مامي وهو كاتب بإدارة الشؤون العدلية وساهم في إدارة مدرسة "العرفانية".
انتدب الطاهر صفر المعلمين الثلاثة الأوائل: العربي الطبربي (باكالوريا – لتعليم الفرنسية) التهامي البناني وحسن قارة مصلي (تطويع – لتعليم العربية) أعفوا بعد ثلاثة أشهر "لقلة خبرتهم".
منافسة شديدة للمدرسة الحكومية : بين 30 و 50 تلميذا انتقلوا إلى "الهلال".
أصر الحاج علي صوة على القيام بشؤون المدرسة بمفرده
اجتماعات يومية لإطار المدرسة بمنزل محمد بوزويته
سوف تكون المدرسة منبتا pépinière للحركة الوطنية. وجوب مراقبتها حتى لا تصبح بؤرة Foyer للحركة الوطنية.
اعتزام إنشاء مشفى تابع للمدرسة (علاج الأطفال وأدوية مجانا)
مدير المدرسة -محمد صوة- لا ينتسب إلى أي حزب.
وقد تميز تقرير 18 جانفي 1930 بجانب كبير من الأخطاء والأحقاد ويبدو أن مصدره لا يتصف بالذكاء المطلوب : فالمدرسة افتتحت يوم 15 نوفمبر (هكذا) والحاج علي صوة رجل مسن وساذج أثرى بتجارته أثناء الحرب وابنه منخرط بالحزب الدستوري وعضو بالشعبة المحلية وهو الذي أثر في أبيه وجعله يفكر في الموت. حصل على الرخصة بفضل مؤامرات المتفقد التلاتلي. والمعلمون الثلاثة استقالوا والبشير القصاب – معلم الفرنسية الجديد – رجل محكوم عليه بالسجن من أجل الفساد ومحمد بوزويتة – المدعو المعيرش – عدو فرنسا اللدود – يكرهه غير الدستوريين ولو كانت الحكومة أكثر حزما لطردته منذ أمد بعيد (وثيقة 28)، أخطاء وسموم ذكرناها ليعرف القارئ الكريم ما كان يدور في كواليس المدرسة ويدرك حقيقة ما كانت تمثله مدرسة "الهلال" وبالتالي حقيقة ما أنجزه الحاج علي صوة.
وقد استنتج مدير الداخلية من كل تلك التقارير خلاصة رفعها إلى المقيم العام يوم 10 فيفري 1930 (بالخاتم السري) وعبر فيها عن:
1 - خشيته من تفشي الوعي الوطني بين الناشئة
2 - منافسة رآها "غير شريفة" للمدرسة الحكومية
3 – وجوب التعاون بين إدارة التعليم العمومي والداخلية عند إسناد الرخص للعمل على "استبعاد التعليم الحامل لأفكار إصلاحية" .
وبعد التقارير جاءت التضييقات والمضايقات وحتى الملاحقات.
بدأت بمنع انتقال التلاميذ من المدرسة الحكومية إلى مدرسة "الهلال" بدون أن يقع المنع المعاكس بعد أن لوحظ نزوح واضح. فقد أجبر الطاهر بوغزالة - مثلا- على إرجاع أخيه إلى "مكتب الشوك" رغم استناده إلى قصر المسافة بين مسكنه ومدرسة "الهلال" .
التلكؤ في الترخيص بفتح أقسام جديدة. فقد كتبت جريدة الزهوة يوم 7 فيفري 1945 : "نأسف لضيق المدرسة عن إيواء نحو السبعين طالبا لم تأذن الإدارة في فتح قسم لهم والحال أن ذلك القسم تام الموجبات من جميع الجهات. ولو أسرعت بالإذن في فتحه لصارت الأقسام بدل عشر احد عشر". مع العلم أن معدل عدد التلاميذ بالقسم الواحد كان سنة 1937: 61 تلميذا. وهذا وحده يشير إلى مبلغ الإقبال.
ملاحقة المعلمين بتعلات مختلفة: فهذا عبد الحميد بن حمودة سليم (1932-1946) أصيل المكنين "لا يعرف شيئا عن البيداغوجيا" مرة (تقرير 8 نوفمبر 1929) وهو "معروف بعدائه لفرنسا مرة أخرى (تقرير 13 جانفي 1930) .
وهذا محمد علي بن صالح الفريقي – أصيل قصيبة المديوني (1934-1937) "يقوم بالدعاية النشيطة ضد فرنسا ونظام الحماية" وهو مناهض للتجنيس.
وهذا ابراهيم عبد الله يبلغ رئيس قسم الجندرمة بسوسة عن تعيينه معلما بالمدرسة يوم 6 فيفري 1940 واصفا إياه بأنه "دستوري عنيد « Destourien acharné » ويقول "هذه المدرسة هامة جدا فهي تضم كل أطفال قصر هلال عدا بضع عشرات" ويحذر من تأثير ذلك على "الأجيال الجديدة" وتبعا لذلك التقرير أجبر محمد صوة على فصل ابراهيم عبد الله. وقد أضاف الكاتب العام للحكومة يوم 11 مارس 1940 بأن المعني لا يملك الشهادات القانونية التي تمكنه من التدريس .
