tunisiacafe
11-25-2012, 04:54 PM
العلوم الإنسانية : أزمة بحث أم أزمة منهج؟
إن هدف العلوم الإنسانية والاجتماعية دراسة الإنسان كفاعل اجتماعي، من حيث وعيه للمجتمع؛ وإعادة إنتاج هذا الوعي في سلوكيات ومواقف وتعبيرات و..، هذه العلاقة التفاعلية بين الإنسان والمجتمع والإنسان والطبيعة أو بالأحرى الإنسان والآخر، هي موضوع الدراسة والبحث والتحليل والتفسير..
بحث يستهدف فكّ رموز هذه العلاقة التفاعلية المعبّر عنها في الأنثروبولوجية بالثقافة؛ التي هي نتاج وعيه بالآخر بصفة عامة، والتعبير عنه بأشكال مختلفة وصور متنوعة.
هذه الدراسات كلها تجتمع حول هذا المحور "الإنسان والآخر" لكنها تختلف اختلافا منهجيا واضحا في طريقة التحليل، فكل واحدة اهتمت بجانب واحد معين من الظاهرة الإنسانية، وأهملت جانباً آخر فالنظرة المتكاملة للإنسان لم تكن من نصيبهم (الدراسات الغربية).
هذه النسبية قد نجد لها تفسيراً علميا، لأن الظاهرة الإنسانية الاجتماعية ظاهرة معقّدة غامضة ومتجددة، وفهم الإنسان على حقيقته أمر صعب، إذ ما زال الغموض يحيط بجوانب كبيرة من شخصيته وعلاقاته المتشعّبة..
هذه نسبية مقبولة، لكن النظرة القاصرة المعوجّة الحَوْلاء، تؤدي إلى نتائج خارج الإطار العلمي، تفتقد للمصداقية العلمية، وتجعلنا ننحرف في فهم الإنسان ونتاجه الاجتماعي الثقافي. ولفهم تاريخ هذا القصور المنهجي نعرّج في تاريخ منهجية الدراسة الاجتماعية، النظرة المنهجية لدراسة الإنسان كفاعل اجتماعي بالدرجة الأولى.
الإنسان عند اليونانيين
كان اهتمام اليونان في القديم بالفكر والعقل اهتماما ملحوظاً، وذلك واضح في ضخامة إنتاجهم الفكري في هذه الحقبة من الزمن، فقد شهدت بروز العديد من الفلاسفة، أمثال سقراط، أرسطو وأفلاطون... الذين كانت لهم إسهامات في الفكر الإنساني معتبرة.
أما نظرتهم للإنسان وطريقة تحليله فكانت ترتكز على التنظير العقلي أكثر من التجريب العملي، اهتموا بأمور المنطق وعلم الكلام والرياضيات المجردة، والجوانب الأخرى لم ترْق بنفس الاهتمام. غياب الجسد ومتطلباته، والروح وتوهجها وسموها الروحي.. والتجريب وتأكيده وعدمه للفرضيات المقترحة، فالتجربة لا نجد لها ذكر عندهم!
الإنسان في الحضارة الرومانية
نذهب إلى الحضارة الرومانية التي تركت هي الأخرى آثارا ملحوظة في الفكر الإنساني، فكانت ممتدة على علم اليونان في الأدب والفكر، فهي لم تنتج علماً غزيراً ولا إبداعا فلسفياً ولا حكمة تُتلى، وإنما كان اهتمامهم بالقوة الجسدية، والتربية البدنية التي تعُدّ الجندي المحارب الذي يموت في سبيل دولته والإمبراطورية، ويضحي بكل شيء مقابل مجدها وعزها، وجانب في التشريع والتنظيم، مثل القانون الروماني الذي استمدت الحضارة المعاصرة منه أغلب التشريعات والنظم.
كان هدفها عسكرياً بالأساس لهذا نجدها امتدت في بلدان كثيرة، وتركت آثاراً ضخمة وعملاقة، لكنها لم تترك علماً وثقافة وحكمة، وهذا راجع لقصور النظرة المنهجية للإنسان، نظرة مهتمة بالعضلات وبسط نفوذها.
الإنسان في الفكر الغربي المعاصر
أما في الفكر الغربي المعاصر بشِقَّيْه -قبل التمرد الكَنَسي وبعده- نجد نفس القصور يسري؛ ونفس النظرة تتبلور في المنهجية وطريقة دراسة الإنسان.
