sisko education
02-02-2012, 12:22 AM
الموسيقى في الموشّحات الأندلسيّة - بحث شامل الموسيقى في الموشّحات الأندلسيّة
الموسيقى في الموشّحات الأندلسيّة
المقدّمة:
التّوشيح كلمة تتردّد كثيراَ في الدّراسات المتعلقة بالأندلس،حتى إنّ كتب الأدب التي تحدّثت عن آداب العرب في المغرب لا تخلو من دراسة حولها أو تكاد،وذلك منذ كتاب ابن سناء الملك (دار الطراز في عمل الموشحات)الذي يعدّ بحق المصدر الأول الذي استنبطت منه بقية الدّراسات،وهو الذي عرّف فيه الموشّح على أنّه"كلام منظوم على وزن مخصوص"(1)وقد عرّفه مصطفى عوض كريم بقوله:"المحاولة العظمى التي لم تُسبق ولم تُلحق في الخروج على الأوزان التقليدية"(2)أمّا الدكتور إحسان عبّاس فقد عرّفه بقوله:"أوّل ثورة حقّقها الشّعر العربي"(3)فبعد أن اعتادت الأذن العربيّة أوزان الخليل بن أحمد(175)ه وتعمقت تفعيلاتها في أنفسهم جاءت الموشّحات لتنبش تلك الجذور وتحّور خطّ مسيرة الشّعر العربي التي ما برحت في تجدّد مستمر في الأوزان والموسيقى.ولعل الموشّحات قد سُبقت بمحاولات خجولة (4) للتّغيير إلا أنّها بقيت ضمن الإطار العريض للقصيد إلى أن خلقت الموشّحات "فإنّما تمّت هذه الثّورة في أواخر القرن الهجريّ الثّالث ...و اصطنعت فيه[الموشّح]أوزان تختلف عن أوزان البحور العربيّة المعروفة وتنوّعت فيه القوافي إلى حدّ لا يكاد يحصر وارتبطت فيه الأوزان بالموسيقى...واعتمد على وحدة المقطوعة لا وحدة البيت "(5).ولعلّ هذا التّغيير الكبير في الوزن و القافية يضارع تغييراً آخر في الحياة الاجتماعيّة التي سادت شبه الجزيرة الإيبيريّة في ذلك
(1) ص:25
(2) فن التوشيح :ص:66
(3) تاريخ الأدب الأندلسي ،عصر ملوك الطوائف والمرابطين ،ص:244
(4) ينظر:شوقي ضيف :العصر العباسي الأول ،ص: 198المسمطات .وأيضاً ص:253.قول أبي العتاهية :أنا أكبر من العروض.
(5) د.أحمد محمد ويس :الانزياح في التراث النقدي والبلاغي،ص:103.
الوقت فطبيعة الأندلس الخضراء وكثرة البساتين والرّياض فيها ،يوحي الانطلاق بدون حدود في التّجديد . ولعل الامتزاج البشري آنذاك آذن بتبادل ثقافيّ عظيم ، واحتكاك بالشّعوب الأخرى مما فتح نوافذ كثيرة من الحريّة و الحركة "ففي القرن الثّالث الهجري حدث شيء من الاستقرار في الأندلس إذ استتبّ الأمن في داخل البلاد وسادت الهيبة في خارجها ،فجنح النّاس للتّرف ومالوا إلى اللّهو فانتشر الغناء وشاعت الموسيقى وعمّ الطّرب "(6).ولعلّنا نزيد على ذلك ما في الأندلس من مناخ يساعد على نمو الكرمة وهي المادة الرئيسة في صنع الخمور التي تعانقت كؤوسها في مجالس الطّرب والموشّحات ،أضف إلى ذلك كثرة الجواري البشكنسيّات اللّاتي ملأن قصور الأمراء والوزراء و الخاصّة .ولا بدّ هنا من الإشارة إلى قدوم زرياب –تلميذ الموصلي- من الشّرق ومعهده الذي افتتحه يخرّج منه الجواري و القيان ويقدّمهنّ هدايا للمسؤولين (7).
أمّا أوّل واضع للموشّح فهو اسمٌ تكاثفت حوله هالة من الغموض، إذ لا إشارة توحي به، وهذا ما أقرّه القدماء أنفسهم (Cool. أمّا ابن سناء الملك فيقول:"ونعتقد أن مخترعه محمّد بن حمود القبري الضّرير المولود في مدينة قبرة من بلاد الأندلس ،إلا أنّ المحاولات التي قام بها لم تكن محاولات نهائيّة وكان علينا أن ننتظر مجيء الشّاعر عبادة بن ماء السّماء (9) (421 ھ)لنرى الموشّح قد أصبح فنّاً قائماً بذاته"(10) ففي رأي ابن سناء نجد شيئاً من العلميّة :فلا يمكن لأيّة ظاهرة أن تظهر مباشرة بشكلها التّام وبقواعدها الكاملة ،إذ لا بد من تدرّجات وخطوات تسبق تمامها ،ولعلّنا هنا نضع صنيع القبري ضمن تلك الخطوات .
(6)د.عمر الدقاق :ملامح الشعر الأندلسي ،ص:331
(7)ينظر:شوقي ضيف:تاريخ الأدب العربي، عصر الدول والإمارات، الأندلس، ص:51.
(Cool ينظر: د.عمر الدقاق :ملامح الشعر الأندلسي ،ص :336.
(9)هو أبو بكر عبادة بن عبد الله بن ماء السماء ولْد سعد بن عبادة صاحب رسول الله (ص)ويرتفع نسبه إلى الخزرج وهو شاعر مشهور بالموشحات لمع نجمه أثناء حكم العامريين بالأندلس.
(10) ابن سناء الملك :دار الطراز في عمل الموشحات ،ص:12 من مقدمة الركابي.
وهكذا فإنّ كان الأندلسيّون قد أخذوا عن المشارقة جل العلوم والفنون والآداب إلا أنّهم استقلّوا –حسب معظم الدّراسات-بفنّ التّوشيح الذي توقّدت شعلته في الأندلس في عهد الطّوائف "وبعد فإنّ الموشّحات ممّا ترك الأوّل للآخر وسبق بها المتأخّر المتقدّم وأجلب بها أهل المغرب على المشرق وغادر بها الشّعراء من متردّم"(1).
موسيقى اللّغة والكلمة والوزن:
الموشّح فنّ عربيّ أصيل نشأ وازدهر في الأندلس ،ولعلّ مخترعه سعى من خلاله مجارات المشرقيّين في إنتاجاتهم ،ومن المعروف أن الأمويّين بعد دخول الأندلس كانوا يسعون إلى نقل ما في الشّرق إلى الأندلس ،وقد عمّ ذاك التّوجه أمراء الطّوائف والمرابطين فيما بعد وكانوا يجدون في ذلك مجدا ًعلميّاً ثقافيّاً عظيماً .فماذا لو زرعوا بأنفسهم بذور فنّ لم يسبقهم إليه أحد ؟وهو التّوشيح فقد كان "أكبر الوشّاحين يحرصون على إظهار استقلال فن التّوشيح وتميّزه عن فنّ القصيد ولهذا كانوا يعمدون في غالب الأحيان إلى إخراج موشّحاتهم عن العروض التقليديّ بأن يحوّروا في فقراته بإدخال حركة أو كلمة عليه حتّى ينفوا عن أنفسهم وصمة تقليد الشّعراء "(2)
إذاً فالمقياس الأول للموشح أن تكون موسيقاه العروضية خارجة عن موسيقى القصيد وكأن الأندلسيين يسعون من وراء ذلك إلى إثبات أنفسهم وثقافتهم في الغرب ولهذا ولأسباب أخرى تتمثّل بفخر العربي الشّديد بنتاجه الأدبي أراني أميل إلى رفض قول القائل بالعلاقة "بين الشّعر الفرنسي- الإسباني القديم الذي كان ينشده شعراء جنوبي فرانسة المعروفون بشعراء التروبادور وبين فنّ الموشّحات "(3)
(1) ابن سناء الملك :دار الطراز في عمل الموشحات ،ص:23
(2) د.عمر الدقاق :ملامح الشعر الأندلسي ،ص:340-341
(3) المصدر نفسه:ص:332
و خاصّة أنّه قولٌ لا يزال افتراضاً يعوز الإثبات العلمي والتاريخي بل إنّ الوشّاحين آنذاك كانوا يضعون نصب أعينهم اختراع أوزان جديدة لم يقل شعر عليها من قبل وكانوا يلجؤون إلى أعاريض الخليل المهملة –وهي التي نتجت من خلال العملية الرياضيّة التي اتّبعها لاستخراج البحور لكن دون أن ينظم عليها أحد من السابقين –حيث كانوا غالباً ما يجدون فيها ضالتهم و"كان يضعها [أي صانع الموشحات]على أشطار الأشعار غير أن أكثرها على الأعاريض المهملة "(1)
ولم يكتف الوشّاحون بذاك بل حاولوا الخروج عن تلك الأوزان أيضاً بأن يمزجوا الأوزان بعضها ببعض ولهذا "ينطوي فنّ التوشّيح على قدر من الحريّة في استخدام البحر المنشود في عدة حالات من حالاته أي من حيث التّمام والجزء والشّطر في آن واحد داخل الموشّحة الواحدة كأن تأتي أشطارٌ على الكامل التّام وأخرى على مجزوء الكامل أي بتفاوت التفعيلات خلافاً لأوزان الشّعر "(2).وهكذا فلا قانون محدّد في نسج الموشّح ،ولا شيء يحدد ذلك إلا نفسيّة الوشّاح التي تحددها دفقته الشّعورية المرتبطة بموسيقاه الدّاخليّة التي تتوزع على أقسام الموشّح المتمثّلة بقول ابن سناء الملك "وهو يتألّف [أي الموشّح ]في الأكثر من ستّة أقفال وخمسة أبيات ويقال له التّام وفي الأقل من خمسة أقفال وخمسة أبيات ويقال له الأقرع"(3) فتتناوب الأقفال والأبيات في الموشّح الواحد وتتداخل لتغدو مشابهة للوشاح الذي تضعه المرأة .