ولكي ندرك – ولو بعض الإدراك- مبلغ ما عاناه معلمونا بالإضافة إلى المراقبة اللصيقة يجب أن نتذكر أن مدرسة "الهلال" – في عرف القانون – مدرسة حرة وأن معلميها – بالتالي – لم يكونوا يتمتعون بأية عطلة مأجورة مهما كان نوعها وأن مرتب المعلم بالمدرسة الحكومية كان يفوق ضعف ما تلقاه أرفع مرتب بمدرسة "الهلال" (الوثيقة 12).
وقد بلغت المضايقات أقصاها حين اعتقل مدير المدرسة محمد بن علي صوة صحبة حارس المدرسة أحمد بن محمد البهلول يوم 8 مارس 1952 لأن الكلبة البوليسية Bella رأت أنهما من قاطعي أعمدة الهاتف وقد بقي الرجلان رهن الاعتقال لمدة 24 ساعة . وقد أصدر معلمو المدرسة لائحة استنكار جاء فيها "إن مثل هذا الإجراءات التي تعتمد فيها الكلاب لهي أكبر هزء لبني الإنسان" ونحن تشتم من هذا رائحة المعلم رحيم بن صالح.
والحقيقة هي أن رجال التعليم بمدرسة "الهلال" كان لهم دور فاعل في استنهاض الهمم وتحريك السواكن لا بالمدرسة وحدها بل بالقرية ومحيطها. ولعل ذلك يستوجب دراسة كاملة. غير أننا نكتفي هنا بذكر نقاط لها دلالتها:
محمد زخامة الذي باشر التدريس بمدرسة "الهلال" من 1931 إلى 1937 كان من أبرز قادة الحركة الدستورية بالمكنين.
فرج بن سالم جمعة الذي باشر التدريس بها من سنة 1938 إلى 1946 انتقل إلى مسقط رأسه طبلبة ليؤسس بها المدرسة القرآنية "الهداية".
محمد بن محمد البحري الذي باشر التدريس بها (1936-1937) انتقل إلى جمّال ليؤسس بها المدرسة القرآنية "الهداية" ثم إلى مسقط رأسه حمام سوسة ليؤسس بها المدرسة القرآنية "الأخلاق" ومن تلاميذ مدرسته رئيس الجمهورية التونسية زين العابدين بن علي. وقد أبقى على صلاته بقصر هلال حتى وفاته. وقد حضرنا حفل تكريم له أقيم بحمام سوسة بمناسبة توسيمه أواخر التسعينيات من القرن الماضي.
مشهد للحاضرين في محاضرة ألقيناها في أول جوان 1990 بمدرسة "الهلال" ويرى الشيخ البحري إلى يسار الصف الأمامي بطربوشه وجبته المألوفتين كما يرى الحاج صالح صوة إلى اليمين.
رحيم بن صالح بن بوذينة الجبالي الذي قضى بالمدرسة 22 عاما (من 1934 إلى 1956) كان أحد دعائم التطور الثقافي في البلد وما جاورها. وقد اعترفت جريدة النهضة يوم 8 فيفري 1950 بفضله في "تكوين الروح الثقافية وتغذية عقول الناشئة بهاته البلاد" وقد كان له دور ثقافي بارز في المنطقة بأسرها. ولم يتناقص إشعاعه إلا بعد انتقاله إلى العاصمة سنة 1956.
كان رحيم بن صالح – كما يسمي نفسه – نظاما ماهرا (إن لم يكن شاعرا) فقد عرف بقصيد ضمنه كل الكلمات التي بها "ظاء". وقد ذاق الكثيرون مرارة العصا في سبيل حفظها وقد جاء فيها :
لا تظلمن وحافظ وانتظم أبـــدا وظن خيرا وحاذر غيظ من حقـدا
إليك نظما به الظاءات قد جمعـت ما شذ في اللفظ وما فيه قد عهـدا
العظم والظهر والتنظيف مع ظمـإ ظلف ولحظ وحظ الظبي ظل سدى
غيظ شواظ لظى والفظ في شظـف كظم غليظ وظل باهظ مــــددا
ويقظة ثم ظلع نظرة حظـــرت ظرف وظيف ووعظ فيه معتمـدا
وحنظل ثم عظب ظفر منتصــر حد القريظ ولا تحظل إذا وجــدا
كظ فظيع وظئر الظعن حاظيــة وجاحظ في عكاظ والتعاظــل دا
فهذه جملة المشهــود من كـتب واظب على الدرس تكن من السعدا
وقد قرأنا "للشيخ رحيم" – كما كان يسميه الهلاليون – قصيدا طريفا تضمن استقالة من نقابة ذات اتجاه شيوعي حين أبدت مناهضة للحركة الوطنية في مقال نشره بجريدة "الصباح" ليوم 13 ماي 1946 تحت عنوان "استغفر الله" وجاء فيه: "إني الممضي أسفله أعلن عن انسحابي من نقابة المدارس القرآنية ما دامت متمسكة بأذيال جامعة CGT التي أصبحت تضرب الأمة التونسية في الصميم خصوصا موقفها الأخير نحو القادة الأبرار:
يا رب عز بلادي هو أمنيتــي فأقبل رجائي وكفر عني سيئتــــي