قبل التمرد الكنسي
كانت هذه المرحلة المسماة مرحلة سيطرة الكنيسة، مرحلة مظلمة في تاريخ الفكر الأوربي، سيطرة الكنيسة كانت ممتدة في الحياة الاجتماعية بشكل قاتل ومميت للفكر والإبداع. كانت تقف في وجه كل محاولة تستهدف كسر التفكير خارج الإطار المعرفي للكنيسة ولرجال الدين فيها، فالسلطة الكهنوتية كان لها حضور قوي على مشاعر الناس.
قامت الكنيسة بقتل العلماء والمفكرين الذين يتجرؤون على قول يخالف معتقد الكنيسة، كما فرضت رهبانية كهنوتية على المجتمع، مما أدى إلى التمرد عليها، هذه الرهبانية أدخلت الإنسان في عالم منعزل عن المجتمع وعن تطلعاته، والانخراط في مشاكله.
وأوجدت فكرا لاهوتيا رهبانيا، ونظرة قاصرة أيضا للإنسان وعوالمه المتشعبة المتفرعة، قتلت كل قدراته الإبداعية العقلية، وجعلته روحًا منفصلة عن الجسد لا يحقق مطالبه وحاجاته الضرورية.
بعد التمرد الكنسي
هنا فكَّ العقل كل القيود التي كانت تكبّله حول حرية التفكير في كل شيء، فلم يعد للعقل حدوداً يلتزم بها، ولا آدابا يراعيها، ولا أعرافا يحترمها، إنه الانطلاق في كل الاتجاهات دون إشارات أو علامات، فكانت نتائج مبهرة على الصعيد المادي التجريبي لأنهم فقهوا سننه، أما الجانب الروحي النفسي فكانت الانتكاسة، لأن سنن النفس والمجتمع لم يفقهوها، تنكّروا للدين والوحي وتمرّدوا عليه، فأنكروا نصف الإنسان. الجانب الروحي، وقاموا بجبْر هذا الكسر بترقيعات هنا وهناك.
في ظل هذه الظروف؛ ظهرت العلوم الإنسانية وبلورت منهجها في الدراسة والبحث. والغريب نجد أن هذه النظرة الحولاء مازالت تستحكم بالعديد من الدارسين والباحثين الاجتماعين. فإن كان في الغرب مسوغ لذلك نحن في بلداننا لسنا ملزمين بهذا، لأن نظرتنا للإنسان مختلفة تماماً، نابعة من وحي رباني وهدى قرآني وبصيرة الخبير العزيز اللطيف القدير.
منهج دراسة الظاهرة الاجتماعية "الإنسان"
يعتبر العالم اليهودي الأصل "دور كايم" هو أول من قام بمقاربة منهجية في الدراسات الاجتماعية في بحثه حول "الانتحار"، وكتابه النظري "قواعد المنهج".
يتلخص منهجه -بصفة عامة- في فكرة جوهرية؛ وهي دراسة الظاهرة الاجتماعية الإنسانية دراسة موضوعية كأنها شيء منعزل "الشيئية"، نعزلها عن ذواتنا عزلاً من أجل الموضوعية والسلامة في النتائج.
تبدو الفكرة جميلة أن نتحلى بالموضوعية في الدراسة، ولكن هل نستطيع أن نتخلى عن وعينا وثقافتنا وتكويننا الذي تشربناه من المجتمع؟
الجواب موجود عند من وضعوا هذا المنهج، هم أول من خرق هذه القاعدة، فتنظيرهم اليهودي مدسوس داخل أطروحات فكرية، يعلّبونها بمبادئ كهذه، "يجب التخلص من الأهواء والقناعات المسبقة"، هذا صعب التحقيق، بل أنا أدعو إلى العكس تماماً.
إن الباحث المسلم، الباحث عن الحقيقة والدال على الخير والمفتش في خبايا الأمور؛ له التزام ومسؤولية أخلاقية ودينية.. أمام الله عز وجل وأمام الوطن والأمة، فالإسلام كدين يجعلك تؤمن بفكرة واحدة جوهرية هي تحقيق العبودية لله، أن تحيى وتموت وتعمل وتكد وتجتهد وتزرع وتحصد و... في ظل رسالة الإسلام وتعاليمه السمحة.
إذن للباحث المسلم التزام أخلاقي يجب الدفاع عنه وتوضيحه للعامة في حالة تعرضه لانتقاص أو خلل، ولا يقف باردا هكذا، دون مشاعر تحركه أو غيرة تؤنبه..
الباحث المسلم... مسلم قبل كل شيء
إن حرقة الباحث على وطنه وأمته ودينه شيء ضروري، فهو في الصفوف الأولى من المعركة مطالب بتوعية الأمة بالخلل والتحديات والمواجهات وخطط الأعداء وتنكر الأبناء.. وما حدث من نقص في الدور والوظيفة داخل البناء المجتمعي.