ولدراسة أقفال الموشّح وأبياته أختار موشّح ابن زهر المشهور (أيّها السّاقي ) لتكون دراسة تطبيقيّة عليه:
أيّها السّاقي إليك المُشتكى قد دعَوناك وإن لم تسمعِ
(1) د.شوقي ضيف: تاريخ الأدب العربي، عصر الدول والإمارات، الأندلس، ص:147.نقلاً عن الذخيرة لابن بسام ،ج :1،ص:469.
(2) د.عمر الدقاق :ملامح الشعر الأندلسي ،ص:344.
(3) دار الطراز،ص:25.
ونديمٍ هِمتُ في غرّتهِ
وبشربِ الرّاح من راحتهِ
كلّما استيقظ من سكرتهِ
جذب الزّق إليه واتّكى وسقاني أربعا ًفي أربعِ
ما لِعيني عشيت بالنّظرِ
أنكرت بعدك ضوء القمرِ
وإذا ما شئت فاسمع خبري
عشيت عيناي من طول البكا وبكى بعضي على بعضي معي
غصن بانٍ مال من حيث استوى
بات من يهواه من فرط الجوى
خفِق الأحشاء مرهون القوى
كلّما فكّر بالبين بكى ويحه يبكي لما لم يقعِ
ليس لي صبرٌ ولا لي جلدُ
يالقومي عَذَلوا واجتهدوا
أنكروا شكوايَ مما أجدُ
مثلُ حالي حقّه أن يشتكي كَمَدَ اليأسِ وذلّ الطّمعِ
كبدي حرّى ودمعي يكفُّ
يعرف الذّنْبَ ولا يعترفُ
أيّها المُعرضُ عمّا أصفُ
قد نما حبّك عندي وزكا لا تقل في الحبّ أنّي مدّعِ(1)
فهذا الموشح يتألف من ستة أقفال و خمسة أبيات فهو بذلك موشح تام.ولو ابتدئ فيه بالأبيات لقلنا أنه أقرع .وعند تأملنا الأقفال نجدها "أجزاء مؤلفة يلزم أن يكون كل قفل
(1) د.عمر الدقاق :ملامح الشعر الأندلسي ،ص:358.
منها متّفقاً مع بقيّتها في وزنها وقوافيها وعدد أجزائها"(1)وهنا نرى أن ابن زهر قد جعل كل قفل من أقفاله على جزءين وكانت كلّها على وزن واحد Sadالرّمل)كما نلاحظ اجتماع أواخرها على الكاف المشبعة ألفا ًفي الأجزاء الأولى وعلى العين المكسورة المشبعة ياءً في
الأجزاء الثّانية.أما الأبيات ف "هي أجزاء مؤلفة أو مركّبة يلزم كل بيت منها أن يكون متّفقاً مع بقيّة أبيات الموشّح في وزنها وعدد أجزائها لا في قوافيها. بل يحسن أن تكون قافية كل بيت منها مخالفة لقوافي البيت الآخر "(2) وهنا نرى ابن زهر قد وضع أبياته على ثلاثة أجزاء وكلّها على وزن موحد والقافية فيها تتّفق بين أجزاء البيت الواحد وتختلف مع قوافي بقيّة الأبيات وهذا ما يستحسن.كما اتّبع أقصر حالات الموشّح من حيث الأجزاء وذلك إذا ما قارناه بقول ابن سناء الملك "وأقلّ ما يتركب منه القفل من جزءين فصاعدا ًإلى ثمانية أجزاء ، وأقل ما يكون البيت ثلاثة أجزاء "(3) كما نلاحظ اعتماده عبارات قصيرة سهلة رشيقة وهذا ما يتماشى مع طبيعة الموشّح المساير دائما ًللّحن والموسيقى ما يتيح له عذوبة وحلاوة في النغم
وهناك عنصر آخر من عناصر الموشّح وهو (الخرجة) التي ولّاها الوشّاحون عظيم اهتمام لأنّها تأتي في نهاية الموشّح ،وأغلب الأحيان تعلق الكلمات الأخيرة في النّفس فترددها على الدّوام وغالباً ما تكون مرِحة راقصة " والخرجة عبارة عن القفل الأخير من الموشّح ،والشّرط فيها أن تكون حجّاجيّة من قبل السّخف ، قزمانيّة من قبل اللّحن ...من ألفاظ العامّة "(4) ولعل امتزاج جو الموشّحات بجوّ اللّهو والشّراب والرّقص جعلهم يعمدون إلى جعل الخرجة كذلك لتتماشى مع حالة السّكرى فهي عادةً تعاد في أثناء العزف لتوحي بنهاية الموشّح ،فلا يمكن أن تكون جافّة بل إنها أكثر ما تكون" على ألسنة الصّبيان والنّسوان والسّكرى والسّكران ،ولا بدّ في البيت الذي قبل الخرجة من :قال ،أو قلتُ،أو قالت ،أو غنّى ،أو غنّيتُ ،أو غنّت "(5) فلها وقعها الخاصّ في النّفس .
(1) ابن سناء الملك :دار الطراز في عمل الموشحات ،ص:25.
(2) المصدر نفسه ،ص:26.
(3) المصدر نفسه ،ص:26.
(4) المصدر نفسه ،ص:31.
(5) المصدر نفسه ،ص:31.
وهي كثيراً ما تكون عاميّةً على لسان فتاة تشكو حبّها وحنينها، كقول ابن بقي(1):
"سافر حبيبي سحر وما ودّعتو يا وحش قلبي في الليل إذا افتكرتو"(2)
وقد يجلونها أحياناً على لسان فتاةٍ أعجميّة ٍفينشدون الخرجة بلغتها مثل :
دانستي كي بوسه بمن داد دها انكسترين
أفار كو آي دست من باش ببوسته ممن شيين"(3)
وكنّا قد أشرنا أنّ الوشّاحين كانوا يسعون إلى مخالفة الأوزان المشهورة.لكن لربّما قادت سليقة الوشّاح بأن ينطق كلماته على واحد من تلك البحور –خاصةً وأنّ الكثير من الوشّاحين كانوا شعراء أيضاً-فكان يسعى إلى مخالفتها ولو يسير بحركةٍ أو كلمةٍ أو ما شابه.كقول ابن بقي :
"صبرت والصّبر شيمة العاني ولم أقل للمطيل هجراني معذبي كفاني
فهذا من المنسرح وأخرجه منه قوله:معذبي كفاني"(4).ومما يُجعل في هذا الباب قول ابن بقي أيضاً:
قالوا ولم يقولوا صوابا
أفنيتَ في المُجُون الشبابا
فقلتُ:لو نويتُ متابا
والكأس في يمين غزالي والصّوت في المثالث عالِ لبدا لي"(5)
وهو مأخوذ من بيت كشاجم (6)حيث يقول:
(1) أبو بكر بن بقي :شاعر أندلسي مشهور بموشحاته توفي سنة(540 ھ) وكان له مجالس أنس مع الشعراء الوشاحين ولا سيما الأعمى لتطيلي
(2) ابن سناء الملك :دار الطراز في عمل الموشحات ،ص:32.