قد اندمجت زمانا ضمن جامعة تسير عكس مرادي اسمهــا س.ج.ت
لا در در أمرئ يرضى بمهزلة وإن يعاتب أجاب القصد مصلحـتـي
إني انسحبت بتاتا من نقابتنــا إن هي قد بقيت في حضرة الس.ج.ت
استغفر الله للأخوان كلهــــم ما دام قائدهم هو نافــع الس.ج.ت
ولعلها أول مرة تقدم فيها الاستقالة شعرا
صورة أمدنا بها بوبكر بن أحمد الممي. ولم نتمكن من الحصول على صورة أوضح رغم مساعينا لدى إبنيه توفيق الجبالي وياسين بوذينة (للتاريخ والاعتبار)
أما فرحات بن محمد صالح (1930-1931) فهو شاعر ملتزم وجدنا له قصيدا نشره بجريدة "الزمان" يوم 17 نوفمبر 1930 وهو معلم بمدرسة "الهلال" تحت عنوان "فتاة تونس" جاء فيه:
يا قوم هبوا علمــوا فتيـــاتكم ودعوا التصامم فهو صعب المصرع
أو نرضى أن تبقى النساء جواهلا ونروم عزا للبـــلاد وندعـــي
كلا فتونس لا نهوض لهـــا إذا بقـي النســاء بجهلهن الأشنـــع
وأما الهادي بن علي الشاوش (1924-1995) فقد غادر الهلال ليدخل المحتشدات لنشاطه السياسي ثم يرأس الجمعية الخيرية الإسلامية بقصر هلال ويؤسس المدرسة القرآنية الثانية للذكور "المأوى الخيري" سنة 1952.
الهادي بن علي الشاوش صحبة تلاميذه في شهر مارس 1948 ويرى كاتب هذا متربعا إلى يمين الصف الأمامي من الصورة.
ولكي ندرك الجو الثقافي الذي كان يتنفس فيه تلاميذ مدرسة "الهلال" يحسن أن نتوقف برهة عند فعاليات احتفال نظمته المدرسة يوم 24 جويلية 1932 لتقييم مسيرتها : فقد بدأ الحفل بتلاوة سورة الفتح من طرف التلاميذ وبعد إجراء اختبارات دامت ثلاث ساعات ألقى التلميذ أحمد قعليش (الحبشي) قصيدا من محفوظاته وخطابا من إنشائه. ثم تحدث المعلم البشير بن محمد زنيتة (1930-1934) عن أسباب الانحطاط التونسي كما تحدث المعلم محمد الصادق الميلادي وهو معلم من صفاقس عن الاعتماد على النفس. وليس عجبا أن تمتنع إدارة التعليم العمومي أو السلطة الجهوية والمحلية عن الحضور .
صورة نرجح أنها التقطت يوم 24 جويلية 1932 ويرى الحاج علي صوة رفقة ابنه محمد مدير المدرسة
ولكي ندرك التأثير الذي كان لذلك الحضور الثقافي والإصلاحي وجب أن نحضر حفل زفاف الأخوين محمد وعبد الله ابني الحاج علي صوة يوم 26 أكتوبر 1930. فهي الأعلام ترفع وهي الأناشيد الوطنية يلقيها التلاميذ أمام بيتي العريسين ثم هو ثمن من القرآن يتلونه ويكفي أن تنقل الصحف صورة عن ذلك الحفل لندرك أنه تحول إلى عرس وطني .
وقد حاول وفد هلالي إقامة حفل زفاف مماثل بطبلبة فطردهم شيخ القرية وانتقلت "عدوى" ذلك الزفاف إلى فرج بن محمد القابسي يوم 16 جوان 1933 وأحمد بن حسن جمور يوم 20 أكتوبر 1933 الذي تحول إلى عكاظية للشعر الوطني .
وقد كان مدير الإدارة العامة على حق حين أبلغ يوم 25 فيفري 1940 عما دعاه بـ"الدعاية السياسية" التي تقوم بها مدرسة "الهلال" .
وحتى تلاميذ مدرسة "الهلال" لم يسلموا من سهام السلطة. وقد تذمر ضابط الشرطة بالمنستير يوم 16 أكتوبر 1934 –أي بعد حوادث سبتمبر بشهر ونصف – من تلاميذ المدرسة الذين اعترضوه وهو مصحوب بعون يحمل الزي الرسمي فصاحوا في وجهه "تحيا تونس" وطالب بإجراء بحث عمن يقف وراءهم .
وحتى قدماء مدرسة "الهلال" لم يسلموا من مظاهر المضايقة. فقد تذمر الناصر (الصادق) بن علي الشايب – الكاتب العام "لجمعية قدماء المدرسة بقصر هلال" من عدم الحصول على إجابة بعد تقديم القانون الأساسي يوم 17 أكتوبر 1937 والناصر الشايب هو أول تلميذ أنهى تعليمه العالي من مدرسة الهلال .
ولم يكتب لتلك الجمعية أن ترى النور إلا أوائل شهر أفريل 1946 أي بعد زهاء العام وأنشأت مكتبة "فتى الهلال" التي كان الإقبال عليها كبيرا. وأشرفت علي تسييرها الهيئة التالية .