هذه الحرقة نابعة من الدين، فهو الموجِّه لها، وهو الذي يزوّدها بالنشاط والحيوية، أما أن تقف -كما يقول علماء الغرب- باردا جامدا، وكأن الأمور تسير بشكل عادي، هذا لا يخدم البحث ولا تقدمه.
الإلحاح على النقص وتبيانه والتأكيد عليه من شأنه أن ينبّه العقول التائهة والنفوس الحائرة، وللباحث على غيره أفضلية، فهو المرشد والمنبه والواعي لمآلات الأمور واتجاهها.
الإطار النظري.. أو العبودية
إننا نجد كل باحث ينطلق من إطار فكري ومرجعية فكرية نظرية معينة، فمنهم من كانت الماركسية وجهته، ومنهم من اتّخذ مدرسة من المدارس الأخرى المعروفة في العلوم الاجتماعية .. الباحث لا يستطيع أن يفكر خارج إطار نظري وفكري يزوده بالمفاهيم والمفردات وأساليب التحليل لما يدرس ويحلل، لهذا كان منطقياً وعقلانيا بل واجب بالضرورة على المسلم أن يفكر من داخل فضاءه الإسلامي، الذي يعطي للأشياء معانيها، وللظواهر قيمتها الرمزية، وبعدها الفلسفي الغائي..
هذا خلل كبير نجده عند الباحثين الذين اهتموا بالمجتمعات الإسلامية، فكثير منهم من قام بدراسات حول المجتمعات الإسلامية، لكن إطاره الفكري كان يعبر عن واقع آخر ومعنى آخر، مما يفقد مصداقية الدراسة وضآلة النتائج المتوصل إليها.
أتعجب لهؤلاء الباحثين كيف تعمى أبصارهم حول هذه القضايا، وإن كانت العلوم الإنسانية تنادي بنقيض ما ذهبوا إليه، فهي تؤكد على محاولة فهم وتفسير وتحليل الظاهرة الاجتماعية من داخل بنائها المجتمعي، بالتعرف على العلاقة الجدلية مع المجتمع، علاقة التأثر والتأثير، لكن انطلاقهم من خلفية فكرية مناقضة لواقع الظاهرة جعلهم يتناقضون مع واقعهم ومجتمع بحثهم.
موضوع الدراسة.. الإنسان كائن متدين
كنا قد تناولنا في السابق النظرة المنهجية للإنسان وتأثيرها على نتائج البحث، والآن أحاول التحدث عن موضوع الدراسة في المجتمعات الإسلامية.
الإنسان دائما هو محور الدراسة والبحث إذ هو محور الكون في الإسلام، له رسالة حضارية نبيلة، محددة ومقيدة ومعروفة سلفاً، إنها تحقيق العبودية على الأرض، عبادة الله الواحد الأحد بتحقيق التوحيد الخالص، والتحرر من كل أصناف المعبودات الأخرى، تحرير العقل والضمير والنفس من الأهواء والشبهات والخرافة، فكل حياته ومماته لله رب العالمين، ونظرة الإسلام للإنسان، نظرة تكريم وتشريف وتكليف، هو أشرف المخلوقات وأكرمها ، مكلف بتكاليف شرعية، فهو حر؛ عاقل واعي؛ مسؤول عن أفعاله محاسب عنها، له غاية وهدف واحد هو الفوز بالآخرة جنة الرضوان وعمارة الأرض وفق منهج القرآن الكريم والسنة النبوية.
كل سلوكياته وأفعاله ومواقفه و... كل ما يصدر عنه في سبيل تحقيق هذا الهدف، فالباحث المتمرس يدرسه بعلاقته مع الهدف المسطر قبلاً كي يكون الإطار المرجعي للأحكام والتفسيرات؛ يتصف بمصداقية علمية.
وهنا نجد زيف الباحثين عندما يتناسون هده الحقيقة الاجتماعية ألخطيرة، فتصرفات الإنسان المسلم في غالبيتها نابعة من وعي ديني وانتماء وجداني للدين، فهو المحرك الأساس لأغلب التصرفات والأفعال.
على الباحث أن يهتم بهذه القضية وينظر فيها بعين المدقق والممحص؛ هل تنسجم والأهداف المعلنة مسبقاً؟ وأين يكمن الخلل؟
قد يستغرب بعض الباحثين هذا الكلام، وأنا أعذرهم، لأنهم درسونا هكذا.. أعموْا بصائرنا بحماقات ما مثلها حماقات، بدعوى العلم والموضوعية، فلا العلم الشريف نلنا ولا موضوعية رأينا!! فالباحث قبل أن يكون باحثاً هو إنسان مسلم له تبعات عندما نطلق عليه هذه الكلمة، يعني القرآن منهجه؛ والوحي نوره؛ والعقيدة الصحيحة وقوده؛ والجنة غايته؛ والدنيا سبيله. لتحقيق كل ذاك بصبغة الله (الإسلام).