(3) المصدر نفسه،ص:136
(4) المصدر نفسه،ص:36.
(5) المصدر نفسه،ص:33.
(6) أبو الفتح محمود بن الحسين بن شاهق أو شاهك ، الكاتب المعروف بكشاجم ويكنى أبا نصر وهو هندي الأصل أقام بمصر فاستطابها ثم رحل عنها .توفي سنة :(350 ھ).
"يقولون تُبْ والكأس في كف أغيدٍ وصوت المثاني والمثالث عالِ
فقلتُ لهم لو كنتُ أضمرتُ توبةً وأبصرتُ هذا كله لبدا لي"(1)
فلقد أخذ بيته ووضعه خرجةً لموشّحه مستغنياً بذلك عن الأوزان الخليليّة .وكل ذلك كان يفعله الوشّاح عمداً ليجعل موشّحه متناسقاً مع موسيقى النّص الدّاخليّة التي توحي للمرء بالمعاني وإن لم يفكّر مليّاً بالكلمات يمكنه أن يأتي بكلماتٍ عاميّةٍ بسيطة تعتمد على موسيقاها الخاصّة في التّأثير بالعامّة وخصوصاً أن الكثير منهم لم يكونوا يجيدون العربيّة الفصحى ،فغالباً ما يكونون من أبناء الإماء الأعجميّات فغلب على لسانهم اللّحن .
كما كان لبروز الخرجة الأعجميّة فجأة تأثيرٌ كبير على سمع المتلقّي الذي اعتاد من أوّل الموشّح على نغمات الكلمات العربيّة ،وفجأةً يتغيّر اللّحن إلى نغماتٍ أخرى فتشدّ ذهن السّامع لها ، وهذا ما كان يريده الوشّاحون في النّهاية .
ومع ذلك فهناك غير القليل من الموشّحات التي نظمت على أوزان الخليل –كموشّحة ابن زهر السّابقة فهي على الرّمل-وكانت رغم ذلك تُغنّى ،لكنّها تبقى دائماً دون الموشّحات الأخرى التي خرجت عن الأوزان التقليديّة لأن الموشّح المنظوم على تلك البحور من "المرذول المخذول وهو بالمخمّسات أشبه منه بالموشّحات ولا يفعله إلّا الضّعفاء من الشّعراء ومن أراد أن يتشبّه بما لا يعرف ويتشيّع بما لا يملك "(2) كلّ ذلك يؤكّد لنا اتصال الموشّح بالموسيقى أولاً وآخراً في كلماته ،و أوزانه ،ولغته وأنّه ما من قانون يتبعه منشئه إلا حرّية الوزن المقيّد بالأذن الموسيقيّة وبالآلة.
(1) ابن سناء الملك :دار الطراز في عمل الموشحات ،ص:33.
(2) د.عمر الدقاق :ملامح الشعر الأندلسي ،ص:340.
موسيقى التّلحين
ارتبط النّظم منذ القدم بالموسيقى، وحتّى في العصر الجّاهلي كنّا نسمع عن شعراء تُغنّى أشعارهم.وليس بخفيّ ما يُروى عن الأعشى ميمون أنّه كان يوقّع شعره حتى سُميّ (صنّاجة العرب) .واتّسع ذلك الفن في عصر بني أميّة في المشرق حتى عمّت ظواهر الغناء أرجاء الأمّة . ولعلها استقرّت في المدينة ومكّة حيث كانت معظم الجواري تُسبى إليها أثناء الفتح الإسلامي.لذا فليس من البدع أن نربط الموشّحات بالتّلحين ،كيف لا وهو أبوها الذي أوجدها وأنشأها حتّى ازدهرت وانتشرت ووصلت المشرق .
"والموشّحات أيضاً ظاهرةٌ موسيقيّةٌ غنائيّةٌ حملت طابع عصرها من حيث نمط الأغاني ولون الطّرب "(1)فإنْ كان الشّاعر يضع قصيدته دون أن يعلم إنْ كانت ستغنّى أم لا، فهذا الأمر لا يكون لدى الوشّاح الذي يعلم أنّه سينشد موشّحاً سيغنّى ،أو أنّه ينشده ليغنّى, بل لربّما يضع موشّحاً لألحانٍ موجودةٍ سمعها في إحدى الحانات "وممّا يُزيد في تأكيد ذلك طبيعة نظم الموشّحة التي كان القصد من وراء ابتكارها كسر القيود الشّعرية العروضيّة المتداولة ،وإخضاع الشّعر للنّغم بعد أن كان البحر يتحكّم في موضوع اللّحن وكانت تفعيلات البيت تقررّ عدد مقاطعه "(2)،ولعلّنا إذا ما سردنا تاريخ الموسيقى العربيّة وجدنا الموشّحات مختلفةً عن بقيّة المُغَنَّيات ذلك أنّ ما قبلها كان يغنّى لمناسبةٍ ما:كالمآتم أو السّير مع الجمال أو الأفراح وغيرها ،واعتمادها في كثير من الأحايين على صوتٍ واحدٍ وطبقةٍ واحدة يُسار بها من أولّ النّشيد إلى آخره ،بينما لا يكون ذلك في الموشّحة "ويُظنّ أنّه كان لاتساع موجة الغناء والموسيقى منذ زرياب في عهد عبد الرحمن الأوسط ...أثرٌ كبيرٌ في نشوء الموشّحة بقصد الغناء بها مع العازفين وكأنّها تتألّف من فقرتين :فقرةٌ للمنشد وفقرةٌ تردّ بها الجوقة "(3) ولعلّنا هاهنا نستطيع أن نعطي الجوقة غناء الأقفال والمنشد غناء الأبيات ،وهكذا يكون غناء الجوقة على وزنٍ واحدٍ وقافيةٍ واحدة لا تتغيّر وهذا ما يُسمّى في التّلحين ب(اللّازمة).
(1) المصدر السابق، ص:331.
(2) عبد العزيز بن عبد الجليل :الموسيقى الأندلسية والمغربية –فنون الأداء ،ص:48.
(3) د.شوقي ضيف: تاريخ الأدب العربي، عصر الدول والإمارات، الأندلس، ص:46.
أمّا قسم المنشد فهو متغيّرٌ في قافيته لا في وزنه وهو قادر على تغيير أواخر المقاطع،و بإمكانه إدخال كلمات على الأبيات من عنده لكن دون أن يخرج عن المقام المطلوب منه . ولعل الأندلسيين قد لجؤوا إلى الجوقة لتخليص اللّحن من مطبّات يمكن أن يقع المنشد فيها وذلك عندما يصعد بصوته إلى أعلى طبقاته بحيث لا يمكنه رفعه أكثر من ذلك فتتدخّل الجوقة لتبدأ بالجّملة الموسيقيّة التّالية من درجةٍ مناسبةٍ للمقام .ولكن هناك مشاكل أخرى في التّلحين تعترض طريق المغنّي ألا وهي اختلاف البحور المستخدمة عند نظم الكلمات وهذا بالتّالي سيُحدث اختلافاً في درجات التّلحين"فإنّ المغنّي ببعض الآلات يحتاج إلى أن يغيّر شدّ الأوتار عند خروجه من القفل إلى البيت وعند خروجه من البيت إلى القفل"(1) ولهذا كان لا بد من قطعٍ في إنشاد ذلك المغنّي الذي لا يمكن تلافيه إلّا بغناء الجوقة فقرتها ريثما ينهي هو شدّ الأوتار .وإذا ما تساءلنا عن سبب المشاكل اللّحنيّة وجدنا أنّها بسبب "خلوّ الموسيقى الأندلسيّة المتداولة...من ربع المسافة الذي يعدّ بحق أهم ما يميّز الموسيقى الشرقيّة بما فيها الفارسيّة(2) فإنّ الموسيقى الأندلسيّة تقوم على أساس المقام الطبيعي الدّياتونيك الذي لا نكاد نجده بكيفيّةٍ ملازمةٍ ودائمة إلّا في الموسيقى الأوربيّة"(3)فلو أنّ الموسيقى المتّبعة في تلحين الموشّحات هي الموسيقى الشّرقيّة لما نتجت تلك المشاكل لأنّها قادرة على تتبّع طبقات صوت العربيّ كلها ذلك أنّ العرب قادرون على الإتيان بطبقاتٍ تفوق طبقات معظم أبناء الشّعوب الأخرى لأن حروف العربيّة تشمل جميع مراكز النّطق من الحلق إلى الشّفتين وهذا ما لا تستطيع الموسيقى الغربيّة المتّبعة في تلحين الموشّحات تتبّعه لذا فإنّي أرى أنّ ما ذهب إليه عندليب الأندلس الشّاعر لوركا صحيح (4)وذلك في أنّ موسيقى الموشّحات تأثّرت كثيراً بموسيقى الفلامينكو التي سادت في الأندلس عصر ئذٍ وخاصةً في غرناطة لذا فإنْ كان وزن الكلام في الموشّحات ذا أصول عربيّة قحّة فذاك لا نشاهده في أصول العزف والتّلحين .