المدير : حسن قاسم
الكاتب العام : الطاهر الصانع
مساعده : محمد الدوس
الحافظ : البشير سعيدان
كاهيته : الصادق القنجي
نائب القدماء : عبد السلام خليفة
بمساعدة المعلمين: رحيم بن صالح ويوسف بايع راسه
وقد كتبت جريدة النهضة عن تلك الجمعية يوم 8 فيفري 1950 وعبر مراسلها عن أسفه لما أصاب أفرادها من خمول وكسل" .
لقد أحسّ السكان بضرورة مساندة مدرستهم فحرروا يوم 21 ديسمبر 1930 عريضة يطلبون فيها الترخيص بتكوين لجنة "تتولى قبض التبرعات وإدارتها في صالح المدرسة" وهي عريضة أمضى بها 32 شخصا ووقع السكوت عنها .
وأصابت الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالبلاد التونسية سنتي 1931 و 1932 الحاج علي صوة فكتب محمد صوة – مدير المدرسة- إلى الوزير الأكبر يوم 20 فيفري 1932 ملاحظا أن المدرسة لا تتمتع بالإعانة الحكومية التي تتمتع بها بقية المدارس القرآنية وأن الأزمة الاقتصادية تدعوه إلى طلبها وقد ساندت جريدة صوت التونسي La voix du Tunisien يوم 15 مارس 1932 ذلك الطلب مؤكدة أن المدرسة لا تتلقى أية مساعدة.
وبعد أن أمضى الحاج علي صوة عقد تحبيس المدرسة يوم 2 جويلية 1932 طلب منه أن يدفع معاليم التسجيل. وقد تجرأ عامل المنستير الهاشمي بن خليفة بشجاعة نادرة على أن يطلب من مدير المالية يوم 15 أوت 1934 إعفاء المدرسة من تلك المعاليم الموظفة على عقد التحبيس واعتبر ذلك الإعفاء – عن حق – عملا سياسيا من شأنه أن يرضي السكان ويرد الغاضبين . وقد رد مدير المالية – لغباوته- بأن ذلك الإعفاء غير ممكن وأن الإجابة نفسها وجهت إلى امحمد شنيق الذي تدخل للغرض نفسه .
دفعت تلك التضييقات بمراسل جريدة النهضة إلى أن يكتب يومي 24 جانفي و 9 فيفري 1937 تحت عنوان "ما هو مستقبل "الهلال" وخريجيها بقصر هلال ؟": ... الحكومة تفضل إعانة"جامع اليهود ومساعدة دير الرهبان على إعانة المشاريع القومية" داعيا إلى المساندة المادية لجهود الحاج علي صوة. وسوف نرى أن الحاج علي صوة قد استجاب لذلك الطلب على صعيد المدرسة ثم على صعيد خريجيها. فقد بنى بجوار المدرسة سنة 1948 حماما ثم حبسه عليها ليضمن لها الموارد الضرورية ثم أنشأ بالعاصمة مبينا للطلبة.
وردا على مزاعم الحكومة بأن المدارس القرآنية تتلقى منحة مالية. كتب الجيلاني حمزة – مدير المدرسة القرآنية بالمهدية- بجريدة النهضة يوم 9 مارس 1938 : ... "هناك مدرسة قصر هلال..." باعتبارها مثالا حيا للمدارس التي لا تتلقى مساعدة من الدولة. وقد لاحظنا تعاونا بين المدرستين القرآنيتين بقصر هلال والمهدية بلغ حد الانتداب المشترك عن طريق الصحافة .
أصاب الجفاف الحاج علي صوة فيمن أصاب من الفلاحين ودام طيلة سنوات 1946 و 1947 و 1948 فعجز عن دفع ربع مرتبات المعلمين بمدرسة "الهلال". وهي التكملة التي كان عليه دفعها حسب التراتيب الجديدة. وقد كتب المعلمون وعددهم اثنا عشر عريضة يشكون فيها أمرهم إلى إدارة
التعليم العمومي التي ردت في شماتة واضحة بان الأمر لا يهمها، فالرجل عاش ضائقة مالية خانقة – وخاصة بعد اقتنائه لهنشير البزازية خلال سنتي 1944 و1945 – جعلته ينوء تحت أعباء قد تعجز عنها حكومات.
هذه المضايقات والتضييقات قابلتها إجراءات حاتمية إزاء المدرسة الحكومية. وقد تظاهر الكاتب العام للحكومة بالعطف والإعجاب إزاء مدرسة "الهلال" يوم زارها أواخر شهر نوفمبر 1939 وتلا عليه أحد التلاميذ كلمة ترحيب وتساءل متخابثا: هل من الضروري أن نعطي شيئا للتذكير بزيارتي؟" . وقاد أجابه مركز الاستعلامات بالقيروان يوم 29 نوفمبر 1939 بأنه يجب تدعيم المدرسة الحكومية وان إنشاء مطعم مدرسي بها قد تكون له نتائج طيبة "وقد ساند الكاتب العام للحكومة وأبلغ الاقتراح إلى مدير التعليم العمومي معتبرا ذلك "دعاية عن طريق البطن" .