المنهج الإسلامي.. ضرورة ليس اختيار
عزيزي القارئ يجب أن تكون على علم من هذا، إما أن تتبنى الإسلام طرحاً فكريا وغايتاً ومنهاجاً في التفكير، وإما أن تتبنى إطاراً آخراً يدخلك في متاهات ومنعرجات قد تؤثر في سلامة تدينك، فالمسلم ما دام قد أسلم وجهه لله هو خاضع وعبدٌ لله، يعيش وفق مراد الله و يعمل لمرضاة الله كي يفوز بالجنة، أم لك غاية أخرى أسمى من هذه الغاية؟
إنك باحث في أمور المجتمع والإنسان، وهذا له منهج في الدراسة، وكن على يقين أنك لن تستطيع فهم هذا الإنسان وفك كل ألغازه إلا بالرجوع إلى المنهج الرباني الذي يعرف ما توسوس له نفسه، فهو الذي خلقنا وعلّمنا وصوّرنا وأكرمنا في أحسن صورة ركّبنا.
منهج الفطرة السوية، والخِلقة الأولى التي فطرنا الله عليها.
ماذا أريد قوله مما سبق؟
أريد التأكيد على أمرين ضروريين ومهميْن، ولا يمكن فصل الواحد عن الآخر.
أما الأول: الموضوع
موضوع الدراسة في العلوم الإنسانية والاجتماعية هو الإنسان في تفاعله مع الآخر، هذه العلاقة التفاعلية يجب أن ينظر إليها نظرة منهجية شاملة متكاملة في علاقاتها بالكل وبالهدف الأسمى للإنسان يعني" الدين ".
لأن الإنسان المسلم كما عرفنا سابقا هو كائن متدين بالأساس، بغض النظر عن درجة وصحة وقوة تدينه، قد يصعد وينزل. ثم إن للدين حضور قوي في الحياة اليومية لا نستطيع فهم تركيبة ظاهرة من الظواهر بمعزل عن النظام الثقافي الذي من روافده ومرتكزاته الدين.
الأمر الثاني: الباحث
كانوا يؤكدون دائماً لنا أن الباحث ينزع قلبه وهو يدرس الظاهرة الاجتماعية، نزع الميول والأهواء والأحكام المسبقة، وهذا جميل لذاته لكني أرى أن على الباحث المسلم أن يتخذ موقفا من القضية ويدافع عنه، خصوصا أمور الأمة والدين، لأنه مسؤول أمام الله وأمام التاريخ، بتبيان الحق والدعوة إليه بشتى الطرق.
أما أن تبحث آفة من الآفات أو ظاهرة من الظواهر، وتقول هذه تفشت ولها مصداقية بين الناس، والاستحسان لها يدل على قبولها اجتماعيا، هذا لا يليق في هذا الموضوع،
الالتزام الأخلاقي للباحث، يفرض علينا إيضاح الحق. وذلك بالرجوع للكتاب والسنة وإجماع الأمة، فهي العواصم من القواصم.... نكون فعلاً معبرين عن روح الأمة والمجتمع والإنسان؛ في تناسق نظري منهجي. لا غبش ولا ضبابية في التحليل والتفسير.
نحتكم لمرجعية واحدة لشخص واحد في مجتمع واحد. ونلقي بالتنافر المنهجي الصارخ الذي يتخبط فيه الباحثون العلمانيون، فكثيراً ما تكلموا عن مجتمعات لا نعرفها ولا تعبر عنا، لأنهم انطلقوا من مرجعيات مختلفة عن المرجعية الإسلامية التي تشكل البناء المجتمعي وبناء الإنسان في المجتمعات الإسلامية.
نريد مرجعية منطلقة من جوهر الإنسان، من فطرة قلبه وروحه، عقله وفكره، طين ثقيل وروح خفيفة، شوق في الصعود و ثقل يجذب للأرض هذا التوازن العجيب هو الذي ندرسه ونبحثه ، كيف نحقق التوازن والإيجابية ونمشي بتلك الثنائية المزدوجة مشياً منسجما معتدلاً؛ لا أعرج ولا أحول.
. (http://tunisia-cafe.com/vb/showthread.php?t=20654)
نبحث الإنسان في تناسقه وتنوعه، في مصلحته ومبدئه، بين تكاليفه وظروفه، بين هدفه ومعوّقاته، هنا يكمن مجال البحث لإيجاد توازن بين الصعود العالي والنزول الهابط، نريد منزلة الوسطية، وهي خاصية الأمة المحمدية.