(1) ابن سناء الملك :دار الطراز في عمل الموشحات ،ص:36.
(2) مي نصف بيمول/سي نصف بيمول.
(3) عبد العزيز بن عبد الجليل :الموسيقى الأندلسية والمغربية –فنون الأداء ،ص:8.
(4) المصدر نفسه،ص:9.
والله أعلم ."كلّ ذلك يؤكّد التّلاحم الوثيق بين التّوشيح والغناء ويرجّح أنّ الموشّحات إنّما ظهرت لتلبية دواعٍ فنّيّة تتصل بالألحان والموسيقى "(1)لذا فالموشّح لم يظهر إلّا ليكمل هرم الموسيقى الذي شارف أن ينتهي، بل إنّ كثيراً من الدّارسين يقول بظهور التّلحين في الموشّحات قبل كلماتها أي أنّها عندما ظهرت إنّما كانت تركّب على الألحان التي وُضعت قبلها "وكثير من القطع الموسيقيّة التي كانت في أصلها مجرّدة من الكلام وهو ما يُسمّى التّوشية قد ضاعت خصوصاً إذا علمنا أن التّدوين الموسيقيّ لم يكن شائعاً بين محترفي الموسيقى العربيّة "(2) وهذا ما نجد آثاره اليوم في مسموعاتنا الموسيقيّة بل إنّ الكثير من النّاس ذوي الآذان الموسيقيّة السّليمة يطربون لسماع الموسيقى بدون كلمات .لكن خلوّ الثّقافة العربيّة من الرّقم الموسيقيّة (النّوتة)واعتمادها في معظمها على التّعليم السّماعي جعلهم يلجؤون إلى تركيب الكلام على تلك الألحان وممّا بيرهن ذلك "لجوء بعض الهواة إلى تعمير الموسيقى بالكلام لأنّ أداءها من دون كلام عرّضها لخطر الضّياع والدّليل على أنّ الكلام لم يقصد به إلّا حفظ النّغمات هو أنّ كل قطعة تُغنّى أولاً بالألفاظ ثمّ تُعزف ثانياً بالآلات فقط وذلك ما يُسمّى الجواب"(3) وممّا يجدر بالدّراسة هو تنبّه أجدادنا إلى ملحوظة دقيقة ألا وهي تزامن الجّملة الكلاميّة وأختها اللّحنيّة إذ لابدّ أن يفصّل اللّحن على قدر الكلام وإذا ما كانت الجملة الكلاميّة أنقص من اللّحنيّة التي لا يمكن تعديلها لجؤوا إلى تعديل الأولى بما يتفق مع مقام الموشّح الغنائيّ ومع معانيه .وهذا ما نراه في كتاب ابن سناء الملك حيث كتب فيه :"والموشّحات تنقسم إلى قسمين :قسمٌ يستقلّ التّلحين به ولا يفتقر إلى ما يعينه عليه وهو أكثرها وقسمٌ لا يحتمله التّلحين ولا يمشي به إلّا بأن يتوكّأ على لفظةٍ لا معنى لها تكون دعامة للتّلحين وعكّازاً للمغنّي كقول ابن بقي :
مَنْ طالبْ ثار قتلى ظبيّات الحدوجِ فتّانات الحجيجِ
فإنّ اللّحن لا يستقيم إلّا أن يقول /لالا/ بين الجزءين الجيمييّن من هذا القفل"(4)
(1) د.عمر الدقاق :ملامح الشعر الأندلسي ،ص:343.
(2) عبد العزيز بن عبد الجليل :الموسيقى الأندلسية والمغربية –فنون الأداء ،ص:48.
(3) المصدر نفسه،ص:48.
(4) دار الطراز في عمل الموشحات ،ص:37/38.
هذا ما سُميّ فيما بعد بالشّغل وأظنّها تسمية أُخذت من شغل الرداء كما هو في تسمية الموشّح من الوشاح لأن الشّغل لا يكون لتأسيس بِنية الثّوب وإنّما لتجميله وزيادة ألقه وهذه وظيفة الشّغل في الموشّح فهو ليس من بنية الجّملة الكلاميّة إنّما يُؤتى به ليزيد جماليّة النّص المُغنّى وليُبعد عنه كل نشاز يمكن أن يظهر أثناء العزف و"الشّغل هو تطعيم أبيات الصّنعة بألفاظ ومقاطع متواضع عليها تُعرف بالتّراتين من قبيل /أنانا ،هانانا،طيري طان ،يالالان /ويُراد بالشّغل إشباع الجّملة اللّحنيّة عندما تمتدّ وتطول وتصبح الكلمات المنظومة قاصرة عن الإيفاء بها واستيعاب فقراتها "(1)
ومن كلّ ذاك نرى أنّ العرب استطاعوا بشاعريّتهم الخاصّة وخيالهم المجنّح وأذنهم الدّقيقة إبداع فنٍّ موسيقيٍّ يجمع الشّرق بالغرب فيكونان به كالجّزء الواحد. وإن كانت الأولكسترات الأوربيّة لم تظهر إلا بعد النّصف الثّاني من القرن الخامس عشر الميلاديّ فإنّ العرب عرفوها عن طريق معزوفاتهم الآليّة المجرّدة من الغناء منذ القرن الثّالث الهجري والتّاسع الميلادي(2)
(1) عبد العزيز بن عبد الجليل :الموسيقى الأندلسية والمغربية –فنون الأداء ،ص:101.
(2) ينظر: المصدر نفسه،ص:48.
الخاتمة:
وهكذا نجد أنّ الموشّح استطاع بيديه أن يجمع شمل الموسيقى :موسيقى الكلمة واللّغة والوزن وموسيقى التّلحين ليُنتج جوّاً من الحضارة يتوافق وترف الحياة الذي كان سائداً شبه الجزيرة الإيبيريّة ،فضربُ العيدان وغناء القيان وتراقص الجواري كلّ ذلك صيّر ليل بنات الأندلس نهاراً يصدح بالألحان .فالموشّحات "هزلٌ كلّه جدّ، وجدٌّ كأنّه هزل، ونظمٌ تشهد العين أنّه نثر ،ونثرٌ يشهد الذّوق أنّه نظم . صار المغرب به مشرقاً لشروقها بأفقه وإشراقها في جوّه وصار أهله بها أغنى النّاس لظفرهم بالكنز الذي ذخرته لهم الأيّام "(1) وقد ظفرنا نحن اليوم بكنز أعظم وهو مخطوطاتٌ خلّفها لنا الأجداد ،ملأت وريقاتَها أقفالُ الموشّحات وأبياتُها وحفظتها السّنون لتأتي إلينا رنّانة كما كانت في الماضي ،وكأن موسيقى هذه الموشّحات تغريدٌ يترجم لنا رقّة ورهافة صانعيها.
(1) . ابن سناء الملك :دار الطراز في عمل الموشحات ،ص:23.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فهرس المصادر والمراجع:
o د.إحسان عبّاس:تاريخ الأدب العربي، عصر الطوائف والمرابطين، دار الثّقافة، بيروت، 1962م.
o د. أحمد محمّد ويس:الانزياح في التّراث النّقدي والبلاغي ،اتّحاد الكتّاب العرب،دمشق،2002م.
o ابن سناء الملك :دار الطّراز في عمل الموشّحات،عني بتحقيقه ونشره جودة الركابي،د.ط،دمشق،1368ھ-1949م.
o د.شوقي ضيف :
1- تاريخ الأدب العربي، عصر الدّول والإمارات، الأندلس، مديريّة الكتب والمطبوعات الجامعيّة، حلب، 1422 ھ—2001
2- شوقي ضيف :تاريخ الأدب العربي ،العصر العبّاسي الأوّل , ط:6،دار المعارف،مصر،القاهرة،د.ت.
o عبد العزيز بن عبد الجليل:الموسيقى الأندلسيّة والمغربيّة , فنون الأداء،د.ط،عالم المعرفة ،1978م
o عمر الدّقّاق:ملامح الشّعر الأندلسي،د.ط،دار الشّرق ، (http://tunisia-cafe.com/vb/forumdisplay.php?f=55) بيروت 1975م.