وقد كتبت جريدة الزهرة يوم أول ديسمبر 1939 معلقة على تلك الزيارة: "خطب صبي من نجباء تلامذة المدرسة القرآنية بقصر هلال خطايا بديعا تأثر له جناب الوزير المفوض أشد التأثر". وليت كاتب التعليق كان يعرف حقيقة ذلك الإعجاب وتداعياته.
ورغم كل تلك المضايقات والتضييقات فقد تذمر مدير الداخلية يوم 10 فيفري 1930 من أن مدرسة "الهلال" تقوم بمنافسة "غير شريفة" .
وخلاصة القول فإن الأوساط التونسية اعتبرت مدرسة "الهلال" مدرسة "تعلم القراءة والكتابة والحساب" واعتبرتها السلطة عدوا. وموقف السلطة –في نظرنا- هو الصحيح.
ولم يربط أي تونسي بين نشأة المدرسة سنة 1929 من جهة وانعقاد مؤتمر "البعث" بقصر هلال يوم 2 مارس 1934 من جهة أخرى إلا الفرنسي فرناند ريكار مدير المدرسة الحكومية (الوثيقة 6) وسانده رئيسه – متفقد اللغة الفرنسية- الذي أعلن أن مدرسة "الهلال" خطر على الحضور الفرنسي بالإيالة. وقد أثبتت الأيام رأيهما وراح بعضهم ينوه "بالرجل الصالح" – الحاج علي صوة – جاهلين أو متجاهلين ما كان يجري وراء ستار الواجهة المدرسية من صراع من أجل الوجود القومي، لذلك أيقنا أن الاتصال الشخصي قد يعمي البصيرة فتحول "المعرفة" السطحية دون العرفان.
المدرسة ومديرها محمد صوة في أوج الكهولة. نلاحظ ولع الحاج علي صوة ببناء الطراز الأغلبي (أقواس وأعمدة) في المدرسة ومبيت العاصمة والمستشفى ومنزله: قيل لنا في القيروان أنه ربط علاقة بنظيره الصغير نقرة وأنه زار مدرسة الفتح التي أنشأها بالقيروان كما زار المدرسة الصادقية بالعاصمة.
منزل الحاج علي صوة
ذلك كان إشعاع مدرسة "الهلال" على محيطها. وإذا رحنا اليوم نتحدث عن "تفتح المدرسة على المحيط" حديثا فيه الكثير من الالتباس فقد كانت مدرسة "الهلال" تغزو محيطها مؤمنة برسالتها راسخة الخطى.
أما عن المدرسة فقد أحيلت يوم 23 نوفمبر 1960 على وزارة التربية القومية (كتابة الدولة سابقا) بعد صدور قانون 2 مارس 1956 القاضي بضم الأحباس العامة إلى أملاك الدولة.
وإذا كانت تلك الإحالة أمرا طبيعيا فإن إحالة الحمام المحبس عليها على البلدية لا يخلو من الغموض، نعم إنه ملك عمومي. لكن ما علاقة البلدية بالموضوع ؟ هل زودت المدرسة بما يقابل ذلك ؟ هل بنت لمدير المدرسة مسكنا مثلا ؟ هل هو "رزق بلاش أمالي" ؟ أم أنه كتب للحاج علي صوة أن يعطي وللآخرين أن يأخذوا ؟ وحتى أرشيف المدرسة الذي يضم كميّة لا بأس بها من الوثائق لا يتضمن نسخة من عقد تحبيس الحمام ولم نتمكن من نشره.
نكتب هذا مع الاعتذار للقارئ الكريم لأن التاريخ – كما قال ابن خلدون- عبر
تصويبات
جاء في كتيب نشره فوج الكشافة التونسية بقصر هلال بمناسبة المخيم العربي الرابع في أوت 1960 مقال تحت عنوان "قصر هلال والتعليم" جاء فيه : كانت قصر هلال منذ عهد ليس بالبعيد تتخبط في جهل كبير إذ المتعلمون في القرية حوالي سنة 1920 كانوا يعدون على الأصابع إذا لم نقل منعدمين تماما ... لكن أراد الله خيرا بهذه البلدة فمن عليها برجل الفضل المرحوم الحاج علي صوة الذي أشرق نور العلم على يديه في وجه أبناء البلدة بتأسيس مدرسة قرآنية عصرية للذكور سنة 1928 تحتوي على أكثر من 15 قسما وازدادت الحال تحسنا حين استجاب المستعمر لمطالب القرية وأسس بها مدرسة ثانية عربية فرنسية...".
وهو كلام مردود جملة وتفصيلا
- مدرسة "الهلال" فتحت أبوابها يوم 2 نوفمبر 1929 ولا سنة 1928. وهو الخطأ الذي وقع فيه الدكتور أحمد بن بكير محمود .
- لم تضم عن افتتاحها "أكثر من 15 قسما" ولا على ستة أقسام – كما جاء في مقال محمد الصالح المهيدي بل على خمسة أقسام.
- لم تكن مدرسة "الهلال" الأولى بقصر هلال. فقد سبقتها المدرسة الفرنكوعربية – ولا عربية فرنسية – منذ سنة 1909.