إن هدف العلوم الإنسانية والاجتماعية دراسة الإنسان كفاعل اجتماعي، من حيث وعيه للمجتمع؛ وإعادة إنتاج هذا الوعي في سلوكيات ومواقف وتعبيرات و..، هذه العلاقة التفاعلية بين الإنسان والمجتمع والإنسان والطبيعة أو بالأحرى الإنسان والآخر، هي موضوع الدراسة والبحث والتحليل والتفسير..
بحث يستهدف فكّ رموز هذه العلاقة التفاعلية المعبّر عنها في الأنثروبولوجية بالثقافة؛ التي هي نتاج وعيه بالآخر بصفة عامة، والتعبير عنه بأشكال مختلفة وصور متنوعة.
هذه الدراسات كلها تجتمع حول هذا المحور "الإنسان والآخر" لكنها تختلف اختلافا منهجيا واضحا في طريقة التحليل، فكل واحدة اهتمت بجانب واحد معين من الظاهرة الإنسانية، وأهملت جانباً آخر فالنظرة المتكاملة للإنسان لم تكن من نصيبهم (الدراسات الغربية).
هذه النسبية قد نجد لها تفسيراً علميا، لأن الظاهرة الإنسانية الاجتماعية ظاهرة معقّدة غامضة ومتجددة، وفهم الإنسان على حقيقته أمر صعب، إذ ما زال الغموض يحيط بجوانب كبيرة من شخصيته وعلاقاته المتشعّبة..
هذه نسبية مقبولة، لكن النظرة القاصرة المعوجّة الحَوْلاء، تؤدي إلى نتائج خارج الإطار العلمي، تفتقد للمصداقية العلمية، وتجعلنا ننحرف في فهم الإنسان ونتاجه الاجتماعي الثقافي. ولفهم تاريخ هذا القصور المنهجي نعرّج في تاريخ منهجية الدراسة الاجتماعية، النظرة المنهجية لدراسة الإنسان كفاعل اجتماعي بالدرجة الأولى.
الإنسان عند اليونانيين
كان اهتمام اليونان في القديم بالفكر والعقل اهتماما ملحوظاً، وذلك واضح في ضخامة إنتاجهم الفكري في هذه الحقبة من الزمن، فقد شهدت بروز العديد من الفلاسفة، أمثال سقراط، أرسطو وأفلاطون... الذين كانت لهم إسهامات في الفكر الإنساني معتبرة.
أما نظرتهم للإنسان وطريقة تحليله فكانت ترتكز على التنظير العقلي أكثر من التجريب العملي، اهتموا بأمور المنطق وعلم الكلام والرياضيات المجردة، والجوانب الأخرى لم ترْق بنفس الاهتمام. غياب الجسد ومتطلباته، والروح وتوهجها وسموها الروحي.. والتجريب وتأكيده وعدمه للفرضيات المقترحة، فالتجربة لا نجد لها ذكر عندهم!
الإنسان في الحضارة الرومانية
نذهب إلى الحضارة الرومانية التي تركت هي الأخرى آثارا ملحوظة في الفكر الإنساني، فكانت ممتدة على علم اليونان في الأدب والفكر، فهي لم تنتج علماً غزيراً ولا إبداعا فلسفياً ولا حكمة تُتلى، وإنما كان اهتمامهم بالقوة الجسدية، والتربية البدنية التي تعُدّ الجندي المحارب الذي يموت في سبيل دولته والإمبراطورية، ويضحي بكل شيء مقابل مجدها وعزها، وجانب في التشريع والتنظيم، مثل القانون الروماني الذي استمدت الحضارة المعاصرة منه أغلب التشريعات والنظم.
كان هدفها عسكرياً بالأساس لهذا نجدها امتدت في بلدان كثيرة، وتركت آثاراً ضخمة وعملاقة، لكنها لم تترك علماً وثقافة وحكمة، وهذا راجع لقصور النظرة المنهجية للإنسان، نظرة مهتمة بالعضلات وبسط نفوذها.
الإنسان في الفكر الغربي المعاصر
أما في الفكر الغربي المعاصر بشِقَّيْه -قبل التمرد الكَنَسي وبعده- نجد نفس القصور يسري؛ ونفس النظرة تتبلور في المنهجية وطريقة دراسة الإنسان.
قبل التمرد الكنسي
كانت هذه المرحلة المسماة مرحلة سيطرة الكنيسة، مرحلة مظلمة في تاريخ الفكر الأوربي، سيطرة الكنيسة كانت ممتدة في الحياة الاجتماعية بشكل قاتل ومميت للفكر والإبداع. كانت تقف في وجه كل محاولة تستهدف كسر التفكير خارج الإطار المعرفي للكنيسة ولرجال الدين فيها، فالسلطة الكهنوتية كان لها حضور قوي على مشاعر الناس.