الموسيقى في الموشّحات الأندلسيّة
المقدّمة:
التّوشيح كلمة تتردّد كثيراَ في الدّراسات المتعلقة بالأندلس،حتى إنّ كتب الأدب التي تحدّثت عن آداب العرب في المغرب لا تخلو من دراسة حولها أو تكاد،وذلك منذ كتاب ابن سناء الملك (دار الطراز في عمل الموشحات)الذي يعدّ بحق المصدر الأول الذي استنبطت منه بقية الدّراسات،وهو الذي عرّف فيه الموشّح على أنّه"كلام منظوم على وزن مخصوص"(1)وقد عرّفه مصطفى عوض كريم بقوله:"المحاولة العظمى التي لم تُسبق ولم تُلحق في الخروج على الأوزان التقليدية"(2)أمّا الدكتور إحسان عبّاس فقد عرّفه بقوله:"أوّل ثورة حقّقها الشّعر العربي"(3)فبعد أن اعتادت الأذن العربيّة أوزان الخليل بن أحمد(175)ه وتعمقت تفعيلاتها في أنفسهم جاءت الموشّحات لتنبش تلك الجذور وتحّور خطّ مسيرة الشّعر العربي التي ما برحت في تجدّد مستمر في الأوزان والموسيقى.ولعل الموشّحات قد سُبقت بمحاولات خجولة (4) للتّغيير إلا أنّها بقيت ضمن الإطار العريض للقصيد إلى أن خلقت الموشّحات "فإنّما تمّت هذه الثّورة في أواخر القرن الهجريّ الثّالث ...و اصطنعت فيه[الموشّح]أوزان تختلف عن أوزان البحور العربيّة المعروفة وتنوّعت فيه القوافي إلى حدّ لا يكاد يحصر وارتبطت فيه الأوزان بالموسيقى...واعتمد على وحدة المقطوعة لا وحدة البيت "(5).ولعلّ هذا التّغيير الكبير في الوزن و القافية يضارع تغييراً آخر في الحياة الاجتماعيّة التي سادت شبه الجزيرة الإيبيريّة في ذلك
(1) ص:25
(2) فن التوشيح :ص:66
(3) تاريخ الأدب الأندلسي ،عصر ملوك الطوائف والمرابطين ،ص:244
(4) ينظر:شوقي ضيف :العصر العباسي الأول ،ص: 198المسمطات .وأيضاً ص:253.قول أبي العتاهية :أنا أكبر من العروض.
(5) د.أحمد محمد ويس :الانزياح في التراث النقدي والبلاغي،ص:103.
الوقت فطبيعة الأندلس الخضراء وكثرة البساتين والرّياض فيها ،يوحي الانطلاق بدون حدود في التّجديد . ولعل الامتزاج البشري آنذاك آذن بتبادل ثقافيّ عظيم ، واحتكاك بالشّعوب الأخرى مما فتح نوافذ كثيرة من الحريّة و الحركة "ففي القرن الثّالث الهجري حدث شيء من الاستقرار في الأندلس إذ استتبّ الأمن في داخل البلاد وسادت الهيبة في خارجها ،فجنح النّاس للتّرف ومالوا إلى اللّهو فانتشر الغناء وشاعت الموسيقى وعمّ الطّرب "(6).ولعلّنا نزيد على ذلك ما في الأندلس من مناخ يساعد على نمو الكرمة وهي المادة الرئيسة في صنع الخمور التي تعانقت كؤوسها في مجالس الطّرب والموشّحات ،أضف إلى ذلك كثرة الجواري البشكنسيّات اللّاتي ملأن قصور الأمراء والوزراء و الخاصّة .ولا بدّ هنا من الإشارة إلى قدوم زرياب –تلميذ الموصلي- من الشّرق ومعهده الذي افتتحه يخرّج منه الجواري و القيان ويقدّمهنّ هدايا للمسؤولين (7).
أمّا أوّل واضع للموشّح فهو اسمٌ تكاثفت حوله هالة من الغموض، إذ لا إشارة توحي به، وهذا ما أقرّه القدماء أنفسهم (Cool. أمّا ابن سناء الملك فيقول:"ونعتقد أن مخترعه محمّد بن حمود القبري الضّرير المولود في مدينة قبرة من بلاد الأندلس ،إلا أنّ المحاولات التي قام بها لم تكن محاولات نهائيّة وكان علينا أن ننتظر مجيء الشّاعر عبادة بن ماء السّماء (9) (421 ھ)لنرى الموشّح قد أصبح فنّاً قائماً بذاته"(10) ففي رأي ابن سناء نجد شيئاً من العلميّة :فلا يمكن لأيّة ظاهرة أن تظهر مباشرة بشكلها التّام وبقواعدها الكاملة ،إذ لا بد من تدرّجات وخطوات تسبق تمامها ،ولعلّنا هنا نضع صنيع القبري ضمن تلك الخطوات .
(6)د.عمر الدقاق :ملامح الشعر الأندلسي ،ص:331
(7)ينظر:شوقي ضيف:تاريخ الأدب العربي، عصر الدول والإمارات، الأندلس، ص:51.
(Cool ينظر: د.عمر الدقاق :ملامح الشعر الأندلسي ،ص :336.
(9)هو أبو بكر عبادة بن عبد الله بن ماء السماء ولْد سعد بن عبادة صاحب رسول الله (ص)ويرتفع نسبه إلى الخزرج وهو شاعر مشهور بالموشحات لمع نجمه أثناء حكم العامريين بالأندلس.
(10) ابن سناء الملك :دار الطراز في عمل الموشحات ،ص:12 من مقدمة الركابي.
وهكذا فإنّ كان الأندلسيّون قد أخذوا عن المشارقة جل العلوم والفنون والآداب إلا أنّهم استقلّوا –حسب معظم الدّراسات-بفنّ التّوشيح الذي توقّدت شعلته في الأندلس في عهد الطّوائف "وبعد فإنّ الموشّحات ممّا ترك الأوّل للآخر وسبق بها المتأخّر المتقدّم وأجلب بها أهل المغرب على المشرق وغادر بها الشّعراء من متردّم"(1).
موسيقى اللّغة والكلمة والوزن:
الموشّح فنّ عربيّ أصيل نشأ وازدهر في الأندلس ،ولعلّ مخترعه سعى من خلاله مجارات المشرقيّين في إنتاجاتهم ،ومن المعروف أن الأمويّين بعد دخول الأندلس كانوا يسعون إلى نقل ما في الشّرق إلى الأندلس ،وقد عمّ ذاك التّوجه أمراء الطّوائف والمرابطين فيما بعد وكانوا يجدون في ذلك مجدا ًعلميّاً ثقافيّاً عظيماً .فماذا لو زرعوا بأنفسهم بذور فنّ لم يسبقهم إليه أحد ؟وهو التّوشيح فقد كان "أكبر الوشّاحين يحرصون على إظهار استقلال فن التّوشيح وتميّزه عن فنّ القصيد ولهذا كانوا يعمدون في غالب الأحيان إلى إخراج موشّحاتهم عن العروض التقليديّ بأن يحوّروا في فقراته بإدخال حركة أو كلمة عليه حتّى ينفوا عن أنفسهم وصمة تقليد الشّعراء "(2)
إذاً فالمقياس الأول للموشح أن تكون موسيقاه العروضية خارجة عن موسيقى القصيد وكأن الأندلسيين يسعون من وراء ذلك إلى إثبات أنفسهم وثقافتهم في الغرب ولهذا ولأسباب أخرى تتمثّل بفخر العربي الشّديد بنتاجه الأدبي أراني أميل إلى رفض قول القائل بالعلاقة "بين الشّعر الفرنسي- الإسباني القديم الذي كان ينشده شعراء جنوبي فرانسة المعروفون بشعراء التروبادور وبين فنّ الموشّحات "(3)
(1) ابن سناء الملك :دار الطراز في عمل الموشحات ،ص:23
(2) د.عمر الدقاق :ملامح الشعر الأندلسي ،ص:340-341
(3) المصدر نفسه:ص:332
و خاصّة أنّه قولٌ لا يزال افتراضاً يعوز الإثبات العلمي والتاريخي بل إنّ الوشّاحين آنذاك كانوا يضعون نصب أعينهم اختراع أوزان جديدة لم يقل شعر عليها من قبل وكانوا يلجؤون إلى أعاريض الخليل المهملة –وهي التي نتجت من خلال العملية الرياضيّة التي اتّبعها لاستخراج البحور لكن دون أن ينظم عليها أحد من السابقين –حيث كانوا غالباً ما يجدون فيها ضالتهم و"كان يضعها [أي صانع الموشحات]على أشطار الأشعار غير أن أكثرها على الأعاريض المهملة "(1)
ولم يكتف الوشّاحون بذاك بل حاولوا الخروج عن تلك الأوزان أيضاً بأن يمزجوا الأوزان بعضها ببعض ولهذا "ينطوي فنّ التوشّيح على قدر من الحريّة في استخدام البحر المنشود في عدة حالات من حالاته أي من حيث التّمام والجزء والشّطر في آن واحد داخل الموشّحة الواحدة كأن تأتي أشطارٌ على الكامل التّام وأخرى على مجزوء الكامل أي بتفاوت التفعيلات خلافاً لأوزان الشّعر "(2).وهكذا فلا قانون محدّد في نسج الموشّح ،ولا شيء يحدد ذلك إلا نفسيّة الوشّاح التي تحددها دفقته الشّعورية المرتبطة بموسيقاه الدّاخليّة التي تتوزع على أقسام الموشّح المتمثّلة بقول ابن سناء الملك "وهو يتألّف [أي الموشّح ]في الأكثر من ستّة أقفال وخمسة أبيات ويقال له التّام وفي الأقل من خمسة أقفال وخمسة أبيات ويقال له الأقرع"(3) فتتناوب الأقفال والأبيات في الموشّح الواحد وتتداخل لتغدو مشابهة للوشاح الذي تضعه المرأة .