- لم يكن فتح المدرسة الحكومية استجابة لمطالب السكان بقدر ما كان محاولة للسيطرة على النشاط الصناعي الذي كان يميز قصر هلال باستقلالية واضحة. ومتى كان المستعمر يصغي إلى مطالب السكان ؟ إنه مدح لا يستحقه !
لو اطلع كاتب المقال على الحركة الإصلاحية بقصر هلال في العشرينات من القرن الماضي لما زعم بأن قصر هلال كانت – آنذاك- "تتخبط في جهل كبير" وقد كان بالمدرسة الحكومية سنة 1920 بالضبط 141 تلميذا. يقيننا أن كاتب ذلك المقال هو الذي يتخبط فيه.
وقد رأى الدكتور احمد محمود أن تطوير صناعة النسيج كان بوازع تلقائي من سكان قصر هلال ونحن نرى من باب الدرس الموضوعي – أن ذلك غير صحيح. فقد كان للمدرسة الحكومية عمل رائد فهي التي أدخلت نول جاكار Jacquard وهو نول معدل يقع بين النول التقليدي والنول الميكانيكي. وقد ضمت المدرسة سنة 1914 أربعة أنوال : ثلاثة من مدينة Lyon لنسج الحرير Shappe وواحد من مدينة Orléans لنسيج القطن في حين كان عدد الأقسام العادية اثنين فقط.
كتب محمد الصالح المهيدي: "لم يمانع مدير المدرسة الابتدائية الفرنسية بقصر هلال من فتح مدرسة قرآنية بالمكان" وذلك غير صحيح. فقد كان منذ البداية وحتى بعد ذلك بأعوام من ألدّ أعدائها.
المدرسة كما ترى اليوم
المدرسة الهلالية بالعاصمة
كتب احمد بن الحاج علي صوة في مذكراته: "لما عزمت أنا وأخي صالح على الالتحاق بالتعليم الزيتوني اضطررنا إلى السكن مؤقتا في نزل متواضع بنهج القصبة مع علي بن محمد عياد والهادي بن علي الشاوش في غرفة واحدة إلى أن نجحت الوساطات في تمكيننا من السكنى في إحدى الغرف بالمدرسة اليوسفية بنهج الصباغين وطردنا من المدرسة في نهاية السنة الدراسية. ثم انتقلنا إلى المدرسة الصالحية بنهج سيدي بن عروس وكنا ثلاثة أنا وأخي وعلي عياد ثم التحق بنا عبد العزيز بن محمد حشانة فأصبحنا أربعة نعيش في ثمانية أمتار مربعة نستعملها للنوم والمراجعة والطبخ والخزين".
هذه صورة لما كان يجتازه الطالب من اختبارات تسبق الاختبارات الدراسية بل هي صورة عن رحلة العذاب التي كان على طالب العلم أن يقطع مراحلها. بل هي صورة عن مشاق لا تبتعد عن المستحيل إلا قليلا.
وهي التي دفعت مراسل جريدة "النهضة" أن يتساءل يومي 24 جانفي و9 فيفري 1937 في حيرة صارخة ما هو مستقبل "الهلال" وخريجيها بقصر هلال ؟ " وإذا رأينا كيف جاءت الإجابة عن السؤال المتعلق بالمدرسة من طرف مؤسسها إذ حبس عليها حماما ليضمن لها موردا فقد جاءت الإجابة عن السؤال المتعلق بالخريجين من المؤسس نفسه.
قال أحمد صوة: "فأدرك الوالد آنذاك أهمية السكن بالنسبة إلى الراغبين في مواصلة الدراسة وأحس بقساوة العقبات التي تعترض الكثيرين من خريجي المدرسة القرآنية ففكر في إنشاء مدرسة للمبيت تخصص مبدئيا لأبناء قصر هلال ثم تتسع لغيرهم من الراغبين لا فرق في ذلك بين زيتوني أو مدرسي".
ولقد تتبعنا مسيرة المشروع منذ طلب الحاج علي صوة من الوزارة الكبرى سنة 1938 – أي بعد عام من صدور المقال – تمكينه من أرض صالحة لبناء المبيت بالعاصمة. وأحال الوزير الأكبر الهادي الأخوة الطلب مع المساندة على جمعية الأوقاف يوم 11 جانفي 1939. وقد كان رد رئيس جمعية الأوقاف محمد الحبيب الجلولي – ولا محمد سعد الله كما قال أحمد صوة – يوم 10 ماي 1939 قائلا: "لا يوجد براح بالحاضرة يصلح أن تبنى به المدرسة سوى البراح الذي بصحن جامع الهواء. وهو الذي كان وقع العزم على إحداث مدرسة به من فواضل الزاوية العياشية (بطبلبة) منذ جانفي 1927 ولم يتم من ذلك إلا بناء الأسس وتوقفت الأعمال إلى الآن. ولما نظر مجلس الجمعية فيما ذكر قرر الموافقة على بناء المدرسة بذلك البراح" .