قامت الكنيسة بقتل العلماء والمفكرين الذين يتجرؤون على قول يخالف معتقد الكنيسة، كما فرضت رهبانية كهنوتية على المجتمع، مما أدى إلى التمرد عليها، هذه الرهبانية أدخلت الإنسان في عالم منعزل عن المجتمع وعن تطلعاته، والانخراط في مشاكله.
وأوجدت فكرا لاهوتيا رهبانيا، ونظرة قاصرة أيضا للإنسان وعوالمه المتشعبة المتفرعة، قتلت كل قدراته الإبداعية العقلية، وجعلته روحًا منفصلة عن الجسد لا يحقق مطالبه وحاجاته الضرورية.
بعد التمرد الكنسي
هنا فكَّ العقل كل القيود التي كانت تكبّله حول حرية التفكير في كل شيء، فلم يعد للعقل حدوداً يلتزم بها، ولا آدابا يراعيها، ولا أعرافا يحترمها، إنه الانطلاق في كل الاتجاهات دون إشارات أو علامات، فكانت نتائج مبهرة على الصعيد المادي التجريبي لأنهم فقهوا سننه، أما الجانب الروحي النفسي فكانت الانتكاسة، لأن سنن النفس والمجتمع لم يفقهوها، تنكّروا للدين والوحي وتمرّدوا عليه، فأنكروا نصف الإنسان. الجانب الروحي، وقاموا بجبْر هذا الكسر بترقيعات هنا وهناك.
في ظل هذه الظروف؛ ظهرت العلوم الإنسانية وبلورت منهجها في الدراسة والبحث. والغريب نجد أن هذه النظرة الحولاء مازالت تستحكم بالعديد من الدارسين والباحثين الاجتماعين. فإن كان في الغرب مسوغ لذلك نحن في بلداننا لسنا ملزمين بهذا، لأن نظرتنا للإنسان مختلفة تماماً، نابعة من وحي رباني وهدى قرآني وبصيرة الخبير العزيز اللطيف القدير.
منهج دراسة الظاهرة الاجتماعية "الإنسان"
يعتبر العالم اليهودي الأصل "دور كايم" هو أول من قام بمقاربة منهجية في الدراسات الاجتماعية في بحثه حول "الانتحار"، وكتابه النظري "قواعد المنهج".
يتلخص منهجه -بصفة عامة- في فكرة جوهرية؛ وهي دراسة الظاهرة الاجتماعية الإنسانية دراسة موضوعية كأنها شيء منعزل "الشيئية"، نعزلها عن ذواتنا عزلاً من أجل الموضوعية والسلامة في النتائج.
تبدو الفكرة جميلة أن نتحلى بالموضوعية في الدراسة، ولكن هل نستطيع أن نتخلى عن وعينا وثقافتنا وتكويننا الذي تشربناه من المجتمع؟
الجواب موجود عند من وضعوا هذا المنهج، هم أول من خرق هذه القاعدة، فتنظيرهم اليهودي مدسوس داخل أطروحات فكرية، يعلّبونها بمبادئ كهذه، "يجب التخلص من الأهواء والقناعات المسبقة"، هذا صعب التحقيق، بل أنا أدعو إلى العكس تماماً.
إن الباحث المسلم، الباحث عن الحقيقة والدال على الخير والمفتش في خبايا الأمور؛ له التزام ومسؤولية أخلاقية ودينية.. أمام الله عز وجل وأمام الوطن والأمة، فالإسلام كدين يجعلك تؤمن بفكرة واحدة جوهرية هي تحقيق العبودية لله، أن تحيى وتموت وتعمل وتكد وتجتهد وتزرع وتحصد و... في ظل رسالة الإسلام وتعاليمه السمحة.
إذن للباحث المسلم التزام أخلاقي يجب الدفاع عنه وتوضيحه للعامة في حالة تعرضه لانتقاص أو خلل، ولا يقف باردا هكذا، دون مشاعر تحركه أو غيرة تؤنبه..
الباحث المسلم... مسلم قبل كل شيء
إن حرقة الباحث على وطنه وأمته ودينه شيء ضروري، فهو في الصفوف الأولى من المعركة مطالب بتوعية الأمة بالخلل والتحديات والمواجهات وخطط الأعداء وتنكر الأبناء.. وما حدث من نقص في الدور والوظيفة داخل البناء المجتمعي.