ولدراسة أقفال الموشّح وأبياته أختار موشّح ابن زهر المشهور (أيّها السّاقي ) لتكون دراسة تطبيقيّة عليه:
أيّها السّاقي إليك المُشتكى قد دعَوناك وإن لم تسمعِ
(1) د.شوقي ضيف: تاريخ الأدب العربي، عصر الدول والإمارات، الأندلس، ص:147.نقلاً عن الذخيرة لابن بسام ،ج :1،ص:469.
(2) د.عمر الدقاق :ملامح الشعر الأندلسي ،ص:344.
(3) دار الطراز،ص:25.
ونديمٍ هِمتُ في غرّتهِ
وبشربِ الرّاح من راحتهِ
كلّما استيقظ من سكرتهِ
جذب الزّق إليه واتّكى وسقاني أربعا ًفي أربعِ
ما لِعيني عشيت بالنّظرِ
أنكرت بعدك ضوء القمرِ
وإذا ما شئت فاسمع خبري
عشيت عيناي من طول البكا وبكى بعضي على بعضي معي
غصن بانٍ مال من حيث استوى
بات من يهواه من فرط الجوى
خفِق الأحشاء مرهون القوى
كلّما فكّر بالبين بكى ويحه يبكي لما لم يقعِ
ليس لي صبرٌ ولا لي جلدُ
يالقومي عَذَلوا واجتهدوا
أنكروا شكوايَ مما أجدُ
مثلُ حالي حقّه أن يشتكي كَمَدَ اليأسِ وذلّ الطّمعِ
كبدي حرّى ودمعي يكفُّ
يعرف الذّنْبَ ولا يعترفُ
أيّها المُعرضُ عمّا أصفُ
قد نما حبّك عندي وزكا لا تقل في الحبّ أنّي مدّعِ(1)
فهذا الموشح يتألف من ستة أقفال و خمسة أبيات فهو بذلك موشح تام.ولو ابتدئ فيه بالأبيات لقلنا أنه أقرع .وعند تأملنا الأقفال نجدها "أجزاء مؤلفة يلزم أن يكون كل قفل
(1) د.عمر الدقاق :ملامح الشعر الأندلسي ،ص:358.
منها متّفقاً مع بقيّتها في وزنها وقوافيها وعدد أجزائها"(1)وهنا نرى أن ابن زهر قد جعل كل قفل من أقفاله على جزءين وكانت كلّها على وزن واحد Sadالرّمل)كما نلاحظ اجتماع أواخرها على الكاف المشبعة ألفا ًفي الأجزاء الأولى وعلى العين المكسورة المشبعة ياءً في
الأجزاء الثّانية.أما الأبيات ف "هي أجزاء مؤلفة أو مركّبة يلزم كل بيت منها أن يكون متّفقاً مع بقيّة أبيات الموشّح في وزنها وعدد أجزائها لا في قوافيها. بل يحسن أن تكون قافية كل بيت منها مخالفة لقوافي البيت الآخر "(2) وهنا نرى ابن زهر قد وضع أبياته على ثلاثة أجزاء وكلّها على وزن موحد والقافية فيها تتّفق بين أجزاء البيت الواحد وتختلف مع قوافي بقيّة الأبيات وهذا ما يستحسن.كما اتّبع أقصر حالات الموشّح من حيث الأجزاء وذلك إذا ما قارناه بقول ابن سناء الملك "وأقلّ ما يتركب منه القفل من جزءين فصاعدا ًإلى ثمانية أجزاء ، وأقل ما يكون البيت ثلاثة أجزاء "(3) كما نلاحظ اعتماده عبارات قصيرة سهلة رشيقة وهذا ما يتماشى مع طبيعة الموشّح المساير دائما ًللّحن والموسيقى ما يتيح له عذوبة وحلاوة في النغم
وهناك عنصر آخر من عناصر الموشّح وهو (الخرجة) التي ولّاها الوشّاحون عظيم اهتمام لأنّها تأتي في نهاية الموشّح ،وأغلب الأحيان تعلق الكلمات الأخيرة في النّفس فترددها على الدّوام وغالباً ما تكون مرِحة راقصة " والخرجة عبارة عن القفل الأخير من الموشّح ،والشّرط فيها أن تكون حجّاجيّة من قبل السّخف ، قزمانيّة من قبل اللّحن ...من ألفاظ العامّة "(4) ولعل امتزاج جو الموشّحات بجوّ اللّهو والشّراب والرّقص جعلهم يعمدون إلى جعل الخرجة كذلك لتتماشى مع حالة السّكرى فهي عادةً تعاد في أثناء العزف لتوحي بنهاية الموشّح ،فلا يمكن أن تكون جافّة بل إنها أكثر ما تكون" على ألسنة الصّبيان والنّسوان والسّكرى والسّكران ،ولا بدّ في البيت الذي قبل الخرجة من :قال ،أو قلتُ،أو قالت ،أو غنّى ،أو غنّيتُ ،أو غنّت "(5) فلها وقعها الخاصّ في النّفس .
(1) ابن سناء الملك :دار الطراز في عمل الموشحات ،ص:25.
(2) المصدر نفسه ،ص:26.
(3) المصدر نفسه ،ص:26.
(4) المصدر نفسه ،ص:31.
(5) المصدر نفسه ،ص:31.
وهي كثيراً ما تكون عاميّةً على لسان فتاة تشكو حبّها وحنينها، كقول ابن بقي(1):
"سافر حبيبي سحر وما ودّعتو يا وحش قلبي في الليل إذا افتكرتو"(2)
وقد يجلونها أحياناً على لسان فتاةٍ أعجميّة ٍفينشدون الخرجة بلغتها مثل :
دانستي كي بوسه بمن داد دها انكسترين
أفار كو آي دست من باش ببوسته ممن شيين"(3)
وكنّا قد أشرنا أنّ الوشّاحين كانوا يسعون إلى مخالفة الأوزان المشهورة.لكن لربّما قادت سليقة الوشّاح بأن ينطق كلماته على واحد من تلك البحور –خاصةً وأنّ الكثير من الوشّاحين كانوا شعراء أيضاً-فكان يسعى إلى مخالفتها ولو يسير بحركةٍ أو كلمةٍ أو ما شابه.كقول ابن بقي :
"صبرت والصّبر شيمة العاني ولم أقل للمطيل هجراني معذبي كفاني
فهذا من المنسرح وأخرجه منه قوله:معذبي كفاني"(4).ومما يُجعل في هذا الباب قول ابن بقي أيضاً:
قالوا ولم يقولوا صوابا
أفنيتَ في المُجُون الشبابا
فقلتُ:لو نويتُ متابا
والكأس في يمين غزالي والصّوت في المثالث عالِ لبدا لي"(5)
وهو مأخوذ من بيت كشاجم (6)حيث يقول:
(1) أبو بكر بن بقي :شاعر أندلسي مشهور بموشحاته توفي سنة(540 ھ) وكان له مجالس أنس مع الشعراء الوشاحين ولا سيما الأعمى لتطيلي
(2) ابن سناء الملك :دار الطراز في عمل الموشحات ،ص:32.