وبدأت الأشغال
غير أنه تبين للحاج على صوة الذي لم تكن ترضيه أنصاف الحلول أن مساحة الأرض غير كافية فسعى لدى الوزارة الكبرى – مجددا – كي تمكنه من التضحية بخمسة عشر من زياتينه بقصر هلال مقابل دكان موقوف على جامع الهواء قصد توسيع المكان المخصص للمبيت. وأذن الوزير الأكبر – باسم الباي- بإجراء المعاوضة يوم 21 ديسمبر 1941 .
وانتهت الأشغال في شهر أوت 1942 فكتبت جريدة الزهرة يوم 17 أوت 1942 تحت عنوان "المدرسة الهلالية بالعاصمة": "من هو الذي يجهل ذلك الرجل الخيري العظيم السيد الحاج علي صوة الذي صدق فيما عاهد الله عليه؟ فبالأمس أشاد صرحا شامخا بقصر هلال واليوم أقام لطلاب العرفان أرقى مدرسة على أحدث طراز وأبدع هيئة بالمركاض بتونس. وقد تسلم صديقنا الأستاذ محمد صوة مفاتيح المدرسة بعد إتمامها ليقع توزيع بيوتها على طلبة العلم المتعطش. فلتحي هذه الروح الكريمة الفياضة بكل خير".
وصفها أحمد صوة – وهو أول ناظر لها – فقال: تحتوي على طابقين يشتملان على 43 غرفة تتسع الواحدة لثلاثة سكان وجناح خاص بالأدواش ومصاطب للطبخ والمراحيض ... كان البناء جميلا فرشت ساحته بالرخام الأبيض وكذلك درجه ...".
وما أن انتهت الأشغال وعند إدخال النور الكهربائي تعرضت العاصمة إلى القصف الجوي وفضل الطلبة العودة إلى ديارهم.
وافتتحت المدرسة الهلالية يوم 5 نوفمبر 1942.
وعند بداية سنة 1943 طلب شيخ المدينة تسخير المدرسة للحفاظ على رفات ضحايا القصف فلبى الحاج علي الطلب.
لكنه فوجئ باحتلال المدرسة من طرف طبيب الأسنان الشاذلي زويتن الذي "سمح لنفسه بخلع باب المدرسة واحتلال غرفها التي شغلها باعتباره رئيسا للهلال الأحمر" وطالبه الحاج علي صوة بإخلاء المدرسة بدون جدوى. وقد أجاب بأن المحلات مخصصة للإغاثة بينما هو يخصص قاعتين منها لجمعية الترجي الرياضي التي يتولى رئاستها وأن القاعات الأخرى يشغلها أناس قدموا من داخل البلاد".
وقد اضطر الحاج علي صوة إلى تقديم شكوى يوم 21 مارس 1944 – أي بعد عام كامل – إلى كل من الباي والوزير الأكبر والمقيم العام الفرنسي الجنرال ماست (الوثيقة 7).
وقد علقت جريدة الزهرة يوم 27 أفريل 1944 على ذلك الوضع تحت عنوان "مدرسة سكنى الطلبة بالمركاض تعبث بها الأيدي". وتحدثت عن استيلاء "بعض الهيئات" على المدرسة باسم "الإسعاف" وعن حالة الطلبة الذين وقع اغتصابها منهم "حتى أن هناك بيتا من أحسن بيوت المدرسة قد أخذت كمكتب خاص لأحد مسيري تلك المنظمات المنحلة اليوم وهي المدرسة التي شادها المحسن البار الشيخ علي صوة".
وما دامت خالية من الطلبة فقد استخدمت يوم 9 نوفمبر 1944 لإقامة الدستوريين القادمين من الساحل للمشاركة في أربعينية عبد العزيز الثعالبي .
وحين صدر الأمر بإخلائها من اللاجئين وتسخير إحدى الثكنات لإسكانهم استوجبت حالتها إصلاحات دعت ناظرها أحمد صوة إلى أن يطلب يوم 2 نوفمبر 1945 ترخيصا في اقتناء كمية من البلور والدهن – لأنها من المواد المقسطة – لإصلاح ما لحق المدرسة من أضرار .
وكتب أحمد صوة عن تلك الفترة : "كلما خلت غرفة من اللاجئين سكنها الطلبة حتى بلغ عددهم 128 نصفهم تقريبا من قصر هلال والقرى المجاورة و 9 من الجزائر والبقية من سائر البلاد. من ذلك أن قلعة الأندلس التي لم يكن يوجد منها طالب واحد يواصل دراسته الثانوية مكنت المدرسة 13 طالبا منها دفعة واحدة من السكن ومواصلة الدراسة".
أوقف الحاج علي صوة ذلك المبيت على جامع الزيتونة ثم فعل ما فعله إزاء مدرسة "الهلال" فضمن له موردا وحبس علي المبيت نزلا بالعاصمة كتبت عنه جريدة "تونس" يوم أول جوان 1949 : "الأوتيل في نهج بن عياد من العاصمة التونسية يقدر ثمنه بأربعة ملايين تبرع به مالكه السيد الحاج علي صوة لسكنى الطلبة وسلمه لمشيخة الجامع الأعظم...".