هذه الحرقة نابعة من الدين، فهو الموجِّه لها، وهو الذي يزوّدها بالنشاط والحيوية، أما أن تقف -كما يقول علماء الغرب- باردا جامدا، وكأن الأمور تسير بشكل عادي، هذا لا يخدم البحث ولا تقدمه.
الإلحاح على النقص وتبيانه والتأكيد عليه من شأنه أن ينبّه العقول التائهة والنفوس الحائرة، وللباحث على غيره أفضلية، فهو المرشد والمنبه والواعي لمآلات الأمور واتجاهها.
الإطار النظري.. أو العبودية
إننا نجد كل باحث ينطلق من إطار فكري ومرجعية فكرية نظرية معينة، فمنهم من كانت الماركسية وجهته، ومنهم من اتّخذ مدرسة من المدارس الأخرى المعروفة في العلوم الاجتماعية .. الباحث لا يستطيع أن يفكر خارج إطار نظري وفكري يزوده بالمفاهيم والمفردات وأساليب التحليل لما يدرس ويحلل، لهذا كان منطقياً وعقلانيا بل واجب بالضرورة على المسلم أن يفكر من داخل فضاءه الإسلامي، الذي يعطي للأشياء معانيها، وللظواهر قيمتها الرمزية، وبعدها الفلسفي الغائي..
هذا خلل كبير نجده عند الباحثين الذين اهتموا بالمجتمعات الإسلامية، فكثير منهم من قام بدراسات حول المجتمعات الإسلامية، لكن إطاره الفكري كان يعبر عن واقع آخر ومعنى آخر، مما يفقد مصداقية الدراسة وضآلة النتائج المتوصل إليها.
أتعجب لهؤلاء الباحثين كيف تعمى أبصارهم حول هذه القضايا، وإن كانت العلوم الإنسانية تنادي بنقيض ما ذهبوا إليه، فهي تؤكد على محاولة فهم وتفسير وتحليل الظاهرة الاجتماعية من داخل بنائها المجتمعي، بالتعرف على العلاقة الجدلية مع المجتمع، علاقة التأثر والتأثير، لكن انطلاقهم من خلفية فكرية مناقضة لواقع الظاهرة جعلهم يتناقضون مع واقعهم ومجتمع بحثهم.
موضوع الدراسة.. الإنسان كائن متدين
كنا قد تناولنا في السابق النظرة المنهجية للإنسان وتأثيرها على نتائج البحث، والآن أحاول التحدث عن موضوع الدراسة في المجتمعات الإسلامية.
الإنسان دائما هو محور الدراسة والبحث إذ هو محور الكون في الإسلام، له رسالة حضارية نبيلة، محددة ومقيدة ومعروفة سلفاً، إنها تحقيق العبودية على الأرض، عبادة الله الواحد الأحد بتحقيق التوحيد الخالص، والتحرر من كل أصناف المعبودات الأخرى، تحرير العقل والضمير والنفس من الأهواء والشبهات والخرافة، فكل حياته ومماته لله رب العالمين، ونظرة الإسلام للإنسان، نظرة تكريم وتشريف وتكليف، هو أشرف المخلوقات وأكرمها ، مكلف بتكاليف شرعية، فهو حر؛ عاقل واعي؛ مسؤول عن أفعاله محاسب عنها، له غاية وهدف واحد هو الفوز بالآخرة جنة الرضوان وعمارة الأرض وفق منهج القرآن الكريم والسنة النبوية.
كل سلوكياته وأفعاله ومواقفه و... كل ما يصدر عنه في سبيل تحقيق هذا الهدف، فالباحث المتمرس يدرسه بعلاقته مع الهدف المسطر قبلاً كي يكون الإطار المرجعي للأحكام والتفسيرات؛ يتصف بمصداقية علمية.
وهنا نجد زيف الباحثين عندما يتناسون هده الحقيقة الاجتماعية ألخطيرة، فتصرفات الإنسان المسلم في غالبيتها نابعة من وعي ديني وانتماء وجداني للدين، فهو المحرك الأساس لأغلب التصرفات والأفعال.
على الباحث أن يهتم بهذه القضية وينظر فيها بعين المدقق والممحص؛ هل تنسجم والأهداف المعلنة مسبقاً؟ وأين يكمن الخلل؟
قد يستغرب بعض الباحثين هذا الكلام، وأنا أعذرهم، لأنهم درسونا هكذا.. أعموْا بصائرنا بحماقات ما مثلها حماقات، بدعوى العلم والموضوعية، فلا العلم الشريف نلنا ولا موضوعية رأينا!! فالباحث قبل أن يكون باحثاً هو إنسان مسلم له تبعات عندما نطلق عليه هذه الكلمة، يعني القرآن منهجه؛ والوحي نوره؛ والعقيدة الصحيحة وقوده؛ والجنة غايته؛ والدنيا سبيله. لتحقيق كل ذاك بصبغة الله (الإسلام).