(3) المصدر نفسه،ص:136
(4) المصدر نفسه،ص:36.
(5) المصدر نفسه،ص:33.
(6) أبو الفتح محمود بن الحسين بن شاهق أو شاهك ، الكاتب المعروف بكشاجم ويكنى أبا نصر وهو هندي الأصل أقام بمصر فاستطابها ثم رحل عنها .توفي سنة :(350 ھ).
"يقولون تُبْ والكأس في كف أغيدٍ وصوت المثاني والمثالث عالِ
فقلتُ لهم لو كنتُ أضمرتُ توبةً وأبصرتُ هذا كله لبدا لي"(1)
فلقد أخذ بيته ووضعه خرجةً لموشّحه مستغنياً بذلك عن الأوزان الخليليّة .وكل ذلك كان يفعله الوشّاح عمداً ليجعل موشّحه متناسقاً مع موسيقى النّص الدّاخليّة التي توحي للمرء بالمعاني وإن لم يفكّر مليّاً بالكلمات يمكنه أن يأتي بكلماتٍ عاميّةٍ بسيطة تعتمد على موسيقاها الخاصّة في التّأثير بالعامّة وخصوصاً أن الكثير منهم لم يكونوا يجيدون العربيّة الفصحى ،فغالباً ما يكونون من أبناء الإماء الأعجميّات فغلب على لسانهم اللّحن .
كما كان لبروز الخرجة الأعجميّة فجأة تأثيرٌ كبير على سمع المتلقّي الذي اعتاد من أوّل الموشّح على نغمات الكلمات العربيّة ،وفجأةً يتغيّر اللّحن إلى نغماتٍ أخرى فتشدّ ذهن السّامع لها ، وهذا ما كان يريده الوشّاحون في النّهاية .
ومع ذلك فهناك غير القليل من الموشّحات التي نظمت على أوزان الخليل –كموشّحة ابن زهر السّابقة فهي على الرّمل-وكانت رغم ذلك تُغنّى ،لكنّها تبقى دائماً دون الموشّحات الأخرى التي خرجت عن الأوزان التقليديّة لأن الموشّح المنظوم على تلك البحور من "المرذول المخذول وهو بالمخمّسات أشبه منه بالموشّحات ولا يفعله إلّا الضّعفاء من الشّعراء ومن أراد أن يتشبّه بما لا يعرف ويتشيّع بما لا يملك "(2) كلّ ذلك يؤكّد لنا اتصال الموشّح بالموسيقى أولاً وآخراً في كلماته ،و أوزانه ،ولغته وأنّه ما من قانون يتبعه منشئه إلا حرّية الوزن المقيّد بالأذن الموسيقيّة وبالآلة.
(1) ابن سناء الملك :دار الطراز في عمل الموشحات ،ص:33.
(2) د.عمر الدقاق :ملامح الشعر الأندلسي ،ص:340.
موسيقى التّلحين
ارتبط النّظم منذ القدم بالموسيقى، وحتّى في العصر الجّاهلي كنّا نسمع عن شعراء تُغنّى أشعارهم.وليس بخفيّ ما يُروى عن الأعشى ميمون أنّه كان يوقّع شعره حتى سُميّ (صنّاجة العرب) .واتّسع ذلك الفن في عصر بني أميّة في المشرق حتى عمّت ظواهر الغناء أرجاء الأمّة . ولعلها استقرّت في المدينة ومكّة حيث كانت معظم الجواري تُسبى إليها أثناء الفتح الإسلامي.لذا فليس من البدع أن نربط الموشّحات بالتّلحين ،كيف لا وهو أبوها الذي أوجدها وأنشأها حتّى ازدهرت وانتشرت ووصلت المشرق .
"والموشّحات أيضاً ظاهرةٌ موسيقيّةٌ غنائيّةٌ حملت طابع عصرها من حيث نمط الأغاني ولون الطّرب "(1)فإنْ كان الشّاعر يضع قصيدته دون أن يعلم إنْ كانت ستغنّى أم لا، فهذا الأمر لا يكون لدى الوشّاح الذي يعلم أنّه سينشد موشّحاً سيغنّى ،أو أنّه ينشده ليغنّى, بل لربّما يضع موشّحاً لألحانٍ موجودةٍ سمعها في إحدى الحانات "وممّا يُزيد في تأكيد ذلك طبيعة نظم الموشّحة التي كان القصد من وراء ابتكارها كسر القيود الشّعرية العروضيّة المتداولة ،وإخضاع الشّعر للنّغم بعد أن كان البحر يتحكّم في موضوع اللّحن وكانت تفعيلات البيت تقررّ عدد مقاطعه "(2)،ولعلّنا إذا ما سردنا تاريخ الموسيقى العربيّة وجدنا الموشّحات مختلفةً عن بقيّة المُغَنَّيات ذلك أنّ ما قبلها كان يغنّى لمناسبةٍ ما:كالمآتم أو السّير مع الجمال أو الأفراح وغيرها ،واعتمادها في كثير من الأحايين على صوتٍ واحدٍ وطبقةٍ واحدة يُسار بها من أولّ النّشيد إلى آخره ،بينما لا يكون ذلك في الموشّحة "ويُظنّ أنّه كان لاتساع موجة الغناء والموسيقى منذ زرياب في عهد عبد الرحمن الأوسط ...أثرٌ كبيرٌ في نشوء الموشّحة بقصد الغناء بها مع العازفين وكأنّها تتألّف من فقرتين :فقرةٌ للمنشد وفقرةٌ تردّ بها الجوقة "(3) ولعلّنا هاهنا نستطيع أن نعطي الجوقة غناء الأقفال والمنشد غناء الأبيات ،وهكذا يكون غناء الجوقة على وزنٍ واحدٍ وقافيةٍ واحدة لا تتغيّر وهذا ما يُسمّى في التّلحين ب(اللّازمة).
(1) المصدر السابق، ص:331.
(2) عبد العزيز بن عبد الجليل :الموسيقى الأندلسية والمغربية –فنون الأداء ،ص:48.
(3) د.شوقي ضيف: تاريخ الأدب العربي، عصر الدول والإمارات، الأندلس، ص:46.
أمّا قسم المنشد فهو متغيّرٌ في قافيته لا في وزنه وهو قادر على تغيير أواخر المقاطع،و بإمكانه إدخال كلمات على الأبيات من عنده لكن دون أن يخرج عن المقام المطلوب منه . ولعل الأندلسيين قد لجؤوا إلى الجوقة لتخليص اللّحن من مطبّات يمكن أن يقع المنشد فيها وذلك عندما يصعد بصوته إلى أعلى طبقاته بحيث لا يمكنه رفعه أكثر من ذلك فتتدخّل الجوقة لتبدأ بالجّملة الموسيقيّة التّالية من درجةٍ مناسبةٍ للمقام .ولكن هناك مشاكل أخرى في التّلحين تعترض طريق المغنّي ألا وهي اختلاف البحور المستخدمة عند نظم الكلمات وهذا بالتّالي سيُحدث اختلافاً في درجات التّلحين"فإنّ المغنّي ببعض الآلات يحتاج إلى أن يغيّر شدّ الأوتار عند خروجه من القفل إلى البيت وعند خروجه من البيت إلى القفل"(1) ولهذا كان لا بد من قطعٍ في إنشاد ذلك المغنّي الذي لا يمكن تلافيه إلّا بغناء الجوقة فقرتها ريثما ينهي هو شدّ الأوتار .وإذا ما تساءلنا عن سبب المشاكل اللّحنيّة وجدنا أنّها بسبب "خلوّ الموسيقى الأندلسيّة المتداولة...من ربع المسافة الذي يعدّ بحق أهم ما يميّز الموسيقى الشرقيّة بما فيها الفارسيّة(2) فإنّ الموسيقى الأندلسيّة تقوم على أساس المقام الطبيعي الدّياتونيك الذي لا نكاد نجده بكيفيّةٍ ملازمةٍ ودائمة إلّا في الموسيقى الأوربيّة"(3)فلو أنّ الموسيقى المتّبعة في تلحين الموشّحات هي الموسيقى الشّرقيّة لما نتجت تلك المشاكل لأنّها قادرة على تتبّع طبقات صوت العربيّ كلها ذلك أنّ العرب قادرون على الإتيان بطبقاتٍ تفوق طبقات معظم أبناء الشّعوب الأخرى لأن حروف العربيّة تشمل جميع مراكز النّطق من الحلق إلى الشّفتين وهذا ما لا تستطيع الموسيقى الغربيّة المتّبعة في تلحين الموشّحات تتبّعه لذا فإنّي أرى أنّ ما ذهب إليه عندليب الأندلس الشّاعر لوركا صحيح (4)وذلك في أنّ موسيقى الموشّحات تأثّرت كثيراً بموسيقى الفلامينكو التي سادت في الأندلس عصر ئذٍ وخاصةً في غرناطة لذا فإنْ كان وزن الكلام في الموشّحات ذا أصول عربيّة قحّة فذاك لا نشاهده في أصول العزف والتّلحين .