وقد أجاب أحد القراء عن ذلك بالجريدة نفسها يوم 15 جوان 1949: "الحاج علي صوة الذي كتبتم عن مبراته في العدد الماضي هو صاحب مبرة المدرسة المعروفة باسمه في الربض الأعلى من العاصمة التونسية والتي يسكنها اليوم 150 طالبا نصفهم من إخواتنا الجزائريين. وهي أحدث مدرسة عصرية يجد فيها الطلبة المرافق العصرية والتنوير الكهربائي والمياه الجارية والنظافة".
ولقد قدر لكاتب هذا العمل أن يقضي بذلك المبيت أسبوعين من شهر أكتوبر 1950 في انتظار أن يمكنه مدير المدرسة العلوية – وهو فرنسي- من دخول مبيتها بعد أن أهداه والدي "بيدون زيت".
تولى الإشراف على "المدرسة الهلالية" تباعا
أحمد بن الحاج علي صوة (1942-1946)
عبد العزيز بن محمد حشانة (1946-1951)
أحمد بن بكير محمود (1951- 1952)
خليفة بن أحمد صوة (1952 – 1955)
حمادي بن حسين بوزويته (1955- 1956)
امحمد يدعى الهاشمي بن محمد كشيدة (1956-1958)
المنجي بن محمد كشيدة (1958 – 1960)
وقد كان قبول المطالب منظما يتطلب الأوراق التالية: بطاقة مدرسية–العنوان- شهادة فقر – شهادة في حسن السيرة .
ويوم 12 نوفمبر 1954 جرى بها إحياء الذكرى الأولى لوفاة مؤسسها الحاج علي صوة بإشراف جمعية الشباب الأدبي الهلالي"(الوثيقة 24).
وختم أحمد صوة شهادته فكتب: "... واستمرت هذه المدرسة في أداء مهمتها إلى سنة 1961 حيث وقع الأمر بهدمها مع منزل الدكتور الماطري بدعوى توسيع الساحة وإبراز المنزل الذي كان يسكنه الزعيم الحبيب بورقيبة (ساحة معقل الزعيم حاليا).
وقد يكون السبب الحقيقي تهديم منزل الدكتور محمود الماطري المجاور للمدرسة.
المستشفى
مسيرة الحاج علي صوة مسيرة ناصعة لست تجد فيها مأخذا مهما كان اتجاهك الثقافي أو الاجتماعي أو السياسي أو الديني لأنها أخذت دعائمها من ثوابت الإنسانية وهمومها. وهي هموم عاشها في نفسه وفي ذريته وفي مجتمعه : عاش الأمية الحرفية وقيودها وعاش الفقر وخصاصته وعاش فتك الأمراض بالناس.
الحاج علي صوة كان عين قصر هلال المبصرة وكان أذن قصر هلال الصاغية وكان عزيمة قصر هلال الفاعلة.
أما الأسباب التي وقع عليها بصره فآلمته أو بلغت مسمعه فأزعجته فهي قسمان: عامة وخاصة.
فأما الأسباب العامة فتتمثل في الأمية التي جعلت الناس لا يجدون "من يقرأ لهم رسائلهم والحالة الصحية المتردية بقصر هلال وما جاورها فهي الكوليرا والتيفوس والجدري والحصبة والتيفويد وحمى المستنقعات تحصد الآلاف.
وهي الحوادث التي لا تجد الإسعاف
وهي الكلاب المسعورة تعيث في الناس نهشا
وهو الرمد الذي يجعل نصف المجندين يعفون من الجندية
وهي العقرب تسود القرية كلما جن الليل صيفا.
وأما السل فقد كان يفتك بأوساط النساجين وعائلاتهم فتكا. ولعل بعض شيوخنا يتذكرون الطبيب الشاب حامد القروي وهو يحارب السل بمستوصف دار النزالة بقصر هلال طيلة شهري جويلية وأوت سنة 1957.
وقد تراوحت ردود فعل السكان إزاء تلك الحالة المتردية بين الاحتجاج طورا والاستسلام للمتاجرين والمشعوذين في أغلب الأحيان.
فقد حرروا يوم 11 نوفمبر 1921 عريضة بها 126 إمضاء موجهة إلى المقيم العام للمطالبة بتعيين طبيب قار عوضا عن الاقتصار على يوم الأربعاء وتساءلوا بسخرية مرة: هل يجب على المعوزين أن يمرضوا يوم الأربعاء فقط ؟ .
وقد وجب انتظار سنة 1927 لنرى نشأة أول مستوصف بقصر هلال بمقر دار النزالة سابقا قبل أن تستغله اللجنة الثقافية فالكشافة التونسية ثم الشعبة الدستورية لوسط المدينة وبقي المستوصف بدون طبيب حتى بدأت طبيبة الاستعمار بالمنستير يوم 30 أفريل 1932 زياراتها صباح كل يوم أربعاء. وقد جاء في البلاغ أن "سي عبد السلام كشيدة - ممرض المستوصف- يضع نفسه تحت تصرف سكان قصر هلال وأحوزها لختان الأطفال مجانا" . وقد كان ذلك بعد أن أدى الدكتور Mazeres – مدير الصحة العمومية- زيارة إلى قصر هلال أواخر جانفي 1932 لمعاينة الوضع بشأن الرمد والتهاب العيون .
الحاج علي صوة،الزعيم الصامت لقصرهلال بقلم الأستاذ الحبيب ابراهم
يتبع