المنهج الإسلامي.. ضرورة ليس اختيار
عزيزي القارئ يجب أن تكون على علم من هذا، إما أن تتبنى الإسلام طرحاً فكريا وغايتاً ومنهاجاً في التفكير، وإما أن تتبنى إطاراً آخراً يدخلك في متاهات ومنعرجات قد تؤثر في سلامة تدينك، فالمسلم ما دام قد أسلم وجهه لله هو خاضع وعبدٌ لله، يعيش وفق مراد الله و يعمل لمرضاة الله كي يفوز بالجنة، أم لك غاية أخرى أسمى من هذه الغاية؟
إنك باحث في أمور المجتمع والإنسان، وهذا له منهج في الدراسة، وكن على يقين أنك لن تستطيع فهم هذا الإنسان وفك كل ألغازه إلا بالرجوع إلى المنهج الرباني الذي يعرف ما توسوس له نفسه، فهو الذي خلقنا وعلّمنا وصوّرنا وأكرمنا في أحسن صورة ركّبنا.
منهج الفطرة السوية، والخِلقة الأولى التي فطرنا الله عليها.
ماذا أريد قوله مما سبق؟
أريد التأكيد على أمرين ضروريين ومهميْن، ولا يمكن فصل الواحد عن الآخر.
أما الأول: الموضوع
موضوع الدراسة في العلوم الإنسانية والاجتماعية هو الإنسان في تفاعله مع الآخر، هذه العلاقة التفاعلية يجب أن ينظر إليها نظرة منهجية شاملة متكاملة في علاقاتها بالكل وبالهدف الأسمى للإنسان يعني" الدين ".
لأن الإنسان المسلم كما عرفنا سابقا هو كائن متدين بالأساس، بغض النظر عن درجة وصحة وقوة تدينه، قد يصعد وينزل. ثم إن للدين حضور قوي في الحياة اليومية لا نستطيع فهم تركيبة ظاهرة من الظواهر بمعزل عن النظام الثقافي الذي من روافده ومرتكزاته الدين.
الأمر الثاني: الباحث
كانوا يؤكدون دائماً لنا أن الباحث ينزع قلبه وهو يدرس الظاهرة الاجتماعية، نزع الميول والأهواء والأحكام المسبقة، وهذا جميل لذاته لكني أرى أن على الباحث المسلم أن يتخذ موقفا من القضية ويدافع عنه، خصوصا أمور الأمة والدين، لأنه مسؤول أمام الله وأمام التاريخ، بتبيان الحق والدعوة إليه بشتى الطرق.
أما أن تبحث آفة من الآفات أو ظاهرة من الظواهر، وتقول هذه تفشت ولها مصداقية بين الناس، والاستحسان لها يدل على قبولها اجتماعيا، هذا لا يليق في هذا الموضوع،
الالتزام الأخلاقي للباحث، يفرض علينا إيضاح الحق. وذلك بالرجوع للكتاب والسنة وإجماع الأمة، فهي العواصم من القواصم.... نكون فعلاً معبرين عن روح الأمة والمجتمع والإنسان؛ في تناسق نظري منهجي. لا غبش ولا ضبابية في التحليل والتفسير.
نحتكم لمرجعية واحدة لشخص واحد في مجتمع واحد. ونلقي بالتنافر المنهجي الصارخ الذي يتخبط فيه الباحثون العلمانيون، فكثيراً ما تكلموا عن مجتمعات لا نعرفها ولا تعبر عنا، لأنهم انطلقوا من مرجعيات مختلفة عن المرجعية الإسلامية التي تشكل البناء المجتمعي وبناء الإنسان في المجتمعات الإسلامية.
نريد مرجعية منطلقة من جوهر الإنسان، من فطرة قلبه وروحه، عقله وفكره، طين ثقيل وروح خفيفة، شوق في الصعود و ثقل يجذب للأرض هذا التوازن العجيب هو الذي ندرسه ونبحثه ، كيف نحقق التوازن والإيجابية ونمشي بتلك الثنائية المزدوجة مشياً منسجما معتدلاً؛ لا أعرج ولا أحول.
. (http://tunisia-cafe.com/vb/showthread.php?t=20654)
نبحث الإنسان في تناسقه وتنوعه، في مصلحته ومبدئه، بين تكاليفه وظروفه، بين هدفه ومعوّقاته، هنا يكمن مجال البحث لإيجاد توازن بين الصعود العالي والنزول الهابط، نريد منزلة الوسطية، وهي خاصية الأمة المحمدية.