(1) ابن سناء الملك :دار الطراز في عمل الموشحات ،ص:36.
(2) مي نصف بيمول/سي نصف بيمول.
(3) عبد العزيز بن عبد الجليل :الموسيقى الأندلسية والمغربية –فنون الأداء ،ص:8.
(4) المصدر نفسه،ص:9.
والله أعلم ."كلّ ذلك يؤكّد التّلاحم الوثيق بين التّوشيح والغناء ويرجّح أنّ الموشّحات إنّما ظهرت لتلبية دواعٍ فنّيّة تتصل بالألحان والموسيقى "(1)لذا فالموشّح لم يظهر إلّا ليكمل هرم الموسيقى الذي شارف أن ينتهي، بل إنّ كثيراً من الدّارسين يقول بظهور التّلحين في الموشّحات قبل كلماتها أي أنّها عندما ظهرت إنّما كانت تركّب على الألحان التي وُضعت قبلها "وكثير من القطع الموسيقيّة التي كانت في أصلها مجرّدة من الكلام وهو ما يُسمّى التّوشية قد ضاعت خصوصاً إذا علمنا أن التّدوين الموسيقيّ لم يكن شائعاً بين محترفي الموسيقى العربيّة "(2) وهذا ما نجد آثاره اليوم في مسموعاتنا الموسيقيّة بل إنّ الكثير من النّاس ذوي الآذان الموسيقيّة السّليمة يطربون لسماع الموسيقى بدون كلمات .لكن خلوّ الثّقافة العربيّة من الرّقم الموسيقيّة (النّوتة)واعتمادها في معظمها على التّعليم السّماعي جعلهم يلجؤون إلى تركيب الكلام على تلك الألحان وممّا بيرهن ذلك "لجوء بعض الهواة إلى تعمير الموسيقى بالكلام لأنّ أداءها من دون كلام عرّضها لخطر الضّياع والدّليل على أنّ الكلام لم يقصد به إلّا حفظ النّغمات هو أنّ كل قطعة تُغنّى أولاً بالألفاظ ثمّ تُعزف ثانياً بالآلات فقط وذلك ما يُسمّى الجواب"(3) وممّا يجدر بالدّراسة هو تنبّه أجدادنا إلى ملحوظة دقيقة ألا وهي تزامن الجّملة الكلاميّة وأختها اللّحنيّة إذ لابدّ أن يفصّل اللّحن على قدر الكلام وإذا ما كانت الجملة الكلاميّة أنقص من اللّحنيّة التي لا يمكن تعديلها لجؤوا إلى تعديل الأولى بما يتفق مع مقام الموشّح الغنائيّ ومع معانيه .وهذا ما نراه في كتاب ابن سناء الملك حيث كتب فيه :"والموشّحات تنقسم إلى قسمين :قسمٌ يستقلّ التّلحين به ولا يفتقر إلى ما يعينه عليه وهو أكثرها وقسمٌ لا يحتمله التّلحين ولا يمشي به إلّا بأن يتوكّأ على لفظةٍ لا معنى لها تكون دعامة للتّلحين وعكّازاً للمغنّي كقول ابن بقي :
مَنْ طالبْ ثار قتلى ظبيّات الحدوجِ فتّانات الحجيجِ
فإنّ اللّحن لا يستقيم إلّا أن يقول /لالا/ بين الجزءين الجيمييّن من هذا القفل"(4)
(1) د.عمر الدقاق :ملامح الشعر الأندلسي ،ص:343.
(2) عبد العزيز بن عبد الجليل :الموسيقى الأندلسية والمغربية –فنون الأداء ،ص:48.
(3) المصدر نفسه،ص:48.
(4) دار الطراز في عمل الموشحات ،ص:37/38.
هذا ما سُميّ فيما بعد بالشّغل وأظنّها تسمية أُخذت من شغل الرداء كما هو في تسمية الموشّح من الوشاح لأن الشّغل لا يكون لتأسيس بِنية الثّوب وإنّما لتجميله وزيادة ألقه وهذه وظيفة الشّغل في الموشّح فهو ليس من بنية الجّملة الكلاميّة إنّما يُؤتى به ليزيد جماليّة النّص المُغنّى وليُبعد عنه كل نشاز يمكن أن يظهر أثناء العزف و"الشّغل هو تطعيم أبيات الصّنعة بألفاظ ومقاطع متواضع عليها تُعرف بالتّراتين من قبيل /أنانا ،هانانا،طيري طان ،يالالان /ويُراد بالشّغل إشباع الجّملة اللّحنيّة عندما تمتدّ وتطول وتصبح الكلمات المنظومة قاصرة عن الإيفاء بها واستيعاب فقراتها "(1)
ومن كلّ ذاك نرى أنّ العرب استطاعوا بشاعريّتهم الخاصّة وخيالهم المجنّح وأذنهم الدّقيقة إبداع فنٍّ موسيقيٍّ يجمع الشّرق بالغرب فيكونان به كالجّزء الواحد. وإن كانت الأولكسترات الأوربيّة لم تظهر إلا بعد النّصف الثّاني من القرن الخامس عشر الميلاديّ فإنّ العرب عرفوها عن طريق معزوفاتهم الآليّة المجرّدة من الغناء منذ القرن الثّالث الهجري والتّاسع الميلادي(2)
(1) عبد العزيز بن عبد الجليل :الموسيقى الأندلسية والمغربية –فنون الأداء ،ص:101.
(2) ينظر: المصدر نفسه،ص:48.
الخاتمة:
وهكذا نجد أنّ الموشّح استطاع بيديه أن يجمع شمل الموسيقى :موسيقى الكلمة واللّغة والوزن وموسيقى التّلحين ليُنتج جوّاً من الحضارة يتوافق وترف الحياة الذي كان سائداً شبه الجزيرة الإيبيريّة ،فضربُ العيدان وغناء القيان وتراقص الجواري كلّ ذلك صيّر ليل بنات الأندلس نهاراً يصدح بالألحان .فالموشّحات "هزلٌ كلّه جدّ، وجدٌّ كأنّه هزل، ونظمٌ تشهد العين أنّه نثر ،ونثرٌ يشهد الذّوق أنّه نظم . صار المغرب به مشرقاً لشروقها بأفقه وإشراقها في جوّه وصار أهله بها أغنى النّاس لظفرهم بالكنز الذي ذخرته لهم الأيّام "(1) وقد ظفرنا نحن اليوم بكنز أعظم وهو مخطوطاتٌ خلّفها لنا الأجداد ،ملأت وريقاتَها أقفالُ الموشّحات وأبياتُها وحفظتها السّنون لتأتي إلينا رنّانة كما كانت في الماضي ،وكأن موسيقى هذه الموشّحات تغريدٌ يترجم لنا رقّة ورهافة صانعيها.
(1) . ابن سناء الملك :دار الطراز في عمل الموشحات ،ص:23.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فهرس المصادر والمراجع:
o د.إحسان عبّاس:تاريخ الأدب العربي، عصر الطوائف والمرابطين، دار الثّقافة، بيروت، 1962م.
o د. أحمد محمّد ويس:الانزياح في التّراث النّقدي والبلاغي ،اتّحاد الكتّاب العرب،دمشق،2002م.
o ابن سناء الملك :دار الطّراز في عمل الموشّحات،عني بتحقيقه ونشره جودة الركابي،د.ط،دمشق،1368ھ-1949م.
o د.شوقي ضيف :
1- تاريخ الأدب العربي، عصر الدّول والإمارات، الأندلس، مديريّة الكتب والمطبوعات الجامعيّة، حلب، 1422 ھ—2001
2- شوقي ضيف :تاريخ الأدب العربي ،العصر العبّاسي الأوّل , ط:6،دار المعارف،مصر،القاهرة،د.ت.
o عبد العزيز بن عبد الجليل:الموسيقى الأندلسيّة والمغربيّة , فنون الأداء،د.ط،عالم المعرفة ،1978م
o عمر الدّقّاق:ملامح الشّعر الأندلسي،د.ط،دار الشّرق ، (http://tunisia-cafe.com/vb/forumdisplay.php?f=55) بيروت 1975